مـالـك بـن نبـي (6) المنفى والثورة (1956 -1963)
بقلم نورالدين بوكروح - ترجمة عبدالحميد بن حسان -
لنْ يتسنَّى لنا الوقوف على وحدة فكر مالك بن نبي واتصاله، ولا تأريخ أفكاره وفهم العلاقة بين مواقفه وبين أحداث عصره، إلاّ إذا اكتشفنا الأحداث التي عايشها متسلسلةً حسب مراحل حياته. ويعود تفكيره في الحضارة إلى مرحلة المراهقة. واتخذ ذلك الانشغالُ وجهتَه المتميّزة بعد إقامته في فرنسا، حيث أتاح له كلٌّ من زواجه ودراساته وقراءاته وعلاقاته اكتشاف الحضارة التي وجد نفسه غارقاً فيها. وهكذا الْتَحَمَتْ حياتُهُ بفكره لينتج عنهما تركيبة بن نبي الرّجُل.
وجاءت حصيلة هذه المسيرة التي امتدّتْ من 1947 إلى 1956 ثريةً، وهي المرحلة التي وضع فيها ركيزة فكره القائمة على ثلاثيته المتكونة من: “شروط النهضة”، و “وجهه العالم الإسلامي”، و”النزعة الأفروآسيوية”. أمّا في مصر فقد عمد إلى تقوية تلك الركيزة بثلاثية أخرى تتكون من “الصراع الفكري في البلدان المستعمَرة”، و “مشكلة الثقافة” و “ميلاد مجتمع”. وكان بالإمكان إضافة “مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي”، وهو الكتاب الذي بدأ تأليفه في القاهرة شهر ديسمبر 1959، ثمّ توقف عن الكتابة بعد الفصل الخامس ليواصلها سنة 1970، وينشر الكتاب سنة 1971 بالقاهرة. أمّا النسخة الفرنسية فقد تأخر ظهورها إلى سنة 1990 بمبادرة من كاتب هذه الأسطر، وبمقدمة من تأليفه كذلك.
لمّا جاوز مالك بن نبي الخمسين من عمره صار في قمّة الوعي والعطاء. وفي هذه المرحلة لم يعُدْ همّه أن يكون مفكراً شغوفا بالأفكار بقدر ما كان يصبو لأن يصير مناضلا في ساحة الحضارة يبحث عن وسائل العمل المؤدية إليها، كالذي يسعى إلى تحقيق غاية من الغايات الشخصية. لقد بلغ درجة من الحماس وحبّ التواصل وخدمة الغير تتيح لنا تشبيهه بشخصية سيلينا Céline الرمزية. فها هو يتحدّث عن نفسه ـ وهذا هو شأنه أحيانا ـ بصيغة ضمير الغائب: “راح ينبش بمِذْرَاتِهِ، وبضرباتٍ قوية، في أرضية الإسطبل التي قضى فيها العالم الإسلامي عصر الانحطاط في ظلام دامس. لكنّ عملية التنظيف هذه لم تكُنْ لِتُعجِبَ الأذواق الرهيفة التي تُفضِّلُ الجمود على اشتمام الروائح التي لا تَروقُها. والكاتب يحلو له أن يُطلق على هذا الجمود مصطلح: عصر ما بعد الموحِّدين“.
وفي مصر كانت تنتظره تجربتان لا نظير لهما لديه، وهما الثورة الجزائرية والتغلغل في أعماق الشرق. وبالإضافة إلى هذا فإنّ سفره إلى مصر سيكون منعرجا هاماًّ في حياته الشخصية. ذلك أنه سيفارق زوجته بولات ـ خديجة Paulette-Khadidja التي كانت مريضة وتشكو من عجزٍ شبه كلّيِّ، وذلك بعد أن قضتْ معه خمسا وعشرين سنة كانت له فيهما أحسن عون ورفيق على جميع المستويات: العاطفية والأخلاقية والفكرية والمادّيّة.
