حاجة الجزائر -اليوم- إلى المنهج الباديسي
بقلم: د. عبد الرزاق قسوم-
الصَّيْرُورَة والتاريخ: لا يمكن لأي وطني جزائري عاقل أن يتصور –في التاريخ- جزائر بغير المنهج الإصلاح التغييري، كما وضع أسسه ورسم معالمه عبد الحميد ابن باديس وصحبه، فمثل هذا التصور – لو تحقق – سيكون تاريخا للشجر والحجر، وليس تاريخا للبشر، إنَّه سيكون بمثابة التطور المادي الذي بشر به صاحب نظرية النشوء والتطور «تشارلز داروين»، كما أنَّ جزائر خالية من المنهج الإصلاحي الباديسي هي جزائر مثل الجزر الخاليات "خلاف الأنيس وحوشا يبابا" فالمنهج الإصلاحي التغييري الباديسي هو الديمة المثقلة بالغيث التي ساقها الله إلى أرض قاحلة جرداء فحولت جدبها إلى خصوبة، ويبسها إلى رطوبة، ومرارة حياتها إلى عذوبة، كما أنبتت فيها الإنسان الموعود الباني للوجود المفقود.
فعندما استيأس الجزائريون في ظلام ليل الاستعمار الحالك، وظنوا أنَّهم قد فقدوا جاء البشير الباديسي فوُلِدوا، وتحول اليأس إلى أمل، والخمود إلى عمل، فازدهرت الحقول، وأشرقت العقول، وحظي المنهج الإصلاحي بالترحاب والقَبول.
وما ظنك بمنهج حامل للقرآن، مشفوع باللسان والبيان، هدفه الإنسان بدء بإصلاح عقله والجنان، بعد أن عشش الظلم والظلال في النفوس، وتسللت الخرافات والأباطيل إلى عقل الرئيس والمرؤوس، وحكم البلاد المنجوس بتواطئ من التعيس والمنحوس.
جاء المنهج الإصلاحي الباديسي مشخصا للداء، شاملا لكل همٍّ، ومسببا لكل بلاء وألم، فنفح في الإنسان بتوعيته مما دهاه فعم، ومما أصابه من خَطْبٍ قد ادلهم، فكان التشييد والبناء، والصفاء والإخاء، والوطنية والإباء، والإعلاء والإهداء، لعهد الرخاء والهناء.
2- دعائم المنهج الباديسي:
ما كان للمنهج الباديسي وقد حل بأرض تشابكت فيها شتى أنواع التحديات الداخلية والخارجية؛ ما كان له أن يثبت، وينفذ إلى صميم الحياة الجزائرية، لو لم يتسم بجملة من العوامل الإيجابية المساعدة على تحقيق النجاعة في العلاج، وأهمها:
1- طريقة الملء بعد الإخلاء، أو مايسميه علماؤنا بالتخلية والتحلية، فقد عمل المنهج الباديسي على التصدي
لمحاولات الإذابة في الآخر، بعملية إثبات الذات الحضارية المتميزة بشعار «الإسلام ديننا، والعربية لغتنا، والجزائر وطننا».
2- الإحياء بطريقة منهجية بإعطاء المثل في حسن المواطنة، بتنشئة الجزائري الواعي لجزائريته، المؤمن بمستقبل جزائره، الباذل للنفس والنفيس في سبيل تحقيق الهدف الأسمى، وهو استعادةالدولة الجزائرية – باسم الأمة – بعد إزالة كل العقبات؛ العقدية، والثقافية، والسياسية، وحتى الاقتصادية.
3- العناية بالريادة في قيادة الأمة، منبها إلى أنَّ الزعامة الروحية والقيادة الحزبية هي التي لا تكذب أهلها، وفي سبيل تدعيم ذلك رفع شعار: «الحق فوق كل أحد، والوطن قبل كل شيء»، وما ذلك إلاَّ لأنَّ الرائد الحقيقي هو الذي لا يحني الجبين إلاَّ لله، فيعزف عن كل المغريات، ومآثر الجاه، وينذر نفسه لخدمة العلم، والعمل من أجل الوطن.
