الشيخ العلامة محمد الصالح بن عتيق ودوره في حركة الإصلاح الوطني داخل الوطن خارجه

بقلم: صالح قليل -

مما لا ريب فيه أن نوايا الاستعمار الفرنسي كان يخطط منذ البداية للغزو الثقافي والسياسي والاستيلاء على الأراضي الجزائرية، وباعتبار الثقافة العربية الإسلامية، ومقومات الشخصية الوطنية الجزائرية فقد وضع الاستعمار الفرنسي نصب أعينه في هذا المنحى حيث منع تعليم اللغة العربية في المدارس الحكومية والحرة وكذلك المساجد، واعتبرت اللغة العربية لغة أجنبية واللغة الفرنسية هي اللغة الأم في البلاد وذلك من أجل تعميم الجهل على المواطنين.

وأمام تفاقم هذه الوضعية لم يبق للجزائريين إلا التصدي لهذه الهجمات الاستعمارية لطمس الشخصية الوطنية، وبرزت في هذه الفترة بالذات التي شابهها الغموض وتفشى فيها الجهل ما يسمى بمفهوم الزوايا الدينية في الجزائر، والتي صورها المستعمر في صورة غير لائقة وأنه تقوم بعملية تخذير للجماهير باسم الدين وما يرافقه من انتشار البدع والخرافات، لكن بقي إيمان الشعب بكرامات شيوخ هذه الزوايا لأنها كانت ملجأ لكل مضطهد يتعرض للملاحقة من قبل سلطات الاحتلال بسبب تمسكه بدينه وعقيدته، وحسب قول العديد من المؤرخين إن هذه الزوايا لعبت دورا بارزا بفضل شيوخها الأجلاء في إعلاء لغة القرآن وعلوم الدين في القطر الجزائري، وقد تعرض مشايخ هذه الزوايا إلى أنواع شتى من البطش والتعذيب من طرف السلطات الاستعمارية.

وقد عرفت فترة القرن 19 وبداية القرن 20 صحوة إسلامية كان رائدها الشيخ جمال الدين الأفغاني ذلك الرجل الذي حباه الله بالعلم الغزير والشخصية القوية واللسان الحاد حيث سخر ذلك كله في خدمة الإسلام والمسلمين، وسار على دربه عدة علماء أفاضل أمثال تلميذه الشيخ محمد عبده من مصر والشيخ شكيب ارسلان من لبنان، ثم جاء بعده خلف صالح حملوا لواء الدعوة الإسلامية، وساروا على منهج الإصلاح الذي أيقض الغافلين وأحياء القلوب الميتة بنور الإسلام، وبعث الأمل في الشعوب الإسلامية في الانعتاق والتحرر من نيل الاستعمار الأوروبي الصليبي الذي كان يهيمن بظله الثقيل على جل الأقطار الإسلامية.

ومن هذا الخلف الصالح الشيخ الجليل عبد الحميد ابن باديس الذي أصبح باعث ورائد النهضة الإسلامية الحديثة في الجزائر، والحامل للوائها والمدافع على العقيدة ولغة الدين دفاعا سيبقى يشهد له إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولم يكن الشيخ عبد الحميد بن باديس في الميدان وحده بل كانت تحف به كوكبة من أفاضل العلماء الذين أنجبتهم الجزائر كالشيخ التبسي والشيخ مبارك الميلي والشيخ الطيب العقبي والشيخ محمد الصالح بن عتيق، وغيرهم من الرجال المؤمنين الذين أخذوا على عاتقهم إحياء أصول الدين الإسلامي وشرحه وتفسيره بطريقة سليمة تقر بهم من عقول الخاص والعام وتبعده عن كل غلو وتعصب .

