المنهج النقدي في التفسير عند الإمام عبد الحميد ابن باديس 2/2
بقلم: د. محمد الدراجي -
المنهج النقدي في تفسير الألفاظ و التراكيب
إن المدخل الطبيعي لفهم أي نص من النصوص، هو الإحاطة بمعاني ألفاظه بحسب الوضع اللغوي، والقرآن الكريم تنطبق عليه هذه القاعدة، وعليه فإن أول ما ينبغي أن يحرص عليه المفسر هو معرفة ألفاظه، ولذا فقد أخرج البيهقي من حديث أبي هريرة مرفوعا:« أعربوا القرآن و التمسوا غرائبه«(22).
والمراد بالإعراب في هذا الأثر هو التعرف على معاني الألفاظ، وليس المعنى الاصطلاحي للإعراب لأنه لم يكن قد عرف حينئذ، قال صاحب الإتقان:« المراد بإعرابه معرفة معاني ألفاظه و ليس المراد به الإعراب المصطلح عليه عند النحاة وهو ما يقابل اللحن، لأن القراءة مع فقده ليست قراءة و لا ثواب فيها«(23).
ولأهمية ألفاظ القرآن الكريم في فهم نصوصه فقد أفردها العلماء بفن من أنواع علوم القرآن وهو (معرفة غريبه)، وعدوا معرفة هذا الفن ضرورية للمفسر، لأن عدم العناية بتدبر ألفاظ القرآن الكريم أوقع كثيرا من المفسرين في أخطاء شنيعة غير مقبولة، ومن الأمثلة على هذه المزالق الخطيرة، حمل الإمام الطبري قوله تعالى: «واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن... « فقد حمل معنى (اهجروهن) على أنه : يربطن بالهجار و هو الحبل في البيوت، فعد أبو بكر بن العربي هذا هفوة من عالم بالقرآن و السنة تدعو إلى التعجب فقال: «وعجبا له مع تبحره في العلوم ولغة العرب كيف بعد عليه صواب القول، وحاد عن سداد النظر، فلم يكن بد و الحالة هذه من أخذ المسألة من طريق الاجتهاد المفضية بسالكها إلى السداد، فنظرنا في موارده (هـ،ج، ر) في لسان العرب على هذا النظام... و إذا ثبت هذا و كان مرجع الجميع إلى البعد فمعنى الآية: أبعدوهن في المضاجع و لا يحتاج إلى هذا التكلف الذي ذكره العالم و هو لا ينبغي لمثل السدي والكلبي فكيف لأن يختاره الطبري«(24).
وتجدر الإشارة إلى أن الضلالات التي ابتدعتها بعض الفرق الإسلامية، لتأييد أهوائها، كان منطلقها تجاوز دلالات الألفاظ اللغوية، ولقد أدرك العلامة ابن تيمية هذا فقال:[وتفاقم الأمر في الفلاسفة و القرامطة و الرافضة فإنهم فسروا القرآن بأنواع لا يقضي منها العالم عجبه كقولهم:« تبت يدا أبي لهب" هما أبو بكر و عمر ، و« إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة« هي عائشة، و « قاتلوا أئمة الكفر« هما طلحة و الزبير، و« مرح البحرين يلتقيان« علي و فاطمة، « و يخرج منهما اللؤلؤ و المرجان« الحسن و الحسين ، و« كل شيء أحصيناه في إمام مبين« علي بن أبي طالب وغير ذلك من مثل هذه الخرافات التي تتضمن تارة تفسير اللفظ بما لا يدل عليه بحال، و أخرى جعل اللفظ المطلق العام منحصرا في شخص](25).
والعلامة عبد الحميد ابن باديس جعل من أهم قواعد منهجه في التفسير بيان الألفاظ و شرح معانيها، شرحا وافيا يساعد على فهم النص القرآني المراد تفسيره، ولقد تحدث ابن باديس نفسه عن هذا فقال في خطبته افتتاح دروس التفسير :« فقد عدنا- و الحمد لله- إلى مجالس التذكير من دروس التفسير نقتطف أزهارها ونجتني ثمارها بيسر من الله تعالى وتيسيره، على عادتنا في تفسير الألفاظ بأرجح معانيها اللغوية وحمل التراكيب على أبلغ أساليبها البيانية.. «(26).
