السنن الكونية في تفسير الشيخ ابن باديس
بقلم: د.محمد الدراجي -
إن الوصف الجامع الذي وصف به القرآن الكريم، هو أنه كتاب هداية، أنزله تبارك وتعالى، لهداية الإنسان، فردا وجماعة وإخراجه من الظلمات إلى النور، والأخذ بيده نحو سبل السلام، يقول تعالى: الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (1).
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ۚ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (2).
إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (3).
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (4).
هَٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ (5).
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ (6).
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (7) وغيرها من الآيات.
التي تؤكد شمولية الرؤية القرآنية، والقائمة على أن القرآن الكريم هو من قبل ومن بعد كتاب هداية جامعة.
ولكن الدارس لعلم التفسير المتتبع لتطور مناهجه، يلحظ مفارقة عجيبة، وهي سيطرة النظرة الجزئية على اهتمامات مفسر ما من المفسرين لكتاب الله تعالى، فيركز على جانب معين ويغفل الجوانب الأخرى، يقول الشيخ محمد الغزالي " إن الرؤية القرآنية لا يمكن إلا أن تكون حضارة كاملة، فأخذه على أنه مجموعة قصص مثلا ودراسة فن القصة على أساس أن القرآن كله قصص قرآني لا يمكن أن يكون تصويرا صحيحا للقرآن، وكذلك الأحكام التشريعية والمعتقدات الإلهية، والآيات التي تأمر بالنظر في الكون، وآيات التربية وما إلى ذلك من تعاليم إسلامية هي متماسكة في عصارة واحدة تجمعها من أولها إلى آخرها ومن المستحيل أن أنظر إلى القرآن النظرة الجزئية التي تجعلني أعيش في جانب وأنسى الجانب الآخر...."(8).
ويعود الشيخ محمد الغزالي رحمه الله مرة أخرى ليؤكد خطورة سيطرة النظرة الجزئية على المفسر لأنها تحجبه عن الهداية القرآنية الجامعة، فيقول: "فالنظرة الشاملة هي النظرة الصحيحة للدراسات القرآنية، و لا يمكن الرضي بنظرة جزئية، والنظرة الجزئية عندما سادت الفكر الإسلامي نشأ عنها ما يشبه الجسم المشلول في بعض أطرافه إنه لا يستطيع أن يؤدي وظيفته ما دام الشلل أو الخطر جمد بعض الأجهزة أو بعض الأعضاء، لا بد من النظرة الشمولية للقرآن كله"(9).
وسيطرة النظرة الجزئية، هي التي حالت دون الانتفاع بالهداية القرآنية، وحولت درس التفسير إلى مماحكات لغوية وكلامية، وجدليات فقهية عقيمة، ولقد أدرك المصلحون المحدثون خطورة الانحراف الذي وقع فيه الدرس التفسيري، وذلك بابتعاده عن النظر في القرآن من حيث هو صالح لقيادة، الحياة، واحتواء الحقائق الكونية والاجتماعية، والأخلاقية، فهذا الشيخ جمال الدين الأفغاني يقول "القرآن القرآن، وإني لآسف إذ دفن المسلمون بين دفتيه الكنوز وطفقوا في فيا في الجهل يفتشون عن الفقر المدقع، وكيف لا أقول واسفاه وإذا نهض أحد لتفسير القرآن فلا أراه يهيمُ إلاّ بباء البسملة ويغوص، ولا يخرج من مخرج حرف الصاد، في الصراط حتى يهوي وهو ومن يقرا ذلك التفسير في هوة عدم الانتفاع بما اشتمل عليه القرآن من المنافع الدنيوية والأخروية- مع استكماله الأمر على أتم وجوههما- فعم الجهل وتفشى الجمود في كثير من المتردين برداء العلماء حتى تخرّصوا على القرآن بأنه يخالف الحقائق العلمية الثابتة والقرآن بريء مما يقولون"(10).
وهذا الرأي التقويمي من جمال الدين الأفغاني يعتبر ثورة على المناهج التفسيرية العتيقة- الكلاسيكية- التي تحجب على المسلم نور القرآن وهدايته، لأنها تغرقه في مباحث لفظية وكلامية، ومصطلحات غريبة يصعب عليه فك مغاليقها وحل رموزها، فقال كذلك: «انصرفنا عن الأخذ بروح القرآن والعمل بمعانية ومضامينه، إلى الاشتغال بألفاظه وإعرابه، والوقوف عند بابه دون التخطي إلى محرابه، وإنما نحن اليوم حملنا مع القرآن ألفاظا ومناقشات حول أحكام فرضية، واستنتاجات ليس هي في مصلحة البشر و لاهي من وسائل هدايتهم إلى الإيمان به، وأضفنا إليه من الشرح والتفسير ما لا يحصل له سوى الإغراب وإرضاء العامة» (11).
فالمفسر في نظر السيد جمال الدين الأفغاني لا يقوم بدرس تطبيقي لقواعد الإعراب أو نكات البلاغة، على نصوص القرآن الكريم، وإنما وظيفته الحقة هي شرح المفاهيم وتوضيح التعاليم، وبناء الشخصية المتكاملة، والمجتمع الإسلامي المتوازن، ومحاربة التخلف.
فيقول: «فلا بد إذن من بعث القرآن، وبعث تعاليمه الصحيحة بين الجمهور، وشرحها على وجهها الثابت، من حيث يأخذ بهم إلى ما فيه سعادتهم دنيا وأخرى»(12).
وقد حمل لواء الاتجاه الهدائي هذا بعد وفاة السيد جمال الدين الأفغاني، تلامذته وعارفو فكره في مشارق الأرض ومغاربها، وفي مقدمتهم العلامة المصلح الشيخ محمد عبده (1905م) الذي خطت حركة التفسير على يديه خطوات عملاقة، إلى الأمام، إذ دعا – رحمه الله- إلى التخلص من الاستطرادات العلمية التي حشرت في التفسير حشرا، ومزجت به من دون ضرورة لازمة، كما دعا لتنقية التفسير من القصص الإسرائيلية التي ذهبت بجمال القرآن وجلاله، وتمحيص ما جاء فيه من الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة، على رسول الله صلى الله عليه وسلم أو على أصحابه رضوان الله تعالى عليهم، كما حاول إلباس التفسير ثوبا أدبيا اجتماعيا يظهر روعة القرآن ويكشف عن مراميه الدقيقة وأهدافه السامية، وحكمه وأحكامه الجليلة.
وهكذا فقد غلبت النظرة الهدائية على جهود مدرسة المنار التفسيرية، فدعت إلى: "فهم الكتاب العزيز من حيث هو دين يرشد الناس إلى ما فيه عادتهم في حياتهم الدنيا وحياتهم الآخرة، فإن هذا هو المقصد الأعلى منه وما وراء هذا من المباحث فهو تابع له أو وسيلة لتحصيله"(13). ويقول العلامة المجدد السيد محمد رشيد رضا عن تفسير المنار، «إن تفسير المنار قد ألف لاستدراك هذا النقص في كتب التفسير، ولكنه لا يدرس في المدارس، و لا يعتمد عليه في التربية، ولا يخطر في بال من لم يقرأه أنه يجد فيه بيان كل ما تحتاج إليه الأمة لتجديد حياتها ومجدها، و لا لدفع غوائل عنها، ويوشك أن يكون أكثر من اطلعوا عليه لا ينوون بقراءته ما ألف لأجله من الإصلاح والهدى وتجديد صورته الأولى»(14)
ويتأكد لنا من خلال هذا النص أن الهدف من التفسير هو تجديد الأمة الإسلامية بالقرآن، والثورة على الواقع المؤلم الذي يعيشه العالم الإسلامي، وبناء المسلم الفعال الذي يعمل جاهدا على تغيير هذا الواقع.
