عبد الحميد بن باديس.. عالم مجدد
بقلم: عبد الرحمن يوسف-
دولة الجزائر هى الدولة الوسط بين بلاد المغرب العربى «تونس الجزائر المغرب» حيث كان يطلق عليها المغرب الأوسط.. هذه العروس ووجهت بأشرس حملة صليبية تغريبية فبعد سقوط الخلافة الإسلامية فى الأندلس تطلع الأسبان والبرتغال إلى غزو بلاد المغرب العربى وتمكن الأسبان من باحتلال المرسى الكبير فى الجزائر سنة 1505م وهجموا على «وهران» عملا بوصية الملكة إيزابيلا (التى تقضى احتلال شمال غرب أفريقيا وتحويل أهله إلى الكاثوليكية بدلا من الإسلام) وعلى الرغم من طرد العثمانيين لهم إلا أنهم عادوا فى القرن الثامن عشر الميلادى لاحتلال المرسى الكبير ووهران.
وجاء دور «فرنسا» الباحثة عن موطيء قدم لها فى تركة «الرجل المريض»، ويقصد بها دولة الخلافة العثمانية فى أواخر عهدها وكانت الجزائر أقرب بلد لحدودها الجنوبية فعقدت معها معاهدة «صداقة وعدم اعتداء» ثم تطورت إلى شركات تجارية لتصدير الحبوب إلى فرنسا عن طريق وسطاء من اليهود، وتراكمت الديون الجرائرية على فرنسا مما دفع بفرنسا إلى البحث عن ذريعة لاحتلال الجزائر وتم ذلك فى 5/7/1830م.
وعلى الرغم من قيام فرنسا الحديثة على العلمانية وحرصها على بث هذه الروح فى بلادها إلا أنها فى الجزائر كانت تمنى نفسها بتكريس احتلالها للجزائر عن طريق تنصير شعب الجزائر المسلم، ولذا قادت فرنسا حربا لا هوادة فيها على الإسلام والعروبة فى هذا البلد فحولت مساجده إلى كنائس وأصدرت قرارات تجرم تدريس اللغة العربية بل واعتبارها لغة ثانية بعد الفرنسية.
فيقيض الله تعالى فى وسط هذا الركام قائدا ربانيا مجددا معلما ليقود جموع المخلصين من أبناء الجزائر نحو الاستقلال والتقدم حاملا لواء الكتاب والسنة والعودة إلى فهم سلف الأمة الصالح وعماد دعوته عودة الجزائر إلى دينها وإلى عروبتها إنه عبد الحميد بن باديس: فمن هو هذا المجاهد الفريد.
هو عبد الحميد بن محمد بن مصطفى بن مكى بن باديس ولد يوم الجمعة 3/12/1889م فى مدينة قسنطنية الجزائرية من عائلة ثرية تنحدر من رجال الدولة الصهاجية «من البربر».
أتم باديس حفط القرآن الكريم فى سن الثالثة عشرة وتعلم مباديء اللغة العربية والعلوم الإسلامية على يد الشيخ حمدان الونيس الذى هاجر إلى المدينة بعد ذلك حتى توفى.
ثم ارتحل إلى طلب العلم فى جامع الزيتونة فظل به أربع سنوات وهناك تتلمذ على يد الشيخ محمد التخلى والشيخ الطاهر بن عاشور ثم توجه إلى مكة لآداء فريضة الحج ولقى شيخه الونيس وغيره من علماء مصر والشام ومنهم الشيخ حسين أحمد الهندى وطلب إليه الونيس البقاء فى المدينة بينما وجهه الشيخ الهندى إلى العودة إلى الجزائر من أجل العمل.
يقول الشيخ بن باديس: أذكر أننى لما زرت المدينة المنورة واتصلت فيها بشيخى الأستاذ حمدان الونيسي المهاجر الجزائرى وشيخى حسين أحمد الهندى أشار على الأول بالهجرة إلى المدينة وقطع كل علاقة لى بالوطن وأشار على الثانى وكان عالما حكيما بالعودة إلى الوطن وخدمة الإسلام فيه والعربية بقدر الجهد فحقق الله رأى الشيخ الثانى ورجعنا إلى الوطن بقصد خدمته فنحن لا نهاجر نحن حراس الإسلام والعربية والقومية فى هذا الوطن.