ونمثل لحمل ابن باديس لألفاظ الآية بأرجح معانيها اللغوية، بأسلوب بعيد عن الصعوبة خال من التعقيد، معتمدا في ذلك على أصح معاجم اللغة ودواوينها، كلسان العرب لابن منظور، ومعجم الصحاح للجوهري...إلخ، أنه عند تفسير قوله تعالى : وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا قال:« قال في لسان العرب: ( الأزهري و غيره جماع معنى الفتنة، الابتلاء و الامتحان و الاختبار و أصلها مأخوذ من قولك فتنت الفضة و الذهب إذا أذبتهما لتمييز الرديء من الجيد)، ومنه قوله تعالى : (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) و قوله تعالى وَفَتَنَّكَ فُتُونًا و قوله تعالى وَنَبلُوكُم بالشَّرِّ وَالخير فِتنَة "أتصبرون" و "الصبر" حبس النفس على المكروه، و المكروه لها فعل ما فيه تعب و ترك ما فيه لذة، ويكون في المشروع و المقدور، ففي الأول بالقيام بالمأمورات و الترك للمنهيات، و في الثاني- و هو المصائب و البلايا- بالرضا و التسليم للخالق و عدم الاعتراض عليه، و عدم السعي في إزالتها بغير الوجه المأذون فيه....»(27)
وبالإضافة إلى الدقة والوضوح في الشرح اللغوي للألفاظ فإنه- رحمه الله- قد اهتم بالتراكيب في الآيات و تحليلها بطريقة تبرز خصائص الأسلوب القرآني، و إعجازه البياني و البلاغي دون الوقوع في المماحكات اللفظية، و الخلاف بين النحاة و اختلافات مدارسهم، و سأكتفي بإيراد مثال واحد، وهو عند تفسير قوله تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا، فقال رحمه الله:« التراكيب: أمروا بالدعاء لتوقيفهم على خيبتهم فيه بظهور عجز من يدعون، وحذف مفعول زعم، و التقدير زعمتموهم آلهة، للعلم بهما لأنهم ما دعوهم إلا لكونهم آلهة في زعمهم، ولا يملكون: وقع بعد الفاء ولم يجزم في جواب الأمر لأنه خبر لمبتدأ محذوف، تقديره فهم لا يملكون وهذا لأن الفاء قصد بها العطف ولم يقصد بها السببية، لأن ذلك يقتضي أن يكون عدم ملكهم متسببا عن الدعاء مثلها في قول الشاعر: رب وفقني فلا أعدل عن سنن الساعين في خير سنن.
فإن عدم العدول متسبب عن التوفيق، و ليس كذلك الأمر في هذه الآية فإن عدم ملكهم متحقق سواء دعوا أو لم يدعوا، فلذلك امتنع النصب و وجب الرفع على التقدير المقدم»(28)
ومن هذا المثال نرى أن ابن باديس رحمه الله، لم يغرق تفسيره بمباحث نحوية، و قضايا إعرابية يضيع معها المقصد الأساسي للتفسير وهو معرفة الشرائع و الأحكام، و إنما كان يأخذ التركيب على هذه الصفة و لم يكن على تلك و هكذا...ولذا قال أحد الباحثين المعاصرين :« فهو يأخذ من النحو بمقدار الضرورة بحيث يكون في تناوله خدمة للمعنى الذي هو بصدده و ذلك بدون أن يتجاوز مقدار الحاجة» (29).
ونظرا لهذا المنهج الذي اتبعه ابن باديس في التعامل مع الألفاظ و التراكيب، فإنه اشتد في نقد المفسرين الذين لم يولوا في تفاسيرهم هذا الجانب عناية كبيرة، فخلطوا في شرح الألفاظ وحملوا التراكيب ما لا تحتمله من المعاني.
ولننظر إليه- رحمه الله- وهو يفسر قوله تعالى : أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ {128} وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ {129}وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ {130} فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ {131}
فقد أوضح- رحمه الله- أن هذه الآية كشفت لنا نواحي كثيرة من تاريخ العرب، ومدى ما بلغته العرب من مدنية وحضارة، فهي نص صريح في استحكامهم بعلم تخطيط المدن و العمران بوجه عام.
ولكن الذي لم يعجب ابن باديس هو حمل المفسرين للفظ المصانع في الآية على معنى القصور أو مجاري المياه، وهذا التفسير تشهد له معاجم اللغة و دواوينها بالصحة،ـ ولكن ابن باديس لم يعجبه هذا الاتجاه التفسيري فقال: « ولكن ليت شعري ما الذي صرف المفسرين اللفظين على معنى المصنع اللفظي الاشتقاقي، و الذي أفهمه ولا أعدل عنه، هو أن المصانع جمع مصنع من الصنع كالمعامل من العمل و أنها مصانع حقيقية للأدوات التي تستلزمها الحضارة و يقتضيها العمران » ثم أكد رحمه الله أن هذا ليس كثيرا على أمة وصفها القرآن بما تقدم في الآية، لأن المصانع هي أول مستلزمات العمران، ثم قال مناقشا من يتشكك في حملها على المصانع بمعنى المعامل معتمدا على أن الآيات قبحتها و هذا لا يعقل ما يلي :« ولا يقولن قائل إذا كانت المصانع ما فهمتم فلماذا يقبحها لهم و ينكرها عليهم، فإنه لم ينكرها عليهم لذاتها و إنما أنكر عليهم غاياتها و ثمراتها، فإن المصانع التي تشيد على القسوة لا تحمد في مبدأ و لا غاية ... ومن محامد المصانع أن تشاد لنفع البشر و لرحمتهم و من لوازم ذلك أن تراعى فيها حقوق العامل على أساس أنه إنسان لا آلة»(30).
