الإصلاح الديني ومنهجه التغييري في فكر الشيخ الشهيد الشيخ العربي التبسي 1
بقلم: أ.عثمان أمقران-
أتحدث –وكلي اعتزاز بهذا الحديث- عن شخصية فذة من الشخصيات الإيمانية والعلمية والجهادية التي حباها الله بالشهادة في سبيله بعد أن خصها بخصال الجد الصارم والتأبّي على الذلة لغير الله والشجاعة في مواجهة المواقف الصعبة مع الفقه الواسع والدقيق لكتاب الله وسنة رسوله –صلى الله عليه وسلم- ولسنن الخالق –سبحانه- في الأكوان والمجتمعات البشرية.
قال عنه أخوه في العلم والجهاد لتحرير العقول والأوطان والعباد الشيخ "البشير الإبراهيمي" –رحمه الله- [إن الأستاذ العربي التبسي إذا تكلم في الدين جاء كلامه تجلية حقائق في نصوع بيان وإذا تحدث في السياسة كان حديثه كله حملات على الاستعمار ومكايده وإذا تحدث عن السياسيين والنواب جاء حديثه كحديث المحايد الحر الذي لا يتحيز لفريق دون فريق ولا يرضى لنفسه ولمقامه أن يكون "بوق دعاية" لمبدإ دون مبدإ لأن مبدأه أسمى منها جميعا. وكان حديثـُه عن العلم حديث العالم الذي يزن الرجال بأعمالهم وحيث لا أعمال فلا رجال ويزن الأحزاب بوضوح مبادئها وحيث لا وضوح في المبادئ فلا أحزاب ...والأستاذ التبسي عالم عريق النسبة في الإصلاح بعيد الغور في التفكير سديد النظر في الحكم على الأشياء عزوف الهمة عن المظاهر والسفاسف.
انتهى به العلم والتجربة وأحداث الزمن إلى القناعة الراسخة بأن تونس والجزائر والمغرب شعب واحد لا نصر لحركة التحرر من فرنسا الباغية الطاغية إلا إذا أتّحدت تحت راية إسلامها وعروبة لسانها. ثم انتهى به العمل لهذه المقاصد السامية إلى معرفة حظ العالم من العمل وحظه من تبعة التقصير فيه . لذلك كله أصبح عَلَما فردا في قيادة الأمة في جميع ميادين حياتها ... وهو صاحب آثار جليلة في العلم والإصلاح والآراء السديدة في السياسة والاجتماع والمواقف الجريئة في تمكين الإسلام والعروبة بالقطر الجزائري، كان الشيخ التبسي مخلصا في خدمة الأمة مرابطا في نشر العلم يقضي نهاره وليله في إعطاء الدروس العلمية للتلاميذ مجّانا ودون أن يتقاضى مقابل ذلك أي ثمن...](1).
هذه شهادة حق نعتز بها أيما اعتزاز خاصة وقد جاءت على لسان وبقلم أحد أهم وأبرز أقطاب جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وأعظم بها وأكرم بها شهادة على أن شيخنا الجليل "العربي التبسي" تفرّد من بين جميع علماء الجزائر بكونه نحا نحو الإصلاح الديني والوطني في صبر ومصابرة وجد ومثابرة وعزم ومخاطرة لم تأخذه في الله لومة لائم حتى عانق الشهادة راضيا عن ربه الذي اصطفاه لها بعد أن اغتالته أيدي فرنسا الآثمة المجرمة بصورة شنيعة وفظيعة.
وتنبني فكرة الإصلاح لتغيير ما بالنفوس –في تصوره- -رحمه الله وأرضاه- على أن العلم –والشرعي منه بالخصوص- هو الأداة الفعالة للكفاح من أجل البقاء فطلبُه فرض على كل مسلم ومسلمة كما صح عن الرسول الكريم –صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- في ما يرويه مسلم في صحيحه وقد جعله هذا المبدأ يسخّر جهده ووقته وأطوار حياته كلها وبتفان من أجل نشره في الأمة وتعليم وتربية نواشئها وسائر شبابها وكهولها . وكان شديد الحرص على قرن هذا العلم بالأخلاق لاعتقاده أن العلم وحده لا ينفع صاحبه إذا لم يقترن بالأخلاق و كثيرا ما كان يستظهر –كما يقول بعض تلامذته ممن لا يزالون أحياء يُرزقون بشاعر "أرض الكنانة"- حافظ ابراهيم
لا تحسبن العلم ينفع وحده ما لم يُتوّج ربه بخلاق
ولهذا سعى –رحمه الله وأرضاه- سعيه الجاد الدائب لأخلقة الحياة العلمية والوطنية بناء على عقائد الدين الحنيف على اعتبار أن أخلاقنا الإسلامية نابعة –أساسا- من معين التوحيد وما تـُثمره الشعائر التعبدية من عزة بالله ورسوله ومن حياء وإيثار وأمانة وصدق وعفة وتعفف وتطلع إلى معالي الأمور وهي –جميعها- سمان وحدة الصف و الهدف كما كان يقول دوما و يكتب في "الشهاب" لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في العقد الثلاثيني.
ويتبدّى من كل ما كان يتعاطاه –رحمه الله وأرضاه- من أنشطة علمية واجتماعية ونضالية، أن بناء الأخلاق في الأمة يمر –حتما- من طريقين هما : القدوة الصالحة التي لا تكون إلا في العلماء وقادة الرأي العام من النخب السياسية والفكرية والإعلامية ثم اصطباغ مناهج التعليم والإعلام ومختلف أنشطة التوجيه الاجتماعي بالصبغة الخلقية. ولم يك –في هذا- بدعا من العلماء. فقد كانت هذه استراتيجيتهم في إيقاظ الأمة للدفع بها إلى أخذ زمام التغيير لأوضاعها العامة والمسك بخطام إصلاحها بهدايات دينها أخذا ومسكا قوييْن تفرض بهما نفسها في ساحة التحرير للجزائر من سطوة الباغي الفرنسي على العرض والأرض.
وهل بمستطاع أمة ظل الإسلام لحمتها وسداها على مر الأحقاب أن تنهض من جديد لتكسر قيود احتلال بغيض رسفت فيها ردحا من الزمان طويلا إذا هي لم تتخلّق بأخلاق دينها معتصمة بعقيدتها القائمة على توحيد خالقها ذلك التوحيدَ الخليَّ من شوائب الشرك و ظواهره و مظاهره؟ هذا ما كان يتجلى –وبوضوح جلي لا غبش فيه- من منهج الشيخ العربي التبسي التغييري الإصلاحي. وهو منهج –كما قلنا- يشترك في مقوماته و في مبادئه وأهدافه وفي سماته وملامحه وخصائصه. مع الذي ظل ينهجه إخوانه في جمعية العلماء و يقوم على قاعدة [ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم] الرعد 11.
ويستتبع هذا المسعى الإصلاحيُّ التغييري تقويض العدد العديد من العادات والتقاليد الجاهلية البالية التي استحكمت نسائجها في البنيان البشري الجزائري ومنها "الطائفية" و"الفئوية" و"العروشية" و"الجهوية" و "الحزبية الضيقة" ومنها أيضا "الخضوع المخزي" لحرّاس معابد "الشعبذة" و"الشعوذة" وغيرها من دلائل زيغ العقائد وزيف العوائد مما استأثر –في الغالب الأعم- بحملات الشيخ "العربي بن فرحات التبسي" الشعواء في كل ناد وباد. وهنا يبدو اهتمامه الجوهري بالسنة المطهرة –صحيحها وصريحها- بوصفها التطبيق العملي الفذ لحقائق ودقائق وهدايات وتوجيهات القرآن العظيم، فكان –رحمه الله- يركز على قوله تعالى: }لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا{(من سورة الأحزاب).
ولعل أعظم مواقفه وأشهرها على الإطلاق وأشدها على جبهة الرضوخ للسان وثقافة فرنسا الاستدمارية كان موقفه في شهر كانون الثاني جانفي 1938م من قضايا:
1.التجنس بالجنسية الفرنسية
2.استئناف الأحكام الشرعية لدى المحاكم المدنية الفرنسية
3.التزوج بغير المسلمات
4.الوصية للورثة على يد الموثق المدني الفرنسي
فقد أصدر فتوى في ذلك التاريخ باسم جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، بين فيها –بأسلوب العالم الفقيه- الذي لا يداجي ولا يوارب ولا يحابي ولا ينافق حكم الله في كل تلك المسائل وقال إنها قضايا جدّت بسبب تسلط الغرب المتكبر المستكبر على الشرق الضعيف المستضعف وأعلن في غير مل لجلجة ودجدجة أن [القصد من التجنس هو غزو العقائد الدينية و تحويل تفكير المتجنس بطريقة تستهوي الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة] وصرح أن [هذا المتجنس بالجنسية الفرنسية غدا مبتوت الصلة ومقطوع الوشيجة بحسَبه الإسلامي ونسَبه العربي] وكذلكم كان موقفه العظيم من قضية الزواج بالأجنبيات حيث أفتى بحرمته نظرا لملابسات الوضع زمانذاك .
ومن قضية الوصية للورثة التي كان بعض الناس يوصون بإنفاذها –بعد وفاتهم- على يد الموثق المدني الفرنسي (2).
وله في عديد القضايا الفقهية غير هذه صولات و جولات سجلها التاريخ بأحرف من نور ونار. وسيظل يحتفظ بقولته الشهيرة الصادعة [ من يتزوج بفرنسية يدخل الاستعمار بيته]، و مما يرويه أقاربه و تلامذته عنه أنه كان لا يني يردّد [من عاش فليعش بعداوته لفرنسا و من مات فليحمل معه عداوته هذه إلى القبر] (3).
وهذا هو الموقف الرجولي البطولي الذي وقفه هذا " العالم الرباني" من فرنسا الاستدمارية (و لا أقول "الاستعمارية" لأنني أعتقد -كما اعتقد من قبلي الشيخ العلامة البشير الابراهيمي- أن كلمة "الاستعمار" مظلومة) و قد كلفه حياته –كما قلنا- و مضى إلى ربه صادقا وصدوقا ونحسبه كذلك و لا نزكي على الله أحدا. ولسنا –إلى اليوم- نعرف أين أُقبر، فقد يكون عرف مصير "أصحاب الأخدود" الذين أكلت النيران أجسادهم و راح جسدُه هو طعمة للزيت المغلي في المرجل المحمي.
وأعظم –بعد هذا- بموقفه من المرأة المسلمة التي ركز أقطابُ الفكر الاستدماري في فرنسا و غيرها على إفسادها تمهيدا لتمسيح الأمة المسلمة و فك ارتباطها بدينها و لسانها العربي المبين. فقد نادى –في حماسة فياضة- بتعمير المدارس الإصلاحية بالبنات و البنين على أساس:
1. [أن فساد العقول وانحطاط الأخلاق كانا شامليْن للأمة -ذكورا وإناثا-]
2. [ أن المرأة شقيقة الرجل في الإنسانية فلتكن شريكته في التربية والتهذيب فلا ينبغي أن تـُحرم من نمائر ينابيع العلم والتربية وأن الأم هي المدرسة الأولى التي يتلقى فيها الأبناء معارفهم الأولى في الحياة]
3. [ أن الأنثى مكلفة في حكم الإسلام بمثل ما كُلف به الرجل لا يفترقان إلا فيما يرجع للقوة و السيادة فيختص الرجل بالإمامة و القوامة و ولاية مناصب الحكم و إلا فيما يعود إلى سطوة العاطفة و صولة المشاعر فيختص بالمرأة]
4. [ و أن المرأة شريكة الرجل في منزله و قرينتُه في حياته لا غنى لأحدهما عن الآخر فلا بد من تشاركهما في التهذيب و تقاربهما في التثقيف](4)
وهذا –لعمري- هو الموقف الصحيح الموافق لروح و مقاصد الشريعة الإسلامية الغراء. و انظر إلى ما جنيناه –نحن- في عالم العروبة و الإسلام من إطلاق العنان لـ "حرية المرأة" في غشيان كل ميادين الحياة العامة –كما هو مبتغى و مشتهى عبيد الفكر الغربي- فهل ازددنا إلا تخلفا و تقهقرا و ذلة و قلة ؟ !!
واقرأ معي هذه الصيحة المضرية منه –رحمه الله و أرضاه- و قد أطلقها عام 1935 على عمود من أعمدة "الشهاب":
[إن كل أمة ابتُليت بداء التقليد قد أضاعت رشدها وضلت سواء السبيل وتركت أعظم ميزة مُنِحها الإنسان ألا وهي العقل فيطرقها الخلل في أعمالها المادية والأدبية وتصبح مملوكة للغير. علينا أن نطلق للفكر سراحه ليصول و يجول و على دعاة الإصلاح العاملين لإنقاذ الأمة الجزائرية من ربقة التقليد أن يجعلوا فكرة الإصلاح على قاعدة الدين أولا و أخيرا مرتكز و منطلق حركة التحرير و التغيير](5)
وفي هذه الدعوة منه إلى نبذ التقليد دليل قوي على صواب منهجه و سداد فكره و رشاد سعيه و بعد نظره و هو يجوب طول الجزائر و عرضها لتعبئة الجماهير وصب حركتها في بوتقة "الحرية الحقيقية" التي تقوم –أول ما تقوم- على الاعتزاز بالذات الحضارية و تحقيق مراد الله و رسوله بتجسيد هدايات الدين في الواقع الحيوي -وحدة صف و هدف- و -اتحاد كلمة و مواقف- في مواجهة الصليبية العاتية و الصهيونية العابثة الباغية و عبيدهما من أشباه المفكرين و المُنقـّفين (بالنون لا بالثاء فتنبه).
لقد كان الشيخ "العربي التبسي" يحمل إلى الأمة ما حمله –بلا شك- رعيلُ "جمعية العلماء" الأول من فكر و منهج للإصلاح قرآنيّي الأساس و نبويّي المنبع بيد أنه تميز عنهم بحدة و شدة و جد و صرامة جعلته مهيب الجانب قوي النظرة عصيّ القولبة لا يضحك إلا قليلا، جادّ المسعى في ابتغاء القوم رجاء أن يُسلموا حقا للحق –سبحانه-.
ففي هذا خلاصهم الأبدي من العبودية لغير الله و من التبعية لغير نبيه الخاتم الذي جاء ليضعهم على مهيع الحضارة الرائدة المتصلة فيها الأرض بالسماء والمتواصلة فيها قيم الرفاه المادي بقيم الولاء و الوفاء للدين لا للطين.
اعقلوا يا عباد الله فما عقل خطاب ربه إلا عبد أسلم القلب والعقل لباريهما.
إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون
الهوامش:
1.البشير الإبراهيمي، الدروس العلمية، بتبسة، آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي، ط1، مطبعة المغرب الإسلامي، بيروت، 1999، ص 32
2.أسبوعية البصائر، عدد25، 14 جانفي 1938
3.أنظر الملحق 1 من كتاب الأعمال الكاملة للشيخ العربي التبسي للدكتور أحمد رفاعي الشرفي
4. اقرأ كتاب "شهداء معهد ابن باديس" للشيخ أحمد حماني –رحمه الله-
5.نقلا عن مقال له –رحمه الله- نشر له في "الشهاب"، عام 1936.