ابن باديس والهداية القرآنية
إن أكثر الحركات تجاوبا مع حركة المنار التجديدية في المشرق، هي و لاشك، حركة الإصلاح في الشمال الإفريقي بزعامة الإمام المصلح عبد الحميد بن باديس، الذي جعل من دراسة القرآن الكريم وتدريسه أساس دعوته ومحور انطلاقته في التغيير والبناء، لما أوتي من مؤهلات تمكنه من ذلك، يقول العلامة محمد البشير الإبراهيمي، : «له ذوق خاص في فهم القرآن كأنه حاسة سادسة خص بها، يرفده بعد الذكاء المشرق والقريحة الوقادة، والبصيرة النافذة، بيان ناصع، واطلاع واسع،وذرع فسيح في العلوم النفسية والكونية، وباع في علم الاجتماع، ورأي سديد في عوارضه وأمراضه، يمد ذلك كله شجاعة في الرأي، وشجاعة في القول، لم يرزقها إلا الأفذاذ المعدودون في البشر» (15).
فالغرض الأساسي الذي استهدفه ابن باديس هو تخريج أجيال مؤمنة، متخلقة بأخلاق القرآن، لأنه شديد الإيمان بأن القرآن الذي كون رجالا في السلف لا يكثر عليه أن يكون رجالا اليوم، إذا أحسن فهمه وتدبره، ولذا قال في حفل الاختتام: "فإننا نربي – والحمد لله- تلامذتنا على القرآن من أول يوم ونوجه نفوسهم إلى القرآن في كل يوم، وغايتنا التي ستحقق أن يكون القرآن منهم رجالا كأسلافهم، وعلى هؤلاء الرجال تعلق هذه الأمة آمالها وفي سبيل تكوينهم تلتقي جهودنا وجهودها"(16).
وهذا النص واضح جدا في غاية ابن باديس من التفسير، وهي محاولة بعث المجتمع الإسلامي الذي عرف مرحلة الركود الحضاري منذ أزمنة بعيدة، عن طريق بناء الإنسان المسلم بناء قرآنيا يكسبه الفعالية الحضارية ويخرجه من مرحلة الذهول الحضاري التي يعيشها، فقال رحمه الله "لا نجاة لنا من هذا التيه الذي نحن فيه، والعذاب المنوع الذين نذوقه إلا بالرجوع إلى القرآن إلى علمه وهديه وبناء العقائد والأحكام والآداب عليه"(17).فالقرآن الكريم في نظر المصلحين- قد تضمن علاج كل المشاكل التي تعترض الاجتماع البشري، إذا أحسن فهمه وتدبر معاينة وفقه أحكامه وحكمه.
نقد ابن باديس لطرق تدريس التفسير ومناهجه العتيقة
لقد أدرك العلامة عبد الحميد بن باديس بأن طرائق تدريس التفسير التي كانت سائدة في المعاهد العلمية- في وقته وقبلها- تحول دون الانتفاع بهداية القرآن، و لا تمكن من بناء الإنسان المسلم الفعال، لأنها تغرقه في المناقشات اللغوية والمماحكات الكلامية، فلا ينتفع من القرآن شيئا، فقال رحمه الله: «ودعانا القرآن إلى تدبره وتفهمه والتفكر في آياته و لا يتم ذلك إلا بتفسيره، وتبيينه، فأعرضنا عن ذلك وهجرنا تفسيره وتبيينه، فترى الطالب يفني حصة كبيرة من عمره، في الحلول الآلية، دون أن يكون طالع ختمه واحدة في أصغر تفسير كتفسير الجلالين، مثلا، بل ويصير مدرسا متصدرا ولم يفعل ذلك، وفي جامع الزيتونة- عمره الله تعالى إذا حضر الطالب بعد تحصيل التطويع في درس تفسير فإنه- ويا للمصيبة يقع في خصومات لفظية بين الشيخ عبد الحكيم وأصحابه في القواعد التي كان يحسب أنه فرغ منها من قبل فبقضي في خصومة من الخصومات أياما أو شهورا فتنتهي السنة وهو لا يزال حيث ابتدأ أو ما تجاوزه إلا قليلاً دون أن يحصل على شيء من حقيقة التفسير وإنما قضى السنة في المماحكات بدعوى أنها تطبيقات للقواعد على الآيات كأن التفسير إنما يقرأ لأجل تطبيق القواعد الآلية لا لأجل فهم الشرائع والأحكام الإلهية فهذا هجر آخر القرآن مع أن أصحابه يحسبون أنفسهم أنهم في خدمة القرآن...» (18)
فكل منهج في التفسير لا يجعل من إبراز الهداية القرآنية هدفا أساسيا له فهو في المنظور الباديسي نوع من أنواع هجر القرآن، حتى ولو كان فاعل ذلك يحسب نفسه في خدمة القرآن، فدرس التفسير ليس من اجل تطبيق القواعد الآلية من نحو وصرف وبلاغة... وإنما هو من أجل فهم الشرائع والأحكام، وإدراك مقاصد التشريع وأسرار التكليف، وتقديم إجابات حول المشاكل التي تواجه الإنسان ولقد أدرك احد الباحثين المعاصرين- وهو الدكتور محمد فتحي عثمان- هذه الجوانب في تفسير ابن باديس، فقال مقارنا بين هذا المنهج الباديسي في التفسير وغيره «ولكم كان ابن باديس رحمه الله رائعا متفردا مسددا في تفسيره للقرآن الكريم، كان يعرض بثاقب فكره وواسع أفقه، وأسلوبه السهل الممتنع هداية للقرآن، ورسالته الشاملة للفرد والجماعة والدولة والإنسانية كافة، وكان يعالج مشكلات العصر على اختلاف جوانبها حين يفسر آيات القرآن، فهو يتكلم في لب قضايا السياسية والمجتمع وهو لا يغادر آيات الكتاب الكريم دون اعتساف أو حذلقة، ولكم أرى بعض من قد يفتنون العامة الآن بدروسهم في التفسير في موقف لا يحسدون عليه إلى جانب مثل ذلك العملاق الفقيه في كتاب الله الذي كان يقدم بتفسيره بعض الدلائل على أن هذا الكتاب حقا (لا تنقضي عجائبه)(19).
اهتمام الشيخ عبد الحميد بن باديس بالسنن الكونية في تفسيره
من المسائل التي ركز عليها الشيخ عبد الحميد بن باديس كثيرا في تفسيره، موضوع السنن الكونية، لأنه كان يريد أن يبني العقلية العلمية عند الإنسان المسلم ويبتعد به ما استطاع عن التفكير الخرافي ويقنعه بأن المشكلة التي يعاني منها يمكنه التحكم فيها ومن ثم التغلب عليها، وذلك بالتدبر في هذه النواميس التي تحكم تطور المجتمعات، وسير الحضارات،التي كثرت الإشارة إليها في آي الكتاب الكريم، (قوانين الصعود والسقوط).
أ- تعريف السنن الكونية:
السنن في اللغة: هي جمع مفرده سنة،وهو الطريقة المتبعة، قال الراغب الأصفهاني : « فالسنن جمع سنة، وسنة الوجه طريقته» (20).
وجاء في تفسير المنار: «السنن جمع سنة وهي الطريقة المعبدة والسيرة المتبعة أو المثال المتبع، وقيل أنها من قولهم سن الماء، إذا والى صبه، فشبهت العرب الطريقة المستقيمة بالماء المصبوب فإنه لتوالي أجزائه، على نهج واحد يكون كالشيء الواحد » (21).
وهذا المعنى هو الوارد في الحديث: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها واجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا إلى يوم القيامة....»(22).
أما في الاصطلاح:
فتطلق السنن ويقصد بها ( كل ما أضيف إلى النبي ÷ من قول أو فعل أو تقرير) (23).
والسنة بهذا الإطلاق هي مرادفة للحديث، وليس هذا مرادنا هنا.
وتطلق ويراد بها (مجموعة القواعد والقوانين التي يسير وفقها الكون وتحكم حركة التاريخ والمجتمع صعودا وهبوطا)(24) وهي المقصودة، ولكن يلاحظ أن هذا التعريف عام يشمل القوانين التي تحكم الظواهر الطبيعية.
وهذه على أهميتها وحث القرآن على التفكير فيها للوصول إلى عظمة الخالق)(25).
فإنها ليست هي المقصودة كذلك- بالبحث هنا- كما يشمل القوانين التي تحكم مسيرة الإنسان وهو يبني الحضارة ويواجه التحدي، وهذه القوانين لا تقل دقة وصرامة عن القوانين التي تحكم سير الظواهر الطبيعية.
يقول الشيخ محمد الغزالي: « وأريد قبل أن اشرح العلل التي أو مأت إليها أن أذكر طائفة من سنن الله الكونية في بقاء الأمم وهلاكها، فإن القوانين القرآنية في هذا المجال لها دقة القوانين العلمية التي تسمح بجري السفن في البحار، ودوران الآلات في المصانع...»(26).
فالقوانين موضوع البحث هي القوانين التي تحكم سير النشاط الإنساني- فردا وجماعة عبر حركة التاريخ ودورة الحضارة.
هذا وقد اختلفت تسمية هذه القوانين، فالعلامة الشيخ محمد رشيد رضا سمّاها: السنن الاجتماعية" (27)، والعلامة محمد باقر الصدر سماها السنن التاريخية (28).
والعلامة الشيخ محمد الغزالي سماها أحيانا بالسنن الكونية، وأحيانا بالسنن الإلهية(29).
وهذه التسميات كلها لها وجه صواب، فتسمية هذه القوانين بالسنن الاجتماعية لأنها وثيقة الصلة بالمجتمع الإنساني ووجه تسميتها بالسنن التاريخية فباعتبار أن هذه السنن لا تعرف وتدرك إلا من خلال حركة التاريخ، وأما وجه تسميتها بالسنن الإلهية فباعتبار أن الله هو الذي أودعها في الكون وحكمّها في النشاط الإنساني، فهي – هذه التسميات- تسميات اصطلاحية، ولا مشاحة في الاصطلاح، ثم إنها وإن اختلفت في المباني فهي متفقة في المعاني ونحن نؤثر تسميتها بالسنن الكونية لما في هذا الاصطلاح من عموم وشمول من جهة ومن دقة وصرامة من جهة أخرى.
حديث القرآن عن السنن الكونية
بالعودة إلى القرآن الكريم فإننا نجده كثير التركيز على موضوع السنن الكونية، كثير الحث للقارئ أن يتبع هذه السنن ويفحصها فحصا دقيقا لاستخراج القوانين والاهتداء بها، والاتعاظ، بمضمونها، ولذا فقد ورد ذكرها ست عشرة مرة في القرآن (30)، صراحة بلفظ (سنة الله) (أو سنن).
لكن ما تجب ملاحظته أن حديث القرآن عن السنن الكونية يتجاوز هذا العدد بكثير، خصوصا القصص القرآني فهو غالبا ما يختم بقانون يذكر، للاتعاظ والاعتبار، ومثال ذلك أنه في سورة القصص حديث مستفيض عن فرعون وجرائمه وفي مقدمتها ادعاء الألوهية وما ينتج عن هذا من استبداد ثم حديث عن قارون وجرائمه الاقتصادية وما تمثله من فساد، بعد ذلك كله يرد قوله تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (31)
إن القرآن من خلال هذا النموذج يريد أن يفتح أعين المسلمين على شرور الاستبداد السياسي، ومضار الحكم الفردي، وضرورة محاربة مظاهر الفساد الاقتصادي... يقول الباحث الكبير عماد الدين خليل: إن القرآن هو أول كتاب "يطرح علينا مسألة السنن والنواميس التي تسير حركة التاريخ وفق منطقها الذي لا يخطئ، وعبر مسالكها التي ليس إلى الخروج عليها سبيل، لأنها منبثقة من صميم التركيب البشري ومعطياته المحورية الثابتة خطرة وغرائز وأخلاقا وفكرا وعواطف ووجدانا، ومن قلب العلاقات والوشائج والارتباطات الظاهرة والباطنة في العالم الذي يتحرك فيه الإنسان" (32).
فالمنهج الذي كان يجب أن يسود دراسة القصص القرآني، هو أن يعتبر القصص القرآني ميدانا للتربية من خلال إدراك مواطن العظة والعبرة في القصة واكتشاف القوانين التي تحكم سير الحضارة، وتطور الأمم، أو بعبارة أخرى كان من المفروض أن يكون القصص القرآني فرصة سانحة لإدراك سنن الله الكونية، يقول الشيخ الغزالي: « لكن المشكلة في النظر إلى القصص القرآني لقد انتقل من دراسة تاريخية لقيام الحضارات وانهيارها إلى دراسة روائية ليس فيها حس بسنن الله الكونية إطلاقا... فوجدت أساطير ووجدت الإسرائليات مجالا واسعا عند القصاصين، وكان على بن أبي طالب ينظر ماذا يقول القصاصون فيطردهم من المساجد ولم يستبق إلا الحسن البصري، والقص بالمعنى الخرافي انتشر في الأمة الإسلامية ومسّ السنة بسوء عن طريق الوضاعين الذين اخترعوا أشياء كثيرة لكي يرضوا العوام وأصحاب الطفولة العقلية والصغار» (33)..
اهتمام المفسرين بموضوع السنن الكونية
قليلون هم المفسرون والعلماء الذين أولوا عناية فائقة، واهتماما كبيرا لموضوع السنن الكونية، ونحب أن نشير إلى جهود بعضهم:
1-أبو حامد الغزالي:
ومن هؤلاء المفكر المجدَّد حجة الإسلام أبو حامد الغزالي، الذي اعتبر موضوع السنن الكونية من العلم المحمود، إذ قال في كتاب العلم من موسوعته القيّمة إحياء علوم الدين: (وأما القسم المحمود إلى أقصى آيات الاستقصاء فهو العلم بالله تعالى وبصفاته وأفعاله وسنته في خلقه، وحكمته ترتيب الآخرة على الدنيا، فإن هذا علم مطلوب لذاته)(34).
ثم عاد حجة الإسلام أبو حامد الغزالي في فصل آخر من الكتاب إلى التأكيد بأن (هذا العلم هو الذي امتاز به عظماء الصحابة رضي الله عنهم وأنه هو العلم الذي عناه عبد الله بن مسعود لما مات عمر رضي الله عنه بقوله: مات تسعة أعشار العلم رواه أبو خثيمة في كتاب العلم بلفظ: إني لأحسب عمر قد ذهب بتسعة أعشار العلم) (35).
لقد فضل أبو حامد الغزالي هذا العلم- معرفة السنن الكونية- على سائر العلم، وفضل أهل هذا العلم على جميع العلماء كالمتكلمين والفقهاء، وأيده في هذا عز الدين بن عبد السلام إذ استفتى فيه، فأفتى بصحته (36).
2- ابن خلدون (808 هـ):
ومن العلماء الذين أولوا موضوع السنن الكونية، اهتماما كبيرا العلامة عبد الرحمن بن خلدون، الذي يعتبر بحق واضع علم (فلسفة التاريخ).
لأنه لم يهتم بالأحداث التاريخية الظاهرة فقط من حيث تسلسلها الزمني، وإنما راح يبحث بدقة عن الأسباب الخفية، والعلل الكامنة وراء تلكم الأحداث، وعليه فحقيقة التاريخ عنده هي (نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم لكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعد في علومها وخليق) (37).
ويقول كذلك وهو بصدد بيان مكانة التاريخ كعلم وفوائده ما يلي: (إن فن التاريخ.....شريف الغاية إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم، والأنبياء في سيرهم والملوك في دولهم وسياستهم حتى تتم فائدة الاقتداء لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا )(38).
3- جمال الدين الأفغاني (1897م ):
ومن العلماء الذين أولوا عناية كبيرة، لموضوع السنن الكونية، السيد جمال الدين الأفغاني رحمه الله، لأنه كان يريد أن يبرهن للمسلمين أن مشكلتهم يمكن التحكم فيها ودلك بواسطة تشخيص أسباب الانحطاط والأخذ بأسباب الصعود، فقال معلقا ومفسرا لقوله تعالى: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ (39)
ما يلي (أرشدنا الله سبحانه في محكم كتابه إلى أن الأمم ما سقطت عن عرش عزها ولا بادت ومحي اسمها من لوح الوجود إلا بعد نكوبها عن تلك السنن التي سنها الله تعالى على أساس الحكمة البالغة "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا بأنفسهم" إن الله لا يغير ما بقوم من عزة وسلطان ورفاهة وخفض عيش وراحة وأمن حتى يغير أولئك القوم ما بأنفسهم من نور العقل، وصحة الفكر، وإشراق البصيرة، والاعتبار بأفعال الله في الأمم السابقة والتدبر في أحوال الذين جاروا عن صراط الله فهلكوا وحل بهم الدمار، فهم لعدو لهم عن سنة العدل وخروجهم على طريق البصيرة والحكمة، حادوا عن الاستقامة في الرأي، والصدق في القول والسلامة في الصدر والعفة في الشهوات والحمية على الحق والقيام بنصره والتعاون على حمايته، خذلوا العدل ولم يجمعوا همهم على اعلاء كلمته، واتبعوا الأهواء الباطلة وانكبوا على الشهوات الفانية، أتوا عظائم المنكرات، خارت عزائمهم فشحوا ببذل مهجهم في حفظ السنن العادلة،واختاروا الحياة في الباطل على الموت في نصرة الحق، فأخذهم الله بذنوبهم وجعلهم عبرة للمعتبرين) (40).
4- العلامة السيد محمد رشيد رضا (1935 م)
ومن العلماء الذين كانت لهم وقفات متأنية مع موضوع السنن الكونية، العلامة السيد محمد رشيد رضا، إذ تعرض إلى هذا الموضوع في عدة مواضيع من تفسيره المنار، فبمناسبة تفسير: قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139) إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (41).
وبعد تعريفه للسنن الكونية في اللغة والاصطلاح، فإنه لا حظ بأن الحديث عن السنن الكونية مما تميز به القرآن الكريم عن الكتب السماوية السابقة، فقال: هذا إرشاد إلهي، لم يعهد في كتاب سماوي، ولعله أرجئ إلى أن يبلغ الإنسان كمال استعداده الاجتماعي، فلم يرد إلا في القرآن، الذي ختم الله به الأديان) (42).
فالكتب السماوية خلت من الإشارة إلى السنن الكونية، لأن الإنسان لم يكن قد بلغ مرتبة من الاستعداد الاجتماعي تؤهله للاستفادة منها، والاتعاظ بأحداث التاريخ، لأن مفهوم (مشيئة الله) كان غامضا عند الإنسان قبل نزول القرآن، فكان الاعتقاد السائد هو أن الله يحابي من شاء من الأفراد والأمم، بعيدا عن الحكمة الإلهية البالغة القائمة على السنن الكونية، العادلة، حتى جاء القرآن الكريم فغير هذه الموازين، وصحح تلك المفاهيم، فقال: «فجاء القرآن يبين للناس أن مشيئة الله تعالى في خلقه إنما تنفذ على سنن حكيمة وطرائق قويمة فمن سار على سننه في الحرب- مثلا- ظفر مشيئة الله وإن كان ملحدًا أو وثنيا، ومن تنكبها خسر وإن كان صديقا أو نبيا، وعلى هذا يتخرج انهزام المسلمين في وقعة أحد حتى وصل المشركون إلى النبي ÷ فشجوا رأسه، وكسروا سنه وردّوه في تلك الحفرة... ولكن المؤمنين الصادقين أجدر الناس بمعرفة سنن الله تعالى في الأمم وأحق الناس بالسير على طريقها الأهم.
لذلك لم يلبث أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ل أن ثابوا يومئذ إلى رشدهم وتراجعوا للدّفاع عن نبيهم، وثبتوا حتى انجلى عنهم المشركون ولم ينالوا منهم ما كانوا يقصدون (43)
وعند تفسير قوله تعالى: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ (66) لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ، عاد إلى إثارة موضوع السنن الكونية، وبيان أهميتها ومكانتها في بناء الفكر المنهجي السليم الذي يحسن الاستفادة من أحداث التاريخ وتجارب الأمم، لمواجهة المستجدات ، فعقد فصلا، بعنوان تنبيه غافل، وتعليم جاهل)، دعا فيه إلى حسن فهم النصوص الدينية في الكتاب والسنة، خصوصا أحاديث الفتن، التي لم يعد يفهمها جمهور المسلمين على الوجه الصحيح، ولما رأى إعراض المفسرين للكتاب وشراح السنة عن الاهتمام بموضوع السنن الكونية قال معلقا: «ولم يقصر المصنفون من المتقدمين والمتأخرين في شيء من علم الكتاب والسنة كما قصروا في بيان ما هدى إليه القرآن والحديث من سنن الله تعالى في الأمم والجمع بين النصوص في دلك والحث على الاعتبار بها، ولو عنوا بذلك بعض عنايتهم بفروع الأحكام ، وقواعد الكلام، لأفادوا الأمة ما يحفظ به دينها ودنياها، وهو ما لا يغني عنه التوسع في دقائق مسائل النجاسة الطهارة والسَلَم والإجارة، فإن العلم بسنن الله تعالى في عباده لا يعلوه إلا العلم بالله وصفاته وأفعاله بل هو منه أو من طرقه ووسائله»(44).
وإيمانا منه بأهمية العلم بالسنن الكونية، أنه لم يترك فرصة في تفسيره المنار إلا وبيَّن أهمية هذا العلم وأنه السبيل الذي يرتقي به المسلمون في حياتهم الاجتماعية المدنية، والوسيلة لإصلاح ما فسد من أمر الأمة الإسلامية.
5- مالك بن نبي (1973م):
ومن المفكرين البارزين الذين كان لهم اهتمام بارز، بالسنن الكونية، الأستاذ المفكر مالك بن نبي رحمه الله، الذي اقترح منهجا جديدا في التفسير هو (المنهج الاجتماعي)(45)، دعا فيه إلى الاهتمام بالسنن المرتبطة بالأنظمة الاجتماعية، ودوافعها النفسية والاجتماعية الذاتية والموضوعية).
ولذا جعل الأستاذ مالك بن نبي قوله تعالى: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ (46).
- محورًا لفلسفته في دراسته مشكلات الحضارة، وقد قدم لها تفسيرا اجتماعيا ضافيا، في كتابه (شروط النهضة)- حيث يقول: "وينبغي ألا نقرر هذا المبدأ حسب إيماننا به فقط، بل يجب أن يكون تقريره في ضوء التاريخ.
و(نعم) لا تجدي كجواب عن السؤال المطروح أمامنا، إلا إذا تأكدنا من شرطين:
أولهما: هل المبدأ القرآني سليم في تأثيره التاريخي.
ثانيهما: هل يمكن للشعوب الإسلامية تطبيق هذا المبدأ في حالته الراهنة (47).
والمنهج الذي اقترحه بن نبي رحمه الله يقوم على استلهام الوقائع الاجتماعية والتاريخية وتوظيفها في فهم نصوص القرآن وتنزيلها على واقع المسلمين من أجل إحداث التغيير المنشود.
نماذج من السنن الكونية في تفسير ابن باديس:
مجالس التذكير:
لقد تقدم القول- في هذه الدراسة- أن تفسير ابن باديس ذو اتجاه هدائي، يركز على الهداية القرآنية ويُجليها للمسلم حتى يتسنى له الانتفاع بها، والسنن الكونية من أبرز مظاهر الهداية القرآنية للإنسان المسلم، ولذا اهتم بها كثير العلامة ابن باديس، ومراده هو بناء العقلية العلمية أو الابتعاد به ما أمكن عن التفكير الخرافي، وسنورد نماذج من تفسير ابن باديس تؤكد هذا الكلام.
1-النموذج الأول: إرادة الدنيا وإرادة الآخرة
فعند تفسير قوله تعالى: مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا (48).
فإنه تعرض إلى إثارة موضوع خطير في الفكر الإسلامي، ألا وهو علاقة إرادة الإنسان بالدنيا، وسعيه في تحصيلها بمشيئة الله وقدرته.
لأن الآية موضوع الدراسة وردت مقيدة أما آية أخرى في سورة الشورى فقد وردت مطلقة.
وهي قوله تعالى: من كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ (49) ، وكذلك آية سورة هود مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ(15) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (50).
وأوضح الشيخ ابن باديس بأن إرادة الإنسان مقيدة بمشيئة الله تعالى وإرادته ولكن المشيئة الإلهية لا تحابي أحدًا من الأفراد أو الأمم بحسب الجنس أو المعتقد فقال رحمه الله « وقد أفادت هذه الآيات كلها أن الأسباب الكونية التي وضعها الله تعالى في هذه الحياة الدنيا وسائل لمسببات – موصلة- من تمسك بها إلى ما جعلت وسيلة إليه، بمقتضى أمر الله وتقديره وسننه في نظام هذا الكون.
ولو كان ذلك المتمسك بها لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ولا يصدق المرسلين.
ومن مقتضى هذا أن من أهمل تلك الأسباب الكونية التقديرية الإلهية ولم يأخذ بها لم ينل مسبباتها ولو كان من المؤمنين، وهذا معلوم ومشاهد من تاريخ البشر في ماضيهم وحاضرهم، نعم لا يضيع على المؤمن أجر إيمانه ولكن جزاءه عليه في غير هاته الدّار، كما أن الآخر لم يضع عليه أخذه بالأسباب فنال جزاءه في دار الأسباب وليس له في الآخرة إلا النار»(51).
وعليه فقد رأى ابن باديس بأن أقسام العباد بحسب الأخذ بالأسباب الكونية أربعة أقسام:
1- مؤمن آخذ بالأسباب الدنيوية، فهذا سعيد في الدنيا والآخرة.
2- دهري تارك لها، فهذا شقي فيهما.
3- ومؤمن تارك للأسباب، فهذا شقي في الدنيا وينجو- بعد المؤاخذة على الترك- في الآخرة.
4- دهري آخذ بالأسباب الدنيوية، فهذا سعيد في الدنيا ويكون في الآخرة من الهالكين.
وراح يوظف هذا لمعالجة مشكلة التخلف في العالم الإسلامي، وأن مردها الحقيقي إلى إهمال الأخذ بالسنن الكونية، وليس إلى التمسك بالدين الإسلامي، كما كان يروج لذلك سماسرة الغزو الثفافي والفكري سلامة موسى، وطه حسين، وأضرا بهما، الذين حاولوا بكل ما أوتوا من قوة أن يقنعوا المسلمين بضرورة التخلي عن دينهم وحضارتهم ، والسير في طريق الغرب في كل شيء إذا أرادوا اللحاق بمصاف الدول المتقدمة.
فقال ابن باديس: «فلا يفتن المسلمون بعد علم هذا ما يرونه من حالهم وحال من لا يدين دينهم، فإنه لم يكن تأخرهم لإيمانهم، بل يترك الأخذ بالأسباب الذي هو من ضعف إيمانهم، ولم يتقدم غيرهم لعدم إيمانهم بل بأخذهم بأسباب التقدم في الحياة، وقد علموا أنهم مضت عليهم أحقاب وهم من أهل القسم الأول بإيمانهم وأعمالهم، وما صاروا من أهل القسم الثالث إلا لما ضعف إيمانهم وساءت أعمالهم وكثر إهمالهم.. فلا لوم إذا إلا عليهم في كل ما يصيبهم، وربك يقضي بالحق وهو الفتاح العليم» (52).
وهذا النص نفيس جدا لأنه يضع أيدينا على موطن الداء الحقيقي الذي يعاني منه الفكر الإسلامي في العصر الحديث، والذي يتقاسمه اتجاهان متضادان، في التعامل مع مشكلة التخلف في العالم الإسلامي تشخيصا وحلا، فاتجاه يقدم تناول سطحيا للمشكلة، ويكتفي بإجابات عامة، كالقول بأن البعد عن الإسلام هو سبب التخلف، والعودة إليه هي الحل، دون تقديم تشخيص دقيق لأسباب المشكلة، كالاستبداد السياسي، ومظاهر الفساد الاقتصادي والقصور التربوي وهكذا.....
ودونما تقديم حلول واضحة إن على المستوى المنهجي، العام أو التفصيلي لكل مشكلة على حدة، مثلا ما الذي يجب فعله لتجاوز مشكلة غياب الحرية الفردية والجماعية في المجتمع الإسلامي.
أما الاتجاه الثاني فهو اتجاه تغريبي يريد إقصاء الإسلام نهائيا عن الفتوى في هذه المجالات، بل ويحمّلونه- الإسلام- مسؤولية تخلف العالم الإسلامي حضاريا، وعليه فإذا أردنا أن نتجاوز مشكلة التخلف فما علينا إلا أن نطرح ما كان سببا فيها، وهو الإسلام.
أما الشيخ عبد الحميد ابن باديس، فلقد أدرك بأن سبب التخلف هو الإنسان، وليس عقيدته الدينية، وأن الذين تقدموا من الأمم إنما تقدموا لأنهم أخذوا بأسباب التقدم وليس بسبب عقائدهم الدينية.... فالتخلف والتقدم يخضعان لقوانين وأسباب بعيدة عن العقائد الدينية، ولكن الغريب في الأمر هو أن العقيدة الإسلامية تأخذ بأيدي أتباعها أخذا إلى هذه الأسباب، وتفتح عيونهم عليها، وتدعوهم إلى الاعتبار بأوضاع الأمم، وأحداث التاريخ.
وقد عاد الشيخ عبد الحميد بن باديس عند تفسير قوله تعالى: كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (53)،إلى تناول الموضوع تحت عنوان موح هو (عموم النوال من الكبير المتعال) أكد فيه أنّ الناس على اختلاف عقائدهم وأجناسهم قد مكنوا من أسباب الحياة، لأنهم متساوون في الخلقة وفي العقل المميز، لا فرق في ذلك بين بر وفاجر، ومؤمن وكافر، فالله لا يمنع كافر بسبب كفره، ولا عاصيا بسبب عصيانه، هذه الحياة إذا اخذ بأسبابها.
فقال رحمه الله: « وقد أفادت الآية- حسبما تقدم- أن أسباب الحياة والعمران والتقدم مبذولة للخلق على السواء، وأن من تمسك بسبب بلغ – بإذن الله- إلى مسببه، سواء أكان برا أو فاجرا، مؤمنا أو كافرا، وهذا الذي أفادته الآية الكريمة مشاهد في تاريخ المسلمين قديما وحديثا، فقد تقدموا حتى سادوا العالم ورفعوا علم المدينة الحقة بالعلوم والصنائع، لما اخذوا بأسبابها كما يأمرهم دينهم، وقد تأخروا حتى كادوا يكونون دون الأمم كلها بإهمال تلك الأسباب فخسروا.
دنياهم وخالفوا مرضاة ربهم وعوقبوا بما هم عليه اليوم من الذل والانحطاط، ولا يعود إليهم ما كان لهم إلا إذا عادوا إلى امتثال أمر ربهم في الأخذ، بتلك لأسباب.
فهذه الآية من أنجع الدواء لفتنة المسلم المتأخر بغيره، المتقدم لما فيها من بيان أن ذلك المسلم ما تأخر بسبب إسلامه، وأن غيره ما تقدم بعدم إسلامه، وأن السبب في التقدم والتأخر هو التمسك والترك للأسباب، ولو أن المسلم تمسك بها كما يأمره الإسلام، لكان- مثل سالف أيامه- سيد الأنام"(54).
2- النموذج الثاني:الطور الأخير لكل أمة وعاقبته:
وأما النموذج الثاني، فعند قوله تعالى: وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَٰلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (55)
فإنه تعرض إلى موضوع السنن الكونية التي تحكم حياة الأمم في هذه الدنيا، فقال في تفسيره لهذه الآية «الأمم كالأفراد، تمر عليها ثلاثة أطوار: طور الشباب، وطور الكهولة، طور الهرم، فيشمل الطور الأول نشأتها إلى استجماعها قوتها ونشاطها مستعدة للكفاح والتقدم في ميدان الحياة، ويشمل الطور الثاني ابتداء أخذها في التقدم والانتشار وسعة النفوذ وقوة السلطان إلى استكمالها قوتها وبلوغها غاية ما كان لها أن تبلغه من ذلك بما كان فيها من مواهب وما كان لها من استعداد وما لديها من أسباب، ويشمل الطور الثالث ابتداءها في التقهقر والضعف والانحلال، إلى أن يحل بها الفناء والاضمحلال، إما بانقراضها من عالم الوجود، وإما باندراسها من عالم السيادة والاستقلال، وما من أمة إلا ويجري عليها هذا القانون العام وإن اختلفت أطوارها في الطول والقصر كما تختلف الأعمار..»(56).
وبعد تأكيده لوجود هذه المراحل، وأنها مطردة في كل الأمم ( وما من أمة إلا ويجري عليها هذا القانون العام وان اختلفت أطوارها في الطول والقصر كما تختلف الأعمار...) فقد لاحظ أن آيات القرآن التي تحدثت عن هذه الأطوار كثيرة، فقوله تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (57).
حدد أعمار الأمم بآجال المحددة قوله تعالى: وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (58).
يشير إلى إنشاء أمة على أنقاض أمة أخرى هالكة، وقوله تعالى: قَالُوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (59)
يشير إلى طور الشباب حينما تدخل الأمة معترك الحياة، فبنو إسرائيل ما استخلفوا إلا بعد أن قووا واشتدوا، وتكونت فيهم أخلاق الشجاعة والنجدة والحمية.
وذلك بعد خروجهم من التيه، وقوله تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (60)
يشير إلى الطور الثاني وهو طور الكهولة واستكمال القوة، وقوله تعالى: وَتِلْكَ الْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا (61).
يشير إلى الطور الثالث من حياة الأمم، وهو طور الانحلال والهلاك، والهلاك إنما يكون بعد أن يقيم الله تعالى عليهم الحجة، ولكن يعرضون عنها فيتمكن منهم الفساد ويكثر فيهم الظلم، فتكون نهايتهم، وقد أشار القرآن إلى خاتمة الطور الثالث والأخير في قوله تعالى: وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَٰلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (62)
وقد لاحظ ابن باديس بأن عناية القرآن الكثيرة،إنما توجهت إلى الطور الأخير، لأنه هو الطور الذي ينتشر فيه الفساد ويعم فيه الظلم والطغيان، وفيه يحل بالأمة ما تستحقه من عذاب أو هلاك، وقد أكثر القرآن من ذكر هذا الطور (لزيادة التحذير منه والتخويف من سوء عاقبته والحث على تدارك الأمر فيه بالإقلاع عن الظلم والفساد والرجوع إلى طاعة الله وإعمال يد الإصلاح في جميع الشؤون فيرتفع العذاب بزوال ما كان لنزوله من أسباب) (63).
كما بين القرآن في آيات كثيرة أسباب استحقاق الأمم العذاب أو الهلاك، كقوله تعالى: وَتِلْكَ الْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا (64) وقوله: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (65).
وقوله: وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَىٰ إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (66)
وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (67) وقوله: وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (68).
وقوله: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (69).
وبعد أن قسم أحكام الله إلى نوعين أحكام شرعية، وأحكام قدرية، وتقريره بأن الأحكام الشرعية يمكن مخالفتها، وأن الأحكام القدرية لا تتخلف أصلا ولا يخرج عن مقتضاها، استنتج أن( القرى التي قضى عليها بالهلاك والاستئصال هذه قد انتهى أمرها بالموت وفات عن العلاج مثل عاد وثمود من الأمم البائدة، وأما القرى التي قضى عليها بالعذاب، الشديد فهذه لا تزال بقيد الحياة فتداركها ممكن وعلاجها متيسر، مثل الأمم الإسلامية الحاضرة..) (70).
ثم كتب الأستاذ الإمام تحت عنوان إرشاد واستنهاض( قد ربط الله بين الأسباب ومسبباتها خلقا وقدرا بمشيئته وحكمته، لنهتدي بالأسباب إلى مسبباتها ونجتنبها باجتناب أسبابها وقد عرّفنا في الآيات المتقدمة بأسباب الهلاك والعذاب لنتقى تلك الأسباب فنسلم أو نقلع عنها فننجو، فإن بطلان السبب يقتضي بطلان المسبب) (71).
إن الحكمة من إيراد السنن الكونية في القرآن وتطبيقها على الأمم السابقة في القرآن الكريم، هو أن تبتعد الأمة الإسلامية عن أسباب الهلاك، أو العذاب.
وهنا خصوصية للفكر الباديسي وهي أن الطور الأخير لا يكون مصيره بالضرورة الهلاك والاستئصال، وإنما إذا أقلعت الأمة عن أسباب الهلاك رفع عنها العذاب، فقال رحمه الله « وقد ذكر لنا في كتابه أمة أقلعت عن سبب العذاب فارتفع عنها بعدما كاد ينزل بها ليؤكد لنا أن الإقلاع عن السبب ينجي من المسبب فقال تعالى: فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ (72)، فمبادرتهم للإيمان وإقلاعهم عن الكفر كشف عنهم العذاب، وأرشدنا في ضمن هذا إلى العلاج الناجح في كشف العذاب وإبطال أسبابه وهو الإيمان، كما أرشدنا الله إليه أيضا في قوله تعالى قبل هذا فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا أي من العذاب، وذكر قوم يونس دليلا على ذلك وأرشدنا إليه أيضا في قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (73)- فالإيمان والتقوى- هما العلاج الوحيد لنا من حالتنا لأننا إذا التزمنا هما نكون قد أقلعنا عن أسباب العذاب...(74)
3- النموذج الثالث:
وعند تفسيره قوله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (75).
أكد بأن الأرض في الآية هي الأرض الدُنيوية، لأن اللفظ موضوع لها في الأصل لغة، وهكذا فسرها حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وعليه فيكون معنى الآية أن الله وعد المؤمنين، وهم في بداية الدعوة في قلة عدد وعدة، بأنه سيورثهم الأرض، وتكون لهم فيها القوة والنفوذ، شرط التمسك بوصف الصلاح والاستمرار عليه، وهذا نظير قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (76).
ويلاحظ بأن الوعد قد علّق بوصف وهو الصلاح ليعلم بأن كل أمة اتصفت بالصلاح فإنها نائلة حظها من التمكين في الأرض والقوة والنفوذ، وفي ربط الإرث بوصف الصلاح ما يدل على أنها كانت لغيرهم فانتقلت إليهم وإنها تزول مع زوال الصلاح، بعد هذا كله، عالج موضوع الانبهار الحضاري بالغرب الذي سيطر على نفوس المسلمين، وافتتنوا به حتى تناسوا مفاسد الحضارة الغربية وشرورها، وهنا حدد ابن باديس جيدا موقفه من المدينة الغربية، وهو أن التقدم المادي التكنولوجي لا يكفل وحدة التقدم الإنساني فقال: « رأى بعض الناس المدنية الغربية المسيطرة اليوم على الأرض – و هي مدينة مادية في نهجها وغايتها ونتائجها فالقوة عندها فوق الحق والعدل والرحمة والإحسان- فقالوا إن رجال هذه المدينة هم الصالحون الذين وعدهم الله بإرث الأرض، وزعموا أن المراد بـ (الصالحون) في الآية الصالحون لعمارة الأرض، فيا لله للقرآن، وللإنسان، من هذا التخريف السخيف كأن عمارة الأرض هي كل شيء ولو ضلت العقائد، وفسدت الأخلاق واعوجت الأعمال وساءت الأحوال وعذبت الإنسانية بالأزمات الخانقة ورُوّعت بالفتن.
والحروب الجارفة، وهددت بأعظم حرب تأتي على الإنسانية من أصلها والمدنية من أساسها، هذه هي بلايا الإنسانية التي يشكو منها أبناء هذه المدنية المادية التي عمرت الأرض وأفسدت الإنسان ثم يريد هذا المحرف أن يطبق عليها آية القرآن: كتاب الحق والعدل والرحمة والإحسان، وإصلاح الإنسان ليصلح العمران، فأما الصالحون فهو لفظ قرآني قد فسره القرآن كما قدمناه وقد شرف أهله بإضافتهم إلى الله في قوله (عبادي) فحمله على الصالحين لعمارة الأرض، تحريف الكلام عن مواضعه أبشع تحريف وابطله فليحذر المؤمن ومن مثله من تحريفات المبطلين المفتونين(77).
وبعد هذا التأكيد على خطورة تحميل الألفاظ القرآنية معاني لا تشهد لها مداليل اللغة، من حيث الوضع، أو استعمال القرآن لها، واعتباره هذا لونا من الانحراف الخطير في تفسير كلام الله تعالى، التي يجب أن يكون المؤمن على حذر منها، لأنها من تحريفات المبطلين والمفتونين، بعد هذا كُلّه، عاد ليؤكد مكانة السنن الإلهية النافذة، فقال: "موعظة وإرشاد: فعلى الأمم التي تريد أن تنال حظها من هذا الوعد أن تصلح أنفسها الصلاح الذي بينه القرآن فأما أن لم يكن لها حظ من ذلك الصلاح فلاحظ لها من هذا الوعد وإن دانت بالإسلام، ولله سنن نافذة بمقتضى حكمته ومشيئته في ملك الأرض وسيادة الأمم يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء.
من أخذ بنوع من تلك السنن بلغت به وبلغ بها إلى ما قدر له من عز وذل وسعادة وشقاء وشدة ورخاء وكل محاولة لصدها عن غايتها- وهو آخذ بها- مقتضى عليها بالفشل، سنة الله ومن ذا يبذّلها أو يحولها،....(78).
فهذه النماذج- وغيرها كثير- تبين مدى اهتمام الشيخ عبد الحميد بن باديس بالسنن الكونية في تفسيره، وجعله لها قاعدة من قواعد منهجه في فهم القرآن الكريم، لأنه اتخذ من درس التفسير مجالا لمعالجة مشاكل المسلمين، السياسية والاجتماعية، والحضارية، عن طريق التشخيص الدقيق للأسباب، وتلّمس الحلول لها، من كتاب الله عز وجل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وفهم السلف الصالح للدين، البعيد عن تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
وفي ختام هذه الدراسة لا يسعني إلا أن أرفع نداء حارا، لطلابنا وطالباتنا في أقسام الدراسات العليا أن يولوا تفسير ابن باديس عناية فائقة، تليق بمقامه وتبوئه المكانة التي يستحقها، وأن يسلطوا أضواء البحث على جوانب كثيرة من هذا التفسير لا تزال مجهولة أو لم تدرس بما فيه الكفاية، ويحسن بي أن أذكر هنا بكلمة سمعتها شخصيا من الإمام الداعية المرحوم الشيخ محمد الغزالي رحمه الله تعالى رحمة واسعة، الذي كان كثير الإكبار للشيخ ابن باديس وجهوده لإصلاحية وهي قوله «من الوفاء لإبن باديس، أن تكتب عدة أطروحات جامعية، تكشف عن أسرار تفسير ابن باديس».
اللهم إننا نسألك حسن التوفيق، ونعوذ بك من الخيانة.
الهوامش:
[1] - سورة البقرة الآية، 1-2
2 - سورة المائدة، الآية 15-16
3 - سورة الإسراء، الآية 9.
4 - سورة الأعراف، الآية 157.
5 - سورة آل عمران، الآية 138.
6 - سورة يونس، 57.
7 - سورة الإسراء، الآية 82.
8 - كيف نتعامل مع القرآن، الشيخ محمد الغزالي، ص71.
9 - المرجع نفسه، ص 71.
10 - خاطرات جمال الدين الأفغاني، محمد المخزومي، ص 99-100.
11 - جمال الين الأفغاني، أحاديث وذكريات، عبد القادر المغربي، ص61.
12 - المصدر نفسه، ص 99.
13 - تفسير المنار، محمد رشيد رضا، ج1 ص17.
14 - الوحي المحمدي، رشيد رضا، ص 12.
15 - مجالس التذكير، من كلام الحكيم الخبير، ص 27.
16 - مجالس التذكير، ص 476.
17 - مجالس التذكير، ص 251.
18 - مجالس التذكير، ص 251.
19 - عبد الحميد بن باديس، رائد الحركة الإصلاحية في الجزائر، د. محمد فتحي عثمان، ص 7-8.
20 - مفردات غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، ص 251.
21 - تفسير المنار، ج4، ص 140.
22 - رواه مسلم في صحيحه، باب الحث على الصدقة.
23 - علوم الحديث ومصطلحه الدكتور صبحي الصالح، ص 3.
24 - المنهج الإسلامي في دراسة المجتمع، نبيل السمالوطي، ص 53.
25 - أنظر كتاب المحاور الخمسة للقرآن الكريم، المحور الثاني، الكون الدال على خالقه، ص 57.
26 - سر تأخر العرب والمسلمين، محمد الغزالي، ص 30، للمفكر الفرنسي المشهور، صاحب كتاب (الإنسان ذلك المجهول) – كلام نفيس في الموضوع (إذ يقول) قبل أن أبدأ هذا الكتاب كنت أدرك بدّ سيؤديه، لأن الناس لا يستطعون أن يتبعوا الحضارة العصرية في مجراها الحالي، لأنهم آخذوا في التدهور والانحطاط، لقد فتنهم جمال علوم الجماد، لأنهم لم يدركوا أن أجسامهم ومشارعهم تتعرض للقوانين الطبيعية، وهي قوانين أكثر غموضا وأن كانت تتساوي في الصلابة مع القوانين الدنيا... كذلك فهم لم يدركوا أنهم لا يستطيعون أن يعتدوا على هذه القوانين دون أن يلاقوا جزاءهم، ص 11 ترجمة شفيق أسعد.
27 - تفسير المنار، ج ص 140 وما بعدها.
28 - مقدمات في التفسير الموضوعي، محمد باقر الصدر، ص 71.
29 - في كتابه سر تأخر العرب والمسلمين، كتب فصلا بعنوان (بعض سنن الله الكونية من القرآن)، وفي كتابه (كيف نتعامل مع القرآن) سماها (السنن الإلهية).
30 - المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، مادة (سنة) و 'سنن)، ص 367.
31 - سورة القصص، الآية 83.
32 - التفسير الإسلامي للتاريخ، عماد الدين خليل،ص 108.
33 - كيف نتعامل مع القرآن ، محمد الغزالي، ص 67.
34 - إحياء علوم الدين، أبو حامد الغزالي، ج1 ص 47.
35 - المصدر نفسه، ج1 ص 47.
36 - تفسير المنار، ج7، ص 500.
37 - المقدمة، عبد الرحمن بن خلدون،ج1، ص 30- 35.
38 - المقدمة ج1، ص 37.
39 - سورة الرعد، الآية11.
40 - العروة الوثقى، جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ص 172.
41 - سورة آل عمران، الآية 137-141.
42 - تفسير المنار، ج4 ص 140.
43 - تفسير المنار، ج4، ص 141.
44 - تفسير المنار، ج7، ص 500.
45 - انظرنا في هذا مقالنا مالك بن نبي ومناهج التفسير) الموافقات، ع3، جوان 1994.
46 - سورة الرعد، الآية 11.
47 - شروط النهضة، مالك بن نبي، ص 72.
48 - سورة الإسراء، الآية 18.
49 - سورة الشورى، الآية 20.
50 - سورة هود، الآية 15.
51 - مجالس التذكير، ص 82.
52 - مجالس التذكير، ص 82.
53 - سورة الإسراء، الآية 20.
54 - مجالس التذكير، ص 91.
55 - سورة الإسراء الآية 58.
56 - مجالس التذكير، ص 162.
57 - سورة الأعراف، الآية 34.
58 - سورة الأنبياء، الآية 11.
59 - سورة الأعراف، الآية 129.
60 - سورة النحل، الآية 112.
61- سورة الكهف، الآية 59.
62 - سورة الإسراء، الآية 58
63 - مجالس التذكير، ص 165.
64 - سورة الكهف، الآية 59.
65 - سورة هود، الآية117.
66 - سورة القصص، الآية 59.
67 - سورة الأنبياء، الآية 11.
68 - سورة الطلاق، الآية 8.
69 - سورة النحل، الآية 112.
70 - مجالس التذكير، ص 165.
71 - نفسه، ص 165.
72 - سورة يونس، الآية 98.
73 - سورة الأعراف، ص 96.
74 - مجالس التذكير، ص166.
75 - سورة الأنبياء، الآية 105.
76 - سورة النور، الآية 55.
77 - مجالس التذكير، ص 210.
78 - مجالس التذكير، ص 210.