وهذا التفسير الذي انتصر إليه ابن باديس من كون المصانع في الآية جمع مصنع من الصنع، هو تفسير تشهد له الدلالة اللغوية للكلمة كما وردت في معاجم اللغة، إذ من معانيها اللغوية ما يصنعه الناس، ثم ما يقوي هذا الرأي- في نظري و الله أعلم- أن السياق يفيده و يشهد له، فقوله تعالى أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ {128} يشمل كل المعاني التي ذكرها المفسرون للمصانع من البناء و الحصون، ومجاري المياه، إلخ و يأتي بعده قوله تعالى وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ {129} يفيد معنى جديدا، غير مذكور في التركيب السابق، و إعمال الكلام أولى من إهماله والتأسيس مقدّم على التأكيد.
وضرب ابن باديس مثالا آخر عن عدم الالتزام بدلالات الألفاظ، فقال مبديا تعجبه: «ولا أغرب من تفسير هؤلاء المفسرين للمصانع إلاّ تفسير بعضهم للسائحين و السائحات بالصائمين و الصائمات، والحق أن السائحين هم الراحلون و الرواد للاكتشاف و الإطلاع و الاعتبار، و القرآن الذي يحث على السير في الأرض و النظر في آثار الأمم الخالية حقيق بأن يحشر السائحين في زمرة العابدين الساجدين فربما كانت فائدة السياحة أتم وأعم من فائدة بعض الركوع و السجود»(31)
والذي يقصده ابن باديس هنا هو تفسير جمهور المفسرين للفظة " السائحون" في قوله تعالى: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)
و لفظة " السائحات" عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)
فجمهور المفسرين فسروا السياحة هنا بالصيام، حتى قال الزجاج: هو قول أهل التفسير و اللغة جميعا، و الذي دعاهم إلى هذا التفسير هو الحديث المروى عن النبي و الذي جاء فيه" سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله"(32).
ولكن هناك اتجاه آخر في تفسير الآية و هو أن المراد بهم السائرون في الأرض، يقول العلامة جمال الدين القاسمي:«...لو أخذ هذا الحديث تفسيرا للآية لالتقى مع كل ما روي عن السلف فيها، لأن الجهاد في سبيل الله، كما يطلق على جهاد المشركين، يطلق على كل ما فيه مجاهدة للنفس في عبادة الله ، ومنه الهجرة و الصوم و السفر للتفقه في الدين و الاعتبار بل ذلك هو الجهاد الأكبر، هذا على إرادة التوفيق بين الماثورات، أما لو أريد باللفظ أصل حقيقته اللغوية، أعني الضرب في الأرض خاصة، الذي عبر عنه عكرمة بالمتنقلين لطلب العلم لكان بمفرده كافيا في المعنى، مشيرا إلى وصف عظيم و هذا ما حدا بأبي مسلم أن يقتصر عليه وهو الحق في تأويل الآية»(33).
وهكذا يرجح الشيخ جمال الدين القاسمي أن المعنى الحقيقي هو الحق في هذه الآية، لعدم ما يمنع منه، ولذا نقل عن بعض المحقين أنه يستفاد من هذه الآية (التحريم/5) مشروعية السياحة للنّساء كما هي كذلك للرجال ثم قال :« كأن الذي دعا البعض لتفسير ( السائحات) بالصائمات أو بخصوص المهاجرات، تصوره أن السياحة في البلاد لا تناسب طبيعة النساء، أو كأنهن لم يخلقن إلا لسجون البيوت التي ربما تكون أنكى من أعمق سجون الحياة....»(34).
وكما اشتد ابن باديس رحمه الله في نقد بعض المفسرين على شرحهم لبعض الألفاظ القرآنية، فإنه وجه سهام النقد كذلك إلى بعض المفسرين في حملهم للتراكيب في بعض الآيات على غير وجهها الصحيح، وسأكتفي بإيراد واحد مثال، وهو عند تفسيره لقوله تعالى: لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ( 15 ) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ( 16 ) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ ( 17 ) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ ( 18 ) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ
فأكد أولا على أن هذه الآيات معجزة في البلاغة إذ استوعبت تاريخ أمة بكامله في سطور معدودة، ثم قال بأن هذه الآيات شاهد صدق على المدنية الزاهرة، والحضارة الراقية التي بلغتها تلك الأمة العربية، فتلك المدنية كانت عامرة بالبساتين عن يمين السائر وشماله، ثم إن أصحابها كانوا متحكمين في بناء السدود، وما كانوا ليبلغوا هذا المبلغ لولا تحكمهم في الهندسة الذي هو ثمرة عدة علوم فكرية أخرى.
ولكنهم كفروا بأنعم الله هذه، و وظفوها في ما يغضب الله و يسخطه، فسلط الله عليهم من الأسباب ما خرب عمرانهم و أباد حضارتهم...
وتصرح هذه الآيات أن عمرانهم كان متصلا بعضه ببعضه، فلا يخرج السائر من قرية حتى تلوح له أعلام القرية الأخرى... وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ ۖ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) وبالإضافة إلى قوة العمران، فقد كان الأمن شائعا، ليلا ونهارا.
ولكن الشيء الذي كان ينقص هو الإيمان و الشكر فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ
فما معنى قولهم رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا هناك اتجاه عند بعض المفسرين مفاده أن هؤلاء بطروا هذه النعمة، و أحبوا المفاوز يحتاجون في قطعها إلى الزاد و الرواحل و السير في المخاوف فطلبوها، كما طلب بنو إسرائيل من موسى عليه السلام أن يخرج لهم مما تنبت الأرض مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا مع أنهم كانوا في عيش رغيد، في منَّ و سلوى و ما يشتهون من مآكل ومشارب و ملابس مرتفعة (35).
ولكن ابن باديس لم يعجبه هذا الاتجاه التفسيري فقال منتقدا : و أما قوله تعالى : رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا فإن المفسرين السطحيين يحملونه على ظاهره و أي عاقل يطلب بعد الأسفار؟
والحقيقة أنهم لم يقولوا هذا بألسنتهم و إنما هو نتيجة أعمالهم، ومن عمل عملا يفضي إلى نتيجة لازمة فإن العربية تعبر عن تلك النتيجة بأنها قوله، وهذا نحو من أنحاء العربية الطريفة(36).
بمعنى أن الأعمال التي كانوا يقومون بها كانت تستلزم ذلك الجزاء، وهو زوال العمران المتلاحم الذي كان يرتاح فيه المسافر...
وهذه الأمثلة التي أوردناها تعكس الحس النقدي الذي كان يتمتع به العلامة عبد الحميد بن باديس، و الدقة العلمية عنده في التعامل مع الألفاظ و التراكيب في الآيات المراد تفسيرها، فلم يكن رحمه الله مجرد ناقل لأقوال السابقين من المفسرين، و إنما كان ينقل بفهم، وينقد بعقل، فيقبل ما يراه مقبولا، ويرد ما يراه غير مقبول.
المنهج النقدي للمأثور في التفسير:
إذا كان التفسير بالمأثور هو التفسير الذي يتتبع صاحبه ما جاء في القرآن نفسه من وجوه البيان لآي القرآن الكريم، وكذا ما روى عن النبي÷ من تفسير للقرآن، وما روي عن الصحابة رضوان الله عليهم و التابعين مما هو تفسير لآي الكتاب الحكيم.
وعليه فمظاهر تفسير القرآن بالمأثور ثلاثة:
أ- تفسير القرآن بالقرآن:
إن المصدر الأول و الأساسي الذي كان ابن باديس يعول عليه في فهم نصوص القرآن الكريم، هو القرآن نفسه، لأن القرآن يفسر بعضه بعضا وهو بهذا الاعتبار يشكل وحدة متكاملة، يقول العلامة ابن باديس معجبا بهذه القاعدة الجليلة من قواعد التفسير : «وما أكثر ما تجد في القرآن بيانا للقرآن فاجعله من بالك تهتد – إن شاء الله- إليه»(37).
ولقد تعددت مظاهر تفسير القرآن بالقرآن في تفسير ابن باديس، ولا أظن أنني أحيد عن الجادة، أو أبعد عن الصواب إذا قلت بأن السمة المُمَيزّة لتفسير ابن باديس هي هذه، وقد تقدم معنا قول الإبراهيمي المؤكد لهذا الاستنتاج العلمي ،« فسلك في درس كلام اله أسلوبا سلفي النزعة و المادة، عصري الأسلوب و المرمى، مستمدا من آيات القرآن و أسرارها أكثر ما هو مستمد من التفاسير و أسفارها»(38).
وإنما الذي يَهمّنا في مقالنا هذا هو توظيفه لهذه القاعدة في منهجه النقدي في التفسير فعند تفسير قوله تعالى : وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا فإنه قد ناقش زعم القائلين بأن كمال التعظيم لله ينافيه أن تكون العبادة معها خوف من عقابه أو طمع في ثوابه، وهو زعم كان له رواج كبير في وسط المتصوفة فكتب رحمه الله مقالا موسعا تحت عنوان : أيهما أكمل: العبادة مع رجاء الثواب وخوف العقاب أم العبادة دونهما؟ يعكس مدى تضلع ابن باديس في علوم الشريعة وإحاطته بأسرارها، ودقة منهجه في المناقشة والرد، وبعد عرضه كثيرًّا من الآيات في الموضوع وحسن استدلاله منها على المراد قال: « ولا تجد في القرآن آية واحدة دالة صريحة على ذكر عبادة – هكذا- دون خوف أو طمع»(39).
ب- تفسير القرآن بالسنة:
إن الأمر المتفق عليه بين علماء الشريعة أنه بعد كتاب الله عز وجل في بيان معاني الكتاب، تأتي سنة رسول الله، فهي التي تشرح وتفسر معانيه و تبين ما ورد من آياته مجملا، وتقيد ما ورد مقيدا وهكذا.
ولقد كان العلامة ابن باديس كثيرا الاحتفاء بهذا المصدر من مصادر التفسير، كثير الاعتناء به، فعند تفسير قوله تعالى : وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا وبعد تأكيده على عالمية الرسالة الإسلامية، التي تفيدها هذه الآية، والحكمة من ذلك، فإنه أورد حديثا نبويا يؤكد هذا المعنى وهو الحديث الذي يقول فيه صلى الله عليه وسلم :« أعطيت خمسا له يعطهن أحد قبلي كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر و اسود» ثم قال رحمه الله معلقا على هذا التفسير :« وما أحسن التفسير تعضده الأحاديث الصحاح»(40).
والذي يطالع تفسيرا بن باديس يجده حافلا بالمأثور، مما يدل على أن ابن باديس أولى هذه القاعدة الجليلة – تفسير القرآن بالسنة- عناية فائقة، و اهتماما كبيرا، كيف لا و هو الذي أكد أكثر من مرة في تفسيره، على أنه يجب الفزع إلى السنة النبوية لاستجلاء معاني القرآن الكريم، « فعلينا أن يكون أول فزعنا في الفرق و الفصل إليه (الكتاب) و أن يكون أول جهدنا في استجلاء ذلك من نصوصه ومراميه مستعينين بالسنة القولية و العملية على استخراج لآليه...»(41).
وتجدر الإشارة إلى أن ابن باديس بين أن الكثير من الأحاديث و الآثار التي ينقلها المفسرون على أنها تفسير بالمأثور، لا يكون لها تعلق مباشر بالآيات المراد تفسيرها ، وهنا نورد كلمة قيمة للعلامة محمد الدين القاسمي في الموضوع :« لما كان كثير من الأحاديث المروية تتشابه مع الآيات كان ذلك مما يقرب بينهما ويدعو إلى اتحاد المراد منهما، لما تقرر من شرح السنة للكتاب، وهذا ما درج عليه المحدثون قاطبة فترى أحدهم إذ أرى في خبر ما يشير إلى الآية قطع بأنه تفسيرها و وقف عنده و لم يتعده و أما من فتح للتدبر بابا و مهد للنظر مجالا، ورأى بأن الأثر قد يكون من محمولات الآية ومصادقاتها و أنها أعمّ و أشمل، أو إن حمل الخبر عليها اشتباه أفضى إليه التشابه، فذاك وسع للسالك المسالك، وفتح للمريد المدارك، و رقاه من حظيرة النقل إلى فضاء العقل و لكل وجهة»(42).
ومحطة أخرى يجب التوقف عندها، وهي أن ابن باديس يفهم السنة في ضوء القرآن الكريم، و في دائرة توجيهاته، وبما أن السنة هي شارحة هذا الدستور ومفصلته فيجب و أن لا تعارضه، فقال :« إن السنة النبوية و القرآن لا يتعارضان ولهذا يرد خبر الواحد إذا خالف القطعي من القرآن»(43).
وتطبيقا منه لهذه القاعدة فإنه عند تفسير قوله تعالى:ﭽ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﭼ أكد بأن العرب لم يأتهم نذير قبل النبي ÷ بنص هذه الآية وغيرها من الآيات كلها قواطع من نجاة أهل الفترة وعليه فأبوَا النبي ÷ ناجيان بعموم هذه الأدلة ولا يعارض تلك القواطع حديث مسلم عن أنس رضي الله عنه... لأنه خبر أحاد فلا يعارض القواطع وهو قابل للتأويل يحمل الأب على العم مجازا يحسنه المشاكلة اللفظية و مناسبته لجبر خاطر الرجل وذلك من رحمته وكريم أخلاقه(44).
و في هذا الإطار دائما، ندرج موقفه رحمه الله من سحر النبي ÷ فإنه يرى بأن شرور الدنيا لا تعدو أبدان الأنبياء إلى أرواحهم، وعلى هذا فإنه يرى بأن سحر النبي ÷كان تأثيره على بدنه ÷ فحسب، ولا علاقة له بروحه الطيبة فقال:« ولا يتعاصى على هذه القاعدة ما ورد في سحر لبيد بن الأعصم اليهودي لرسول الله صلى الله عليه وسلم و ما يوهمه لفظ الرواية فإن ذلك كله لا يخرج عن التأثير البدني»(45)
و حديث سحر النبي صلى الله عليه وسلم، حديث صحيح أخرجه الشيخان في صحيحهما، ولكن تباينت مواقف العلماء منه، فالشيخ محمد عبده يرى بأن هذا الحديث يتعارض مع صريح القرآن، الذي جاء فيه:« إن تتبعوا إلا رجلا مسحورا» و هي آية صريحة في نفي أن يكون صلى الله عليه وسلم، قد خولط عقله، الأمر الذي يثبته حديث السحر،«... يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما فعله...» وما دام القرآن مقطوعا به تواترا، وجب الاعتقاد بما جاء به وأثبته، وعدم الاعتقاد بما ينفيه.
ولكن الشيخ محمد رشيد رضا كان له موقف آخر، يختلف عن موقف شيخه محمد عبده فهو يرى بأن المراد من السحر في هذا الحديث هو خاص بمسألة مباشرة النساء لا غير، و إنما فهم أكثر الناس أنه صلى الله عليه وسلم، سحر سحرا أثر في عقله هو الذي أدى بالشيخ محمد عبده و غيره من علماء المعقول إلى إنكاره و اعتباره طاعنا في النبوة ومنافيا للعصمة، في حين أن الحديث- في نظر الشيخ محمد رشيد رضا- كناية عن الأمر الخاص و ليس عاما في كل شيء فقال رحمه الله فلا يدخل فيه شيئ من أمور التشريع و لا غير غشيان الزوجية من الأمور العقلية أو الأمراض البدنية، فضلا عما كان يريده الذين يرمون الأنبياء بسحر الجنون لأن أمورهم فوق المعقول عند أولئك الكافرين، فالمسألة محصورة حتى الآن فيما يسمونه الربط أو العقد أي عقد الرجل المانع من مباشرة زوجه فقط....»(46).
ونلاحظ أن موقف العلامة محمد رشيد رضا من سحر ÷، وموقف ابن باديس رحمهما الله، يتفقان في أن الحديث لا علاقة له بأمور التشريع، وقضايا النفس و الروح، وإنما كان تأثيره على بدنه فحسب، كما رأى ابن باديس، في حين أن الشيخ محمد رشيد رضا يرى أنه في أمر خاص لا غير و هو معاشرة النساء فقط.
نقده الإسرائيليات
إن أسلوب القرآن في تناول قصص الأمم الماضية، هو التركيز على استلهام العظة و العبرة من الحدث التاريخي، و لم يكن غرضه الأساسي البحث عن تفاصيل الأحداث التاريخية، و أزمنة وقوعها، و أسماء الأشخاص...وهكذا، فكل هذا ورد مبهما لم يفصل فيه القرآن الكريم.
وعوض أن يوجه المفسرون القدامى كل عنايتهم إلى القصص القرآني لاستخلاص الدروس، واستنباط العظة والعبرة منها، ومحاولة الوصول إلى السنن الكونية التي تحكم سير المجتمعات، وبناء المدنيات،ـ وتدهور الحضارات وهي أحكام وجودية لا تقل أهمية عن الأحكام الشرعية التي أخذت من الفقهاء و المفسرين كل جهودهم عوض هذا كله فإنهم شوهوا جمال التفسير القرآني بمروريات أهل الكتاب (الإسرائيليات) فنقلوا عنهم تفاصيل الأحداث وأسماء الأشخاص وبالغوا في النقل عنهم، حتى نقلوا عنهم بعض التفاهات كلون كلب أهل الكهف، والجزء من البقرة الذي ضرب به القتيل...إلخ وتركيز العلامة عبد الحميد ابن باديس على إبراز الهداية القرآنية من خلال تفسيره لآيات القرآن، جعله لا يلتفت إلى الروايات الإسرائيلية، ويعرض عن ذكرها، لأنه يعلم علم اليقين و أنها تشغل القارئ للتفسير عن القانون الذي يتضمنه الحدث التاريخي، ويتجلى لنا موقف ابن باديس من الإسرائيليات، من خلال تفسيره لقوله تعالى: فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)
إذ اغتنمها فرصة لرد تلك الروايات التي بالغت في تعظيم ملك سليمان و أنه عليه الصلاة و السلام ملك مشارق الأرض ومغاربها، وكيف يعقل ذلك و هذه مملكة عظيمة- وهي ملكة سبأ- وكانت باليمن و لم يعلم سليمان من أمرها شيئا حتى أطلعه الله عليها بواسطة الهدهد، فقال تحت عنوان (تحقيق تاريخي) :« رويت في عظم ملك سليمان روايات كثيرة ليست على شيء من الصحة ومعظمها من الروايات الإسرائيلية، الباطلة التي امتلأت بها كتب التفسير مماّ تلقي من غير تثبيت ولا تمحيص من روايات كعب الأحبار ووهب بن منبه، وروى شيئا من ذلك الحاكم في مستدركه، وصرح الذهبي ببطلانه، ومن هذه المبالغات الباطلة
أنه ملك الأرض كلها مشارقها و مغاربها، فهذه مملكة عظيمة بسبأ كانت مستقلة عنه و مجهولة لديه على قرب ما بين عاصمتها باليمن و عاصمته بالشام»(47).
فالأساس الذي اعتمده ابن باديس في رفض تلك الروايات هو عدم صحتها ومخالفتها للمعقول والمنقول على حد سواء، و عليه فإذا صحت الرواية عن أهل الكتاب، ودليل ذلك موافقتها لما ورد في شرعنا، فإنه كان يعتمدها، فعند تفسير قوله تعالى : يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ فإنه لم يتحرج في النقل عن الإنجيل معنى معينا مادامت المصادر في النقل عن الإنجيل معنى معينا مادامت المصادر الإسلامية تشهد له فقال:« في أول الإصحاح العشرين من سفر اللاويين التصريح برجم الزناة فأبطل أحبارهم هذا الحكم وعوضوه بغيره من التخفيف وكتموا النص فبينه لهم ÷والقصة مشهورة في كتب السنن»(48).
ومثل هذا كثير في تفسير ابن باديس رحمه الله وهو يدل على انضباطه بالضوابط العلمية التي وضعها العلماء المحققون للتعامل مع الروايات الإسرائيلية، وهي قبول ما ورد في شرعنا ما يؤكد صحته، ورفض ما ورد في شرعنا ما يكذبه، والسكوت عما سكت عنه، فلا يصدق و لا يكذب، ولكن عدم تصديقه أو تكذيبه لا يعني أن نحشره في مجال التفسير القرآني، و أن نزاحم به الأقوال المعتمدة والروايات الصحيحة في التفسير، وذلك حين ايراده على أنه أحد الأقوال و الآراء في تفسير الآية.
نقد المنهج الصوفي في التفسير
ما كان للصوفية أن ينفردوا بمنهج خاص بهم في فهم القرآن الكريم لو لم يشهد التصوف ذلك التحول الخطير عبر مراحله التي مرّ بها، وهو تحوله (التصوف) من نظرية في السلوك قائمة على العبادة ومجاهدة النفس ومحاربة آفاتها، ومحاولة السير بها في منازل الإحسان و العروج با في مدارج الكمال إلى نظرية في المعرفة تعتمد الكشف والإلهام والرياضة الروحية طرقا لاكتساب المعارف و العلوم.
يومها أصبح للصوفية منهجهم الخاص، و فهمهم المستقل لنصوص القرآن الكريم، ويقوم هذا المنهج على الإدراك الذوقي للنصوص، وعلى الرموز و الغموض، و الشطحات غير المفهومة...إلخ.
ويقرب من المنهج الصوفي، المنهج الإشاري، وهو الذي يؤول أصحابه، آيات القرآن على خلاف الظاهر بمقتضى إشارات خفية تظهر لأرباب السلوك و يمكن التطبيق بينهما وبين الظواهر المرادة، و لذا فإن العلماء المحققين قد وضعوا جملة من الضوابط لقبول التفسير الإشاري أو رفضه.
ولقد قسم عبد الحميد بن باديس التفسير الإشاري إلى نوعين، مقبول ومرفوض، واعتبر التفسير الإشاري المقبول من أجل علوم القرآن وذخائره التي يحرص عليها المفسر لكتاب الله، وذلك وبعد غيراده لنموذج من التفسير الإشاري المقبول، قال : «مثل هذه المعاني الدقيقة القرآنية الجليلة النفيسة، والمأخوذة من التركيب القرآني أخذا عربيا صحيحا،ولها ما يشهد لها من أدلة الشرع، وكل ما استجمع هذه الشروط الثلاثة فهو مقبول صحيح، ومنه فهم عمر و ابن عباس رضي الله عنهما أجل رسول الله ÷، من سورة النصر أما ما لم
تتوفر فيه هذه الشروط المذكورة و خصوصا الأول و الثاني فهو الذي لا يجوز في تفسير كلام الله وهو كثير في التفاسير المنسوبة إلى بعض الصوفية كتفسير ابن عبد الرحمان السلمي من المتقدمين، و التفسير المنسوب لابن عربي من المتأخرين»(49).
وعليه فاللفتة الإشارية حول النص القرآني إذ كانت صحيحة في معناها، وكان التركيب اللغوي يشهد لها، وكانت باقي الظواهر الشرعية تشهد لها، فابن باديس يعتبر مثل هذه اللفتات من النفائس التي يحرص عليها و الذخائر التي ينتفع بها قارئ التفسير.
وكل تفسير لا يستجمع هذه الشروط، فهو مردود وباطل لأنه إخراج للألفاظ عن مداليلها اللغوية التي تفيدها بأصل الوضع اللغوي، وهذا هو المسلك الذي سلكته الفرق الباطنية التي وضعت مبادئها الفكرية، ومقرراتها الفلسفية أولا، ثم راحت تؤول القرآن تأويلا بعيدا عن مفاهيم الشريعة ومدلولات اللغة فيها، فوقعت في انحرافات خطيرة، انتهت بها إلى الخروج النهائي عن الإسلام.
خاتمة
بعد هذه السياحة الفكرية، في رياض الفكر الباديسي، الشذي الرائحة، الحلو المذاق، نخلص إلى القول بأن مفسرنا عبد الحميد بن باديس: قد تجاوب مع صحيحات التجديد الإسلامي التي أطلقها المجددون الكبار كجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، ورشيد رضا، الداعية إلى الإصلاح الإسلامي عن طريق بعث العقل، وتحكيمه في فهم تراثنا الإسلامي، وقبول ما يجب أن يقبل، ورفض الأقوال التي لا يسندها نقل، ولا يؤيدها عقل، فقال ابن باديس في حفل الاختتام، «...و أذكر للثاني- الشيخ محمد النخلي- كلمة لا يقل أثرها في ناحيتي العملية، وذلك أنني كنت متبرما بأساليب المفسرين و إدخالهم لتأويلاتهم الجدلية، و إصلاحاتهم المذهبية في كلام الله، ضيق الصدر من اختلافهم فيما لا اختلاف فيه من القرآن وكانت على ذهني بقية غشاوة من التقليد واحترام آراء الرجال حتى في دين الله و كتاب الله، فذاكرت يوما الشيخ النخلي فيما أجده في نفسي من التبرم و القلق، فقال لي: اجعل ذهنك مصفاة لهذه الأساليب المعقدة، وهذه الأقوال المختلفة وهذه الآراء المضطربة يسقط الساقط و يبق الصحيح و تسترح...»(50).
و إذا علمنا بأن الشيخ محمد النخلي – رحمه الله- الذي درس عليه الشيخ عبد الحميد بن باديس في جامع الزيتونة، قد تأثر منذ شبابه الباكر بالأفكار الإصلاحية و التجديدية لجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، وعمل جاهدا على تنشئة الأجيال الجديدة في الزيتونة عليها، أدركنا سر ذلك التجاوب الكبير بين مدرسة الإصلاح الإسلامي في الشمال الإفريقي برئاسة الشيخ عبد الحميد بن باديس، وبين مدرسة التجديد الإسلامي في المشرق ممثلة في
مدرسة المنار الرائدة و أعمدتها الأعلام، و أدركنا سر امتداد المنهج النقدي في التفسير الذي كان أحد القواعد التي أقامت عليها مدرسة المنار فهمها للقرآن الكريم، وكيف تلقفه ابن باديس و وظفه أحسن توظيف في بناء العقلانية الإسلامية التي تعمل على بعث مدنيتنا العربية الإسلامية القائمة على الوسطية و العدل، فلا هي تؤمن بالانغلاق الحضاري الذي يؤدي إلى الموت و الانتحار، ولا هي تؤمن بالتبعية الحضارية التي تؤدي إلى المسخ والتشويه والقضاء على هوية الأمة وخصوصيتها الحضارية...و إنما تقوم على التفاعل الحضاري الواعي القائم على المحافظة على الخصوصية الحضارية و حسن الانتفاع مما عند الأمم الأخرى مما هو « مشترك إنساني عام».
الهوامش:
22 - فيض القدير ج 1/ ص 558.
23 - الإتقان في علوم القرآن ج1/ ص 149.
24- أحكام القرآن، ج1/ ص 419.
25 - مجموع فتاوى ابن تيمية ج13/ ص 213.
26 - مجالس التذكير، ص 49
27 - مجالس التذكير، ص 241.
28 - مجالس التذكير، ص 156.
29 - ابن باديس مفسرا، حسن عبد الرحمان سلوادي، ص 268.
30 - مجالس التذكير، ص 432.
31 - مجالس التذكير، ص 432.
32 - رواه أحمد في مسنده.
33- تفسير القاسمي ج 8/ ص 334.
34- نفسه ج8/ ص 334.
35 - مختصر تفسير ابن كثير، ج3/ ص 127.
36 - مجالس التذكير، ص 437.
37 - مجالس التذكير، ص323.
38 - مجالس التذكير، ص 399.
39 - مجالس التذكير، ص 283.
40- مجالس التذكير، ص 264.
41- مجالس التذكير، ص 228.
42- تفسير القاسمي ج14/ ص 370.
43 - مجالس التذكير، ص 54.
44- مجالس التذكير، ص 373.
45 - مجالس التذكير، ص 409.
46 - تفسير جزء عمّ، محمد عبده ص 180، وتفسير خواتيم القرآن، رشيد رضا، ص 110.
47- مجالس التذكير، ص 351.
48- مجالس التذكير، ص 52.
49- مجالس التذكير، ص 346.
50- مجالس التذكير، ص 475.