الشيخ العـلامة محمد الصـالح بن عتيق الذراع الأيمن للعلامة ابن باديس:

من الصعب أن ننصف شيخا جليلا وعالما فذا ، ومعلما ورعا وسياسيا محنكا وهب عمره لدينه ووطنه، فكانت قصارى اهتماماته الإسلام ديننا، والعربية لغتنا، الجزائر وطننا، لأجل هذا عاش ومن أجله مات، أنجبته الجزائر في أعسر أوقاتها واحلك لياليها وعاش تناقضات العصر الحديث وعايش أحداثه الدامية عن كثب، وكان شاهد عيان على همجية الاستعمار الغاشم وزيف ادعاءاته، وعايش شخصيات دينية ووطنية وعلمية ، يشهد لها العدو قبل الصديق بالعظمة والعبقرية فكانت حياته نبراسا يضيء للأجيال الدرب وتقتفي أثر السلف الصالح .

فكان ابن عتيق جليلا في علمه وتقواه وبالغ الجلالة في إخلاصه لشعبه ووطنه، ويعد أحد بناة عناصر الشخصية الوطنية التي سعى الاستعمار بكل الوسائل إلى هدرها طيلة تواجدنا على أرضنا الطيبة، وبقي يعمل ويعمل بلا هوادة إلى آخر رمق في حياته من أجل أن تبقى الجزائر عربية حرة مسلمة ، فمهما كتبنا عنه لن نوفيه حقه.

حياة الشيخ محمد الصالح بن عتيق 1903-1993 :

رحل العلامة ابن باديس إلى جوار ربه ولكنه ترك وراءه جيلا من جنود الحق والقلم واصلوا المسيرة بعده بنجاح، من هؤلاء المغفور له الشيخ محمد الصالح بن عتيق، أحد رجال جمعية العلماء الذي يشهد له عمله قبل كل شيء على أنه استطاع أن يشق طريقه في اتجاه التربية والتعليم والتوجيه، والإرشاد بنجاح رغم الظروف القاسية واستفزازات السلطات الفرنسية، وهذه نظرة بسيطة ومختصرة عن حياته.

ولد الشيخ محمد الصالح بن عتيق في 04 من شهر ماي 1903 بقرية العتقة ببلدية الميلية شمال قسنطينة، من أسرة متواضعة ولكنها عريقة في نسبها وفي علمها إذ يرجع هذا النسب إلى قريش بن عتيق حفيد الصديق رضوان الله عليه حيث نزح جده منذ حوالي 3 قرون في بسكرة واسمه سيدي سعد العتيق وضريحه معروف ببلدية الميلية حاليا.

قضى الفقيد رحمه الله حياته حلا وترحالا في خدمة العلم والنضال من أجل النهضة والحركة الإصلاحية والاستقلال، تعلم القرآن الكريم في سن مبكرة على يد والده بمسقط رأسه وبعد وفاة أبيه هاجر قريته في رحلة شاقة لتحصيل العلم والمعرفة ثم نذر نفسه للإصلاح والتربية والجهاد من أجل الحرية والاستقلال وواصل عمله إلى آخر حياته.

كانت البداية ببعض الزوايا القرآنية حيث خاب أمله بسبب ما وجده فيها من البدع والخرافات والشعوذة، وقد تعرض لهذه المرحلة في كتابه "أحداث ومواقف" ذهب بعدها إلى ميلة، وهناك فتحت أمامه آفاق جديدة بمشاركته في دروس العالم المصلح الشيخ بن ظريف "الميلي" في الفقه والتوحيد إلى أن التقى بالعلامة مبارك الميلي رحمه الله بعد عودته من تونس وشرع في إلقاء دروس متنوعة.

لكن الشيخ مبارك الميلي انتقل إلى قسنطينة للعمل بجانب الشيخ عبد الحميد ابن باديس، فانتقل الشيخ بن عتيق هو الآخر إلى قسنطينة وتتلمذ على يد الشيخ ابن باديس وكان أكثر الطلبة اتصالا به الشيء الذي جعله يتأثر تأثرا بالغا والذي أثر على أعماله فيما بعد وجعله من أكبر علماء الإصلاح ورجاله.

