خطب أبي يعلى الزواوي
بقلم: أبو القاسم سعد الله-
كتب أحمد توفيق المدني سنة 1931 متحدثا عن الخطابة عند الشيخ أبي يعلى الزواوي، فقال: (أخرج الخطب المنبرية من صيغتها التقليدية العتيقة إلى صيغة قومية مفيدة. فهو يخطب للعامة ارتجالا في مواضيع إسلامية محلية مفيدة. ويعتبر خطابه درسا بحيث لا ينتهي منه إلا وقد اعتقد أن كل من بمسجد سيدي رمضان من رجال ونسوة قد فهموا جيد الفهم خطابه، وأشهد أنه قد كان لتلك الخطب الأثر الفعال في النفوس) (1).
وفي سنة 1343 (1924) أصدر أبو يعلى كتيبا تحت عنوان (الخطب)، وهو أول كتاب يطبع في موضوعه على ما نعرف (2). وقد بدأه بديباجة مسجعة وطويلة هكذا: (الحمد لله الذي أنطق الخطباء بالكلام الفصيح، وسهل لهم الارتجال بالكلام الصريح ... أما بعد، فإن جل أو كل أحوالنا، معشر المسلمين، طرأ عليها التغير والفساد، في مشارق الأرض ومغاربها وسائر البلاد، في الماديات والأدبيات، إذ قلت الحسنات وكثرت السيئات، ومن جملة ذلك الخطابة في مساجد الجمعات، فقد توقفت كسائر الحركات، وأسباب ذلك لا تخفى على العارفين، الملمين بأحوال المسلمين، إذ ترجع إلى الترقي والتدلي في أدوار أحوال الأمة وأطوارها )...
ثم واصل الزواوي حديثه على ذلك النحو إلى أن وصل إلى كون أدوار الفصاحة أيضا قد تدرجت حتى انتهت إلى القرآن الكريم كمعجزة. وحدثنا الزواوي عن تعيينه خطيبا في جامع سيدي رمضان، واعتبر ذلك من منن الله عليه، وعمل بعد ذلك على تجديد طريقة السلف في الخطابة، فالتزم أن تكون الخطبة من إنشائه هو، لا من إنشاء الآخرين، مثل الإدارة الفرنسية (؟). واعتبر ذلك أيضا عودة للأصول إذ الأصل هو أن تكون الخطبة من إنشاء الخطيب ودون ورقة، أي ارتجالا. ولا ندري كيف رضيت الإدارة بهذه الطريقة وعلى حساب ماذا (3). وقضى الزواوي على ذلك النحو سنة ثم بدا له أن يدوون خطبه (لكيلا يقال نقلها عن الغير وحفظها وسرقها، (وأنها) ليست
جأشهم، وهم لا ينقلون من ورقة، خلافا لخطباء الجزائر (وكان في ذلك يعزض بهم وبالإدارة التي تقيدهم). وذكر أنه حضر بعض خطباء مصر والشام، ومنهم خالد النقشبندي، في الجامع الأموي، وعابد بن حسين في مصر. واجتمع بالأول على طعام الغداء. ومن رأى الزواوي أن المشارقة (وهو يعرفهم جيدا) بقوا على تقدمهم في الحياة الفكرية بينما تأخر المغاربة منذ سقوط العواصم العلمية كالأندلس والقيروان وبجاية وتلمسان. ورأى أن ذلك قد أدى إلى التصوف وسيادة المتصوفة، (فاقتنعنا بالزهد في العلوم وتصوفنا، فلا مطبعة ولا جمع ولا جماعة ولا مدرسة ... إلا المتصوفة). وقد حول هؤلاء المدارس إلى قباب وفتحوا الصناديق لجمع المال (4).
انتصر الزواوي للغة العربية في الخطابة وميز بين الخطب الاجتماعية والدينية والخطب السياسية. ولم يقبل أن تكون الخطابة المنبرية بغير العربية واعتبر أن الخطابة بغيرها لغو من الكلام. وقال: يجب تجنب رطانة ولهجات أهل المغرب والعجم واللهجات المحلية والتغني والتصنع والعجمة الزواوية: (قد طرحت بقدر الإمكان لهجة عجمتنا الزواوة وتغني حضر الجزائر المدينة) (5). واعتبر الزواوي الدعاء للسلاطين لغوا أيضا وكذلك الكلام غير المشروع والدعاء بالشر، وكل ما هو خارج عن الخطبة. أما الخطب السياسية فهي تلك التي يلقيها الرؤساء والزعماء والوزراء وتنشرها الجرائد. ورأى أن العبرة في هذا النوع من الخطب هي في (القائل والمقول) وليس في الفصاحة والبلاغة. والصحيح أن البيان له دور كبير في الخطب السياسية أيضا، ولا يستطيع الخطيب السياسي أن يكون مؤثرا إلا إذا كان فصيح اللسان نافذ البيان.
وموضوعات الخطبة عند الزواوي تدور حول الأمراض الاجتماعية والجهل وفساد الأخلاق وفساد التربية والتعليم، والحاجة إلى الإصلاح، إضافة إلى موضوعات تقليدية كالمولد النبوي والهجرة ومواقف السلف. ثم الوعظ والإرشاد، وأحاديث عن الزكاة والصوم والحج والتعليم والمعاملات الأخرى. واعتذر في كتابه عن عدم ذكر كل الخطب التي كان يلقيها لاستحالة جمع نحو الخمسين خطبة كانت هي نفسها تتغير بحسب الحال والعوارض، واكتفى بذكر نماذج من خطبه في مواضيع شتى. وهي في شكل (مختصرات)، وقد كتبت في عبارات مسجعة نظيفة تتخللها أحاديث وآيات (6). واعترف الزواوي بأنه لم يجرب الخطابة من قبل إلا مرة واحدة عندما ارتجل خطبة الجمعة في الشام زمن حكم جمال باشا. ولكنه بدأ الخطابة بعد رجوعه إلى الجزائر وتعيينه إماما لجامع سيدي رمضان، كما ذكرنا (7).
الهوامش:
(1) أحمد توفيق المدني (كتاب الجزائر)، ص 94. ومسجد سيدي رمضان بالعاصمة هو المسجد الذي كان أبو يعلى يخطب فيه.
(2) طبع الجزائر، باستيد - جوردان - كاربونيل، 1343 هـ، 78 صفحة.
(3) هذا الخروج عن مألوف الإدارة وعدم اتخاذ الإدارة أي شيء يخالفه يدل على أن هناك موقفا خاصا منه. ونحن نعلم أن الزواوي عمل موظفا في القنصلية الفرنسية بدمشق قبل الحرب العالمية الأولى، ولعله كان أيضا على صلة بقنصلية فرنسا في مصر خلال الحرب حيث قضى خمس سنوات.
(4) رأى أبي يعلى على العموم صحيح في وصف الظاهرة، ولكنه أهمل أسبابها، ولا سيما في العهد الاستعماري الذي قضى على التعليم وشجع التصوف الكاذب. وقد أفادته إقامته في المشرق على عقد هذه المقارنة، وربما سمع بعض هذه الأفكار من الفرنسيين أيضا.
(5) الخطب، ص 23. والظاهر أنه يقصد بالعجمة النبرات الصوتية الخاصة بالنطق الزواوي ولهجة حضر العاصمة.
(6) صحح الكتاب الشيخ عبد الرحمن الجيلالي الذي كان خادما (للعلم الشريف بالجامع الأعظم بالجزائر). فهل كان الشيخ الجيلالي أحد ملازمي الزواوي وأتباعه، أو كان يعمل مصححا في المطبعة المذكورة بالإضافة إلى عمله في الجامع؟.
(7) واضح من كلام الزواوي عن الأتراك وحكم جمال باشا في سورية أنه من المؤمنين بالحركة العربية التي دعت إلى استقلال العرب عن الترك. انظر حياته.