4- تقسيم الريادة إلى مستويين: المستوى السياسي الذي يقوم على دعامة إسلامية، منها يستوحي أهم مكوناته، وهي مفهوم السلطة، وما تبعها من مفاهيم الشورى، والعدل، والسيادة، والوطنية، ضمن التصور الإسلامي.
وأمَّا المستوى الثاني للريادة فهو يقوم على الدعامة المحلية، ونعني بها الدعامة الجزائرية، وفقا لمتطلبات إحيائها، وتخليصها من الأخطبوط الاستعماري الذي ناء بكلكله عليها.
ولقد ضربت جمعية العلماء بتنظيمها أروع الأمثلة في تجسيد الدعامتين.
5- الشمولية في المنهج؛ لقد نبع المنهج من أعراض المأساة الجزائرية، التي تجلت في مظاهر شتى؛ بعضها يتمثل في الشتات التنظيمي للأحزاب، والجمعيات والزوايا، فكان لابد من التصدي لذلك بتبني طريقتين هما؛ الصعيد الخلقي، والصعيد العقلي.
فأمَّا الصعيد الخلقي فيتمثل في محاربة كل ما يفسد على الناس عقولهم، أو يضيع أموالهم، كالخمر، والميسر، والفجور. وعلى الصعيد العقلي؛ محاربة كل ما يضعف العقل الفردي والجماعي كالجهل، والجمود، والدجل، والخرافة، أي كل أنواع التضليل باسم الدين، أو باسم السياسة.
كما أنَّ شمولية المنهج امتدت آثاره إلى كل الفئات الحيوية في المجتمع الجزائري، وعلى الخصوص منها فئات الشباب، والمرأة،والعمال، والأطفال، إلى جانب المهنيين كالرياضيين، والممثلين، والموسيقيين، والتجار والكشافة...الخ.
لذلك كتب لهذا المنهج الباديسي الإصلاحي التغييري كل النجاح، وكانت أبرز مظاهر نجاحه ممثلة في الاستجابة الجماهيرية العارمة بمناسبة الاحتفال بختم القرآن، والفتنة العنصرية التي أشعلها اليهود بقسنطينة، وافتتاح مدرسة دار الحديث بتلمسان، وتدشين دار الطلبة بقسنطينة، وغير ذلك من التظاهرات الإقليمية في مناسبات مختلفة.
3- قرآنية المنهج الباديسي:
ينبوعان أساسيان كان المنهج الباديسي يغرف منهما، وهما اللذان ألهما عبد الحميد ابن باديس وصحبه طريقة التشخيص، وطريقة العلاج. أمَّا أولهما فهو النبع القرآني الذي رسم سنن التاريخ في حياة الأمم السابقة، وواقع المسلمين في بداية ظهور الإسلام، فقد وجدنا علماء الجمعية منذ ابن باديس يسيرون حذو القرآن في منهجهم التغييري الإصلاحي، فيسقطون معاني القرآن على واقع الأمَّة الجزائرية، ويمكن أن نسوق أمثلة على ذلك؛ ففي تفسيره لقوله تعالى: "وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ" (النمل:17) يستنبط الشيخ بعض المعاني من هذه الآية، فيخلص إلى النتيجة التالية:
«بقيت الآية على الدهر مذكرة لنا بأنَّ النظام أساس كل مجتمع واجتماع، وأنَّ القوة والكثرة وحدها لا تغنيان بدون نظام، وأنَّ النظام لابد له من رجال أكفاء يقومون به، ويحملون الجموع عليه »(1). إنَّه منهج لإصلاح الراعي والرعية معا، فالكفاءة والقدرة للراعي، وحسن التنظيم والانضباط للرعية، والنظام عند ابن باديس يعني القوة والمجد اللذين تؤسس عليهما الحضارات.
وفي تفسيره لقوله تعالى : "حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ" (النمل:18)يستوقفنا الشيخ عبد الحميد أمام «خطاب»النملة لأخذ العبرة مما تخاطب قومها به شعورا بالمسؤولية وأداء الواجب نحو قومها ، فيصل بنا إلى هذه النتيجة:«هذه نملة وفَّت لقومها، وأدت نحوهم واجبها، فكيف بالإنسان العاقل، فيما يجب عليه نحو قومه؟ - ويضيف الشيخ قائلا – هذه عظة بالغة لمن لايهتم بأمور قومه، ولا يؤدي الواجب نحوهم، ولمن يرى الخطر داهما لقومه فيسكت ويتعامى، ولمن يقود الخطر إليهم، ويصبه بيده عليهم، آه ! ما أحوجنا معشر المسلمين إلى أمثال هذه النملة»(2).
وعن تأخر المسلمين وتقدم غيرهم يستمد الإمام ابن باديس وسائل العلاج من الآية الكريمة في قوله تعالى: "كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا" (الإسراء:20) فيقول:«فهذه الآية من أنجع الدواء لفتنة المسلم المتأخر بغيره المتقدم، لما فيها من بيان أنَّ ذلك المسلم ما تأخر بسبب إسلامه وأنَّ غيره ما تقدم بعدم إسلامه، وأنَّ السبب في التقدم والتأخر هو التمسك والترك للأسباب، ولو أنَّ المسلم تمسك بهذا كما يأمره الإسلام، لكان - مثل سالف أيامه - سيد الأنام »(3) فهل يقتدي قادتنا وعلماؤنا ومفكرونا اليوم بالمنهج الباديسي؛ باتخاذ القرآن ملهما وفهمه فهما صحيحا دستورا ونبراسا؟
4- حاجتنا اليوم إلى المنهج الباديسي:
ما أشيه الليلة بالبارحة، مع أنَّ التاريخ لايعيد نفسه كما يقول علماء الاجتماع، لقد كان – بالأمس – احتلال نتج عنه ظلم، وجهل، وإقصاء، أدى إلى ذهولٍ شعبي، وهو ما عمل المنهج الباديسي على استخدام صدماته التوعوية لإيقاظ الجماهير منه، واستعادة وعيها المفقود، وآتى المنهج أكله بالتعبئة الشاملة في مسيرة التحرير المجيدة.
واليوم وقد رحل المستعمر من أرضنا فهل تحرر وطننا من وطأة آثاره؟ وهل يمكن القول بأنَّ الجزائر قد تخلصت إلى الأبد من كل مظاهر الظلم والجهل والإقصاء؟ وهل يصح القول: إنَّ مكونات شعبنا من نخب وجماهير قد استعادت حرية الضمير، واستقلالية التفكير، وأصالة التعبير؟
إنَّه لمن المؤسف التقرير بأنَّ مشاكل التنمية التي أنتجها عهد الاستقلال توشك أن تكون في مستوى خطورة مشاكل الاستعمار مع الفرق، فالبطالة تضرب أطنابها في أوساط القوى الحية في شعبنا، ما أدى إلى تفشي أزمات خطيرة لدى أوساط الشباب، أبرزها العنف والمغامرة البحرية، أو ما يعرف عندنا بـ «الحرقة»واللصوصية، والانتحار وغير ذلك.
وعلى الصعيد الاجتماعي يلاحظ بروز ظواهر للتفكك الاجتماعي؛ كالطلاق، والعنوسة، وإهمال المسنين، وظاهرة التسول، وكلها تمثل مظاهر سيئة لواقع المجتمع الجزائري.
أمَّا من حيث المجال الثقافي فأسوأ مظهر للتَّأزُّم الثقافي يتمثل في الانسلاب الذي يجسد الهوة السحيقة بين الشعب الجزائري وثقافته التي ما فتئت تتقهقر على جميع المستويات؛ كالاتصال والإشهار، والاستعمال اليومي لصالح الغزو الثقافي الأجنبي الذي يطل بلغته وحروفه على واجهات المحلات، وألسنة الناس، حتى جيل الاستقلال الصاعد، ولا تسأل عن الفساد الذي ظهر في كل منحى من مناحي حياتنا، في البر والبحر والجو، وأصبحنا نشاهد بعض رؤوس الفساد في أعلى المستويات، وما خفي كان أعظم.
لهذه المظاهر السلبية كلها التي تترجم القبح الذي يشوه وجه شعبنا، واللغة المرقعة التي تمثل الإعاقة لعقلنا، تصبح الحاجة ماسة – أكثر من أي وقت مضى – لإعادة بعث تجربة المنهج الإصلاحي التغييري الباديسي.
ذلك أنَّ من مميزات هذا المنهج الإصلاحي الذي جرب فصح أنَّه نابع من رحم الشعب الجزائري، خبير بأدوائه، تطبعه مواصفات إيجابية هي التي يمكن إجمالها في الخصائص التالية:
1- روحانية في اعتدال، وواقعية في استقلال، وجَزْأَرَة في غير اعتزال.
2- عناية بإصلاح القيادة، وجعلها صالحة للريادة ، وتوعية للجماهير الشعبية كي تكون الحارس الأمين لثوابت الوطن، ومظاهر السيادة.
3- الاستناد في المعالجة إلى الفهم الصحيح للدين، بعيدا عن كل تطرف أو جمود ، وتطهير العقل من كل معالم التضليل باسم السياسة أو باسم الدين.
4- إعادة تصحيح المفاهيم الحضارية، وتأصيل معانيها كالحزبية والديمقراطية، والمسؤولية وما أشبهها من الكلمات المظلومة في قاموس تعاملنا الحضاري.
على أنَّ ما يجب التذكير به هو أنَّ التجربة الإصلاحية في التاريخ قد كتب لها النجاح لأنَّها اتسمت بمقومات الصلاح للإصلاح وأهمها:
1- الكفاءة العلمية التي اتسم بها أعضاء جمعية العلماء، مما أهل كل واحد منهم أن يكون مثلا يُحتذى به، ونموذجا يقتدى.
2- الصدق والإخلاص للقضية الوطنية والإسلامية، وذلك بالزهد في مغريات الجاه، والمال، والمنصب، والبعد عن التزلف للحاكم على حساب المبادئ.
3- اعتماد مبدأ الشورى في التنظيم، وتحمل المسؤولية مما أكسب الجمعية تعلق الشعب بها، وإسلاس القيادة لها.
4- الصلابة في المواقف ولاسيما في مواجهة التحديات، والدفاع عن ثوابت الأمَّة، مما جعلهم مهابين من العدو على الخصوص، فالحقيقة أنَّ فاقد الشيء لا يعطيه، وإنَّ المؤتمنين على رصيد جمعية العلماء وتراثها عليهم تقع مسؤولية النهوض بالمنهج الباديسي في نقاوته وصفائه، وهم للقيام بذلك مدعوون للنزول إلى ميدان العمل، والسمو عن كل ما من شأنه المساس بكرامة العلم والعلماء، كي تكون كلمتهم مهابة، ودعوتهم مستجابة.
إنَّ الجزائر وهي تعاني شتى أنواع الاضطرابات لفي أشد الحاجة إلى منهج باديسي يعاد تشييدُهُ وفق قواعد مضادة لكل أنواع الزلازل والزعازع، إنَّ الأمل الشعبي معقود على هذا المنهج، وإنَّ المناخ خصب ومناسب، فلنعمل على عدم فشل التجربة الغالية بين أيدينا.
1- مجالس التذكير/ ص 339.
2- جالس التذكير، ص341.
3- مجالس التذكير، ص91 .