والتقى بالشيخ محمد البشير الإبراهيمى واتفقا على العمل للإسلام وتكوين جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
وأخذ ابن باديس فى تعليم الحزائريين فكان يبدأ دروسه بعد صلاة الفجر ويظل طيلة النهار يعلم الأطفال علوم الدين والعربية عبر «المدارس الحرة» التى أنشأها حيث لا مدرسة ولا فصول بل هى مدرسة متحركة تنتقل إليه ولاينقطع عن عمله هذا إلا ساعة بعد الظهر حيث صلاة الظهر ثم تناول الغداء ليتابع عمله حتى العصر ثم يستأنف دروسه إلى العشاء وبعد العشاء تبدأ دروس الكهول حتى منتصف الليل يفسر لهم القرآن فى الجامع الأخضر ومن المدارس التى أنشأها باديس تكون الجيل الذى حرر الجزائر.
وعلى الرغم من هذه الحياة التى لا مجال فيها للراحة أو الكسل فلقد أثرى بن باديس الدعوة الإسلامية فى مجال آخر هو ميدان الصحافة فأصدر جريدة «المنتقد» 1926م لمحاربة الصوفية ثم أتبعها «بالشهاب» 1926-1940م.
تكوين جمعية العلماء المسلمين
دعا الاحتلال الفرنسى شعب الجزائر لمشاركته الاحتفال بمرور مائة عام على احتلال الجزائر وتقرر ان يستمر الاحتفال شهوراً وانفق عليه بسخاء وأقام المحتل عروضا عسكرية تمثل زى القوات الفرنسية بنفس الملابس التى غزت بها الجزائر منذ مائة عام.
فحركت الدعوة جموع المخلصين من أبناء الجزائر وعلمائها فتكونت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين لتكون أكبر منغص على المحتل فتفسد عليه حفله المئوى فينقضى بعد أيام من بدايته وليواجه هذا الجيل الذى بناه عبدالحميد بن باديس والذى هتف فيه:
شعب الجزائر مسلم *** وإلى العروبة ينتسب
من قال حاد عن أصله *** أو قال مات فقد كذب
أورام إدماجا له *** رام المحال من الطلب
يا نشء أنت رجاؤنا *** وبك الصباح قد اقترب
خذ الحياة سلاحها *** وخض الخطوب ولا تهب
ولا عجب من هذا المجاهد العاشق للعروبة والإسلام وهو البربرى الأمازيغى ياليت دعاة القومية وتقديس التراب أن يفهموا منطق هذا المصلح المجدد.
وتكونت جمعية العلماء برئاسة عبدالحميد بن باديس رئيسا ومحمد البشير الإبراهيمى نائبا ومعه كوكبة كمبارك الميلى والطيب العقبى وإبراهيم بيوص وحملت جمعية العلماء عبء الدعوة والتربية وإقامة المدارس الحرة لتكوين جيل العودة إلى العروبة والإسلام وفى عام 1940 لبى عبدالحميد بن باديس نداء ربه بعد أن اقام صرحا عظيما خالدا فى ميدان التحرير و الإصلاح فى الجزائر إنه جمعية العلماء والذى خلفه فيه المجاهد الشيخ البشير الإبراهيمى حتى تحققت الحرية للجزائر وعادت إلى حظيرة العروبة والإسلام من كلماته الخالدة: العرب مظلومون فى التاريخ فإن الناس يعتقدون ويعرفون أن العرب كانوا همجا لايصلحون لدنيا ولا دين حتى جاء الإسلام فاهتدوا به فأخرجهم من الظلمات إلى النور.
نهضتنا: نهضتنا نهضة بنيت على الدين أركانها فكانت سلاما على البشرية لايخشى والله النصرانى لنصرانيته ولا اليهودى ليهوديته ولا المجوسى لمجوسيته ولكن يجب والله أن يخشاها الظالم لظلمه والدجال لدجله والخائن لخيانته.
وقال حينما طلب منه تأييد فرنسا فى الحرب العالمية والله لو طلبت منى فرنسا أن أقول لا إله إلا الله ما قلتها.
وقد جمع تراث بن باديس مما كتبه من مقالات وغيره فى كتب مجالس الوعظ والتذكير وآثار ابن باديس.