وفي عام 1927 هاجر إلى تونس لطلب العلم في جامع الزيتونة حيث حصل على شهادة التطويع ثم عاد إلى بلاده مع شلة من المتخرجين الذي خصهم ابن باديس باستقبال حار وحفل كبير بمدينة قسنطينة.

كانت هذه المرحلة من حياته رحمه الله، أما المرحلة الثانية فقد بدأت بتحوله من طلب العلم إلى التدريس والدعوة وكانت البداية ببلدة الميلية حيث أسس بها جمعية ومدرسة للتربية والتعليم، وفي عام 1934 انتقل الشيخ بن عتيق إلى قرية بن عباس بولاية سطيف حاليا، أما في سنة 1937 فقد انتدب رفقة وفد من المصلحين بقيادة الشيخ الورثلاني للسفر إلى باريس والقيام بنشاط ديني، ووطني في وسط العمال المغتربين وفتح نوادي ببعض البلدان الفرنسية.

عاد منه سنة 1938 حيث التحق ببرج بوعريريج ولم تطل إقامته هناك فعاد إلى الميلية لمواصلة عمله في حقل الإصلاح والتعليم غير أن السلطات الفرنسية الاستعارية (الحاكم) ضاقت به ذرعا ورفضت تسليمه الرخصة لفتح مدرسة وقال الحاكم آنذاك : « إن المسمى محمد الصالح بن عتيق هيدوك أحد المشوشين الكبار كلما حل بالميلية تحركت العناصر المعادية لفرنسا فإبعاده أصبح ضروريا »، وفي عام 1944 انتقل إلى مدينة تيارت بغرض تأسيس جمعية وفتح مدرسة لمدة لا تزيد عن 3 أشهر ، غير أن أهل تيارت تمسكوا به وألحوا على الجمعية أن تبقيه فمكث هناك إلى عام 1949، وفي الفاتح من أكتوبر 1950 حل بمدينة سكيكدة ليؤسس مدرسة الإرشـاد ويتولى إدارتها ويواصل نشـاطه ودروسه وفي سنة 1951 عـاد إلى الميلية ليشرف على فرع معهد ابن باديس، واستمر هناك إلى 1953 حيث عين من طرف الجمعية بمدينة البليدة على أن يقـوم فيها بنشـاط خلال شهر رمضـان فقط، لكن أهـل البليدة تمسكوا به كما وقع في تيـارت، وهنـاك أظهر نشاطا كبيرا حيث ضم حركة التعليم كلها تحت لواء جمعية العلماء، وأسس مسجد بوعرفة في ضواحي البلدية ومسجد بقرية عمروشة شرق بلدة الجمعة .

وفي 7 من شهر افريل 1956 ألقت السلطات الاستعمارية عليه القبض وسيق إلى سجن البرواقية ثممنها إلى عدة معتقلات أخرى وهي: آفلوا، اركول، بوسوي، الدويرة، وأيضا سيدي الشحمي بضواحي وهران، إلا أنه وداخل المعتقلات استمر في القاء الدروس وتعليم المعتقلين وخاصة منهم الشباب الشيء الذي جلب له الكثير من المتاعب مع السلطات الاستعمارية منها نقله دوما من معتقل لآخر ومنعه من هذا النشاط، ولم يطلق سراحه إلا في سنة 1962 .

وبعد الاستقلال واصل الشيخ بن عتيق تأدية رسالته فتولى منصب مفتش جهوي لولايات الوسط بوزارة الأوقاف، وعاده الحنين إلى التعليم فعين أستاذا بثانوية حسيبة بن بوعلي في القبة، إلى أن أخذ التقاعد في هذه المهنة، وعين أثر ذلك عضوا في المجلس الإسلامي الأعلى مكلفا برآسة لجنة الفتوى.

توفي الشيخ الصالح بن عتيق صبيحة يوم الخميس 9 شوال 1413 الموافق بـ1 افريل 1993 وانطفأت بذلك شعلة جهاد، واختفى احد معالم الإصلاح والعلم والتعليم .

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.