عند وصوله الى القاهرة ،حظِيَ بن نبي باستقبال جيد في مقر ممثّلية جبهة التحرير بالقاهرة من طرف أحمد بن بلة ومحمد خيدر، أمّا الدكتور لامين دباغين فقد أعرض عنه. وكان الأوَّلاَن في القاهرة منذ 1952 حيث كانا يمثّلان رفقة آيت أحمد والشادلي مكي الوفد الخارجيّ لحزب PPA-MTLD، أمّا لامين دباغين فكان الرجل الثاني في حزب مصالي الحاج، اذ تم تعيينه من طرف عبان رمضان على رأس ممثلية جبهة التحرير.
وقد قبل مالك بن نبي بالعمل الذي اقتُرِح عليه في هيئة تحرير إذاعة “صوت العرب”، لكن تعامله معها لم يدُمْ إلاّ أسابيع قليلة. أمّا علاقاته مع أعضاء الوفد الممثل للثورة فانتابتها فترات هدوء وفترات اضطراب، إذ كانت طيبةً مع بعض الأعضاء، لكنها كانت سيئة مع أولئك الذين يريدون إخضاعه لأوامرهم. ذلك أنه كان مقتنعا بأنه حرّ كل الحرية في التعبير بلسان المثقف الذي لا يختلف اثنان حول مكانته. وانتهى به الأمر إلى الشكوى من “النيَّة المبيّتة والشديدة التي أبعدتني عن كل ما يتعلَّق بالثورة، وكأنها تريد أن تضع حجابا حاجزا بين الأفكار التي ناضلْتُ من أجلها وبين الضمير الجزائريِّ“. ووردتْ هذه الشكوى في رسالة إلى صديقه صالح بن ساعي.
التقى مالك بن نبي بأحمد بن بلة على انفراد بتاريخ 4 جويلية 1956 وعبّر له مُجدَّداً عن رغبته في خدمة الثورة. وعندما شعر أن طلبه لم يلق أيّ صدى وجّه رسالة إلى (السادة أعضاء وفد جبهة التحرير) يقول فيها: “كان مجيئي إلى القاهرة منذ أكثر من ثلاثة أشهر من أجل أداء مهمّتين :الأولى تتعلق بتأليف كتاب حول“النزعة الأفروآسيوية”، وهو عنوان تفهمون منه طبيعة الموضوع وانعكاساته على المسألة الجزائرية فيما يخص علاقاتها بالأوضاع الدولية. وقد أدّيْتُ هذه المهمة الأولى في حدود ما يتعلق بمسؤوليتي شخصيًّا. أما ما يتعلق بنشر الكتاب، فهذا أمر يرتبط بظروف مستقلة عن إرادتي. أمّا المهمة الثانية فهي ما أريد أن أحدثكم عنه في هذه الرسالة: إنها تتعلق بمهمة المثقف الذي عبر عن موقفه منذ زمن بعيد في صراعه ضد الاستعمار، وهو يعتقد اليوم أن عليه أن ينضمّ بشكل أكثر صراحة ووضوحا إلى الكفاح المسلح الذي يخوضه الشعب الجزائري…”
وهو يُعبِّر عن أمنيته في خدمة الثورة كممرِّض في منطقة النمامشة لأسباب يشرحها بقوله: “إنّ وجودي في الجبال مع المقاتلين سيتيح لي التغلغل في أجواء المعركة بمنطقة محددة، وهذا سيساعدني على الشروع في تأليف كتاب حول تاريخ الثورة الجزائرية“. ولمّا لا حظ أن مسؤولي جبهة التحرير في القاهرة يريدون الاستغناء عن خدماته ولا يُظْهِرون أيّ اهتمام بمصير كتابه، بادر بتحرير رسالة إلى الشعب الجزائري بتاريخ 10 سبتمبر 1956 هذا مطلعها: “لا أعرف أين سأكون عندما ستصل رسالتي هذه إلى البلد… لقد أنهيْتُ تأليف كتابي حول “النزعة الأفروآسيوية”، وهو موضوع حَرِيٌّ بأن يكون له تأثيرعلى وِجهة هذه الثورة خارج حظيرة الدول الغربية أو القوى الخفية التي بدأْتُ أحس بطول ذراعها، والتي تريد الإبقاء عليها أو إرجاعها“.
وبالموازاة مع ذلك، يبوح لنا في مذكراته بما يأتي: “منذ أن ذاع خبر كتابي (النزعة الأفروآسيوية) بدأتُ أحسّ بالخطر يحدق بي. وقد أشرتُ في مذكراتي اليومية بتاريخ 22 جوان 1956 إلى أنني صرت أحسّ وكأني حبَّة غبار في وسط قوى هائلة…” إنّ مالك بن نبي، الذي كان مقتنعا بدور الشهادة المنوط به على وجه هذه الأرض، يستعمل، في عدّة مواضع من كتاباته المنشورة وغير المنشورة، صورة حبَّة الغبار أو الذرّة لكي يبرز مدى التفاوت بينه وبين الأحداث التي انجرّ إليها. ومثال ذلك هذا المقال الذي يقول فيه: “الشاهد… ذرّة، ربما يصحّ ذلك، لكنها ذرة ضرورية لاستمرار عجلة التاريخ البشريّ في حركتها. فكل وجود وكل حدث يتجزّأ إلى أقسام أو ذرات، هي ذرّات مصير العالم“(1).
أصبح اسم مالك بن نبي ذائع الصيت بين الطلبة وفي الأوساط الجامعية المصرية. ذلك أن كتبه “الظاهرة القرآنية” و “شروط النهضة” و “وجّهه العالم الإسلامي”، بعد نشِرها ، أثارت نقاشات في الجزائر و فرنسا ووصلت أصداء ذلك إلى لبنان ومصر وسوريا والمغرب. وكان يشتغل بترجمة كتبه إلى العربية مع اللبناني عمر مسكاوي والمصرييْن عبد الصبور شاهين ومحمود شاكر. وقد صدر كتاب “شروط النهضة” سنة 1957 بمقدمة جديدة وفصل إضافي. أما كتاب “الظاهرة القرآنية” فقد صدر سنة 1958 بمقدمة لمالك بن نبي وأخرى لمحمود شاكر. وصدر كتاب “وجهة العالم الإسلامي”سنة 1959.
وأثناء المرحلة التي أمضاها في مصر نشر مالك بن نبي مجموعة من المؤلفات تتمثل في ستة كتب جديدة. أمّا من الناحية الاجتماعية، فكان يعيش حياة في غاية البساطة والتواضع، إذ أقام لمدة تقارب العامين في شقّة رفقة بعض الطلبة. وكان يعيش من منحة ضعيفة تصرفها له جبهة التحرير. وقد آثَرَ أن يبقى بعيدا عن المعركة الضارية التي كانت تجري في قيادة الثورة بين الداخل والخارج، أي بين الساسة والعسكريين. فالشخصيات والتيارات السياسية التي تعرّف عليها في الجزائر وانتقدها التقت في القاهرة ومعها تلك الأفكار المسبقة التي تنظر بها إليه. أما من جهته، فإنه لم يتوقف عن شن حرب ضروس ضدهم، ناعتاً إياهم بـ ( الزعماء الأقزام zaïmillons) وبـ (الثُلَّة الغريبةsinistre bande)، بل ونعتهم حتى بـ (شرذمة الأشرار gang).
ومنذ وصوله إلى القاهرة بدأ بن نبي يحسّ أنه مُطارَدٌ ومحروس ومُحاصَر. وهذا ما سجّله في مذكراته: “هذا الإحساس هو الذي دفعني إلى إهداء كتاب “النزعة الأفروآسيوية” لجمال عبد الناصر بهدف الاحتماء به وبهدف وضع هذا الكتاب تحت حمايته المعنوية“. لقد عاوده الإحساس بأنه وقع في الفخّ بين “الاستعمار العلمي” و “قابلية الاستعمار الجَهُولة“. وبالإضافة إلى مِحنته من الجانب المعنوي بفعل سوء فهم جميع المحيطين به، وبفعل الصعوبات التي يواجهها في نشر مؤلفاته، وكذلك بسبب بقائه بعيدا عن قيادة الثورة الجزائرية، بالإضافة إلى هذا كله كان يعاني من تأنيب ضميره بخصوص حالة أبيه الذي بقي في تبسّة، وأخَواته اللواتي يعشن في حالة مزرية كلاجئات في تونس، كما كان يتألّم لحالة زوجته التي تعاني من المرض والوحدة في فرنسا.
كان يرسل لهم ببعض المبالغ المالية كلما استطاع، و التي كان هو نفسه في أمسّ الحاجة. كلّهم كانوا يطالبونه بالمعونة، وهو عاجز عن تحمّل كل تلك الأوزار. وقد اغتاظ لموقف الحكومة المصرية التي وقفت حجر عثرة في طريق رواج كتاب “النزعة الأفروآسيوية”، كما اغتاظ لموقف المسؤولين الجزائريين في القاهرة، والذين تجاهلوا حالته.
ففي جانفي 1957 طلب من لامين دباغين أن يساعده على نقل زوجته من فرنسا إلى القاهرة، لكن هذا الأخير تهرّب و تملّص. وفي شهر مارس كاتبه لكي يُعبِّر عن رغبته في القيام بجولة عبر الدول الأفروآسيوية لشرح محتوى كتابه، لكنه قابله بالرفض. وأمام كل هذا الانسداد أطلق العنان لغضبه في رسالة وجهها إليه في 13 مارس 1957، حيث يصفه و رفقاؤه ب”السادة الذين كانوا في الماضي يفضلون خدمة الثورة وهم في بحبوحة الجمعية الجزائرية أو البرلمان الفرنسي، وهم اليوم يتنعمون في فنادق فاخرة”.
حُدِّد تاريخ 30 جانفي 1957 موعدا لمناقشة القضية الجزائرية في هيئة الأمم المتحدة. وكان مؤتمر باندونغ هو المحفل الدولي الأول الذي اعترف بحق الجزائريين في تقرير مصيرهم. أما الحدث الثاني الذي سُجِّل في مسار تدويل المسألة الجزائرية فيتمثل في التصويت الذي جرى في الدورة العاشرة للجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة، حيث خرجت هذه المسألة من الإطار الفرنسي الذي كانت فيه. أما في الجزائر، فقد قررت جبهة التحرير أن تعطي للعالم برهانا ساطعا على التزام الشعب الجزائري والتفافه حول الثورة، إذ بادرت لجنة التنسيق والتنفيذ CCE ، المنبثقة عن مؤتمر الصومام، بتوجيه نداء إلى الشعب الجزائري تدعوه فيه إلى إضراب عام لمدة ثمانية أيام.
و مُورس القمع الوحشي في الجزائر، لكن الهدف المسطّر قد تحقق. وقد أُلْقِيَ القبض على الزعيم صاحب فكرة الإضراب العام، وهو العربي بن مهيدي، ثمّ تم اغتياله. وفي 08 أفريل 1957 اختُطِف العربي التبسي في الجزائر العاصمة من طرف منظمة إرهابية تُدعى (اليد الحمراء)، وهي الوجه الظاهر للمخابرات الفرنسية، وقتلت الرجل وأخفت جثمانه. وإثر ذلك سارعت الصحافة الاستعمارية بإلصاق تهمة هذه الجريمة لجبهة التحرير تحت ذريعة أنه اغتيل لأنه متهم بخيانة الجبهة.
وفي 10 أفريل من نفس السنة أصدر مالك بن نبي توضيحا فنّد فيه مزاعم الصحافة الاستعمارية متعجبا من صمت القيادة الرسمية للثورة. كما وجّه بتاريخ 24 أفريل 1957 رسالة إلى جيش التحرير ليؤكِّد أمنيته في أن يتكفل بتسجيل تاريخ الثورة، وهو يشكو فيها من أنّ “الوفد الخارجي لجبهة التