العمودي شهيد الأدب والصحافة
بقلم: بلقاسم بن عبد الله-
قليلة هي المعلومات والكتابات عن الشاعر والصحفي والمترجم "محمد الأمين العمودي"، لهذا نضطر إلى الاستعانة والاستفادة من دراسة هامة للأستاذ: حمزة بوكوشة، منشورة بالعدد السادس من مجلة الثقافة لشهر جانفي 1972 ودراسة مطولة للأديب: أحمد بن ذياب بالعدد 86 من نفس المجلة، بتاريخ مارس 1985 وكذلك من الكتاب القيم الذي ألفه شاعرنا محمد الأخضر عبد القادر السائحي بعنوان: محمد الأمين العمودي: الشخصية المتعددة الجوانب، وقد ظهرت طبعته الثالثة سنة 2006 في حدود 130 صفحة من الحجم المتوسط عن دار الهدى للطباعة والنشر والتوزيع.
ولد محمد الأمين العمودي سنة 1890 بواد سوف بالجنوب الجزائري، تعلم مبادئ العربية والدين قبل أن يلتحق بالمدرسة الابتدائية بمدينته، وفي السادسة عشرة من عمره التحق بمدرسة قسنطينة الفرنسية الإسلامية، وهي ثالث ثلاثة بعد مدرستي الجزائر وتلمسان لتخريج القضاة والمترجمين ورجال المحاكم الشرعية وأعوان الإدارة الأهلية. اشتغل بعد ذلك في عدة وظائف من بينها: كاتب عدالة في بلدة فج مزالة، ثم مساعد الترجمان الشرعي ببلدة برلين، وادي الماء حاليا، ثم وكيل شرعي بمدينة بسكرة، قبل أن يتولى نفس المنصب بالجزائر العاصمة.
تولى مهمة أمين عام لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين في السنوات الخمس الأولى من تأسيسها، أي من 1931 إلى 1936، وقد ساعده تمكنه من اللغتين العربية والفرنسية. كما ترأس جمعية شباب المؤتمر الإسلامي الجزائري التي أسسها جماعة من الشباب لتحافظ على مبادئ المؤتمر الإسلامي ومنهم الشيخ الفضيل الورتلاني.
قام محمد الأمين العمودي بدوره الفعال في ميدان الصحافة، فقد أصدر جريدة: الدفاع باللغة الفرنسية، وجريدة الجحيم باللغة العربية، وكتب في أغلب الصحف الوطنية الأخرى مثل: النجاح في عهدها الأول خلال العشرينات، وجريدة: الإقدام المزدوجة اللغة، ثم جريدة الجزائر الجمهورية باللغة الفرنسية، ولم تكن صحف الجزائر فيما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية تخلو من كتابات العمودي.
ظهرت قصائده الأولى في الجزء الثاني من كتاب: شعراء الجزائر في الوقت الحاضر للمرحوم الهادي السنوسي الزاهري. وقد صدر سنة 1927 بمطبعة النهضة بتونس. وكان معظم شعره ذاتيا تطغى عليه نغمة الحزن واليأس في مرحلة شبابه، يعكس بعمق مدى معاناته مع الفقر والبؤس. وغالبا ما كان ينشر كتاباته بالصحف المذكورة بأسماء مستعارة مثل: سمهري، و ديك الجن، و جساس.
وقد ظل العمودي ناقما على الإدارة الفرنسية الاستعمارية منذ أن كان يتعلم في مدرسة قسنطينة حيث يبرز ذلك بكل وضوح في إحدى قصائده:
في قسنطينة قضيت شبابي في عناء ومحنة وعـذاب
وخطوب تحل بعد خطـوب ومصاب يجيء بعد مصاب
عفت أحوال كل مدرسة مذ قل مالي وخانني أصحابي.
ويستوحي شاعرنا قصائده على العموم من وضعيته المزرية ونقمته على الواقع الإجتماعي، وغالبا ما يميل إلى حلو الدعابة والسخرية، كما تبرهن على ذاك الأبيات التي يعالج فيها مشكلة الزواج بالأجنبيات، وقد كتبها يومئذ في طبيب مسلم متزوج بفرنسية وله منها غلام، حيث يقول:
حيي الطبيب ولا تنسى قرينته هو سليمان والمدام بلقـيـس
له غلام أطـال الله مـدتـه تنازع العرب فيه والفرنسيـس
لا تعذلوه إذا خـان أمـتـه فنصفه صالح والنصف موريس
وعن هذه الأبيات البليغة العميقة. يقول الأديب: احمد بن ذياب في دراسة مطولة نشرها بمحلة الثقافة في عددها 86 بتاريخ مارس 1985 حرفيا: انطلقت هذه الأبيات كالقنبلة الموقوتة في كل الأوساط لسلاستها وصدقها وروعة تصوير ماسي أبناء الجزائر الذين يخدعهم المظهر الحضاري في الأوروبية، أو تحدو بهم الأطماع في جاه و مال أو ترقية. ولعل الروعة في قوله: لا تعذلوه إذا خان أمته أو ملته. لأن الذنب إنما ذنب الجزائري المخدوع الذي يعلم أن الإسلام يقول: الولد يتبع أباه في الدين و في النسب. والقانون الفرنسي يقول في المستعمرات: إنما يتبع الجانب الأقوى وهو هنا يعني الأم الأوروبية. وكانت هذه الأبيات أشد تأثيرا من أية فتوى يصدرها فقيه. وسدت أبوابا كانت مفتوحة للتجنس مشجعة على الإيغال في الاندماج في العنصر الأجنبي.
و معظم إنتاجه الشعري مغمور، يحتاج إلى جهود الباحثين لجمعه و طبعه، وما هو متوفر حاليا تم جمع مختارات منه في حوالي عشرين صفحة، من طرف الأستاذ محمد الأخضر عبد القادر السائحي في كتابه الهام عن محمد الأمين العمودي.
أما كتاباته النثرية كان ينشرها في صحف تلك المرحلة، مثل: النجاح، والإصلاح، والدفاع، و المنتقد، والشهاب. كما يشير الدكتور محمد ناصر في كتابه القيم عن المقالة الصحفية الجزائرية. ورغم ما قيل ويقال فإن كتاباته النثرية يغلب عليها الطابع الوطني والإسلامي. حيث يقول العمودي عن نفسه: أما حياتي فحياة كل مسلم جزائري، حياة بلا غاية ولا أمل، حياة من لا يأسف على أمسه، ولا يغبط بيومه ولا يثق بغده.
ومثل معظم أدباء تلك المرحلة، تعرض محمد الأمين العمودي لشتى أنواع المضايقة والتعذيب بالسجن الاستعماري الذي دخله مع بداية الحرب العالمية الثانية في سبتمبر 1939 ثم سرعان ما عرض عليه إطلاق سراحه بشرط أن يعتزل السياسة، فقبل وقتئذ بحجة برر بها موقفه، وهو أن الظرف وقت حرب وليس زمن مساومات سياسية، وأن الاجتماعات ممنوعة. ثم انتهت الحرب ووقعت أحداث 08 ماي 1945 التي عجلت باندلاع شرارة الثورة المجيدة في فاتح نوفمبر 1954.
حينئذ أندمج أديبنا الصحفي في صفوف الثورة رغم كبر سنه، وغالبا ما كان يعمل في الخفاء، حتى إذا جاء يوم 10 أكتوبر 1957 اغتالته اليد الحمراء الاستعمارية، وعثر عليه مرميا بجانب السكة الحديدية قرب البويرة، لم ترحم شيخوخته وقد ناهز السبعين، ولم تشأ أن تقتله علانية، لأنها كانت تريد أن تتحصل منه على بعض الأسرار الهامة، خاصة بعد أن قام بتحرير وترجمة التقرير الذي قدم في ملف القضية الجزائرية للأمم المتحدة عن التعذيب الجهنمي والأساليب الوحشية التي كانت السلطات الفرنسية تستعملها ضد الشعب الجزائري. وهكذا لم يتورع المستعمر عن ملاحقة الأدباء الوطنيين والتنكيل به وقتلهم، وما استشهاد كل من: أحمد رضا حوحو، والربيع بوشامة، ومحمد الأمين العمودي، ومولود فرعون.. وغيرهم من ذوي الأقلام النيرة على يد الغدر الاستعماري، إلا صورة جلية عن مدى بشاعة الاضطهاد لرافعي شعلة النضال بالحروف النيرة والكلمة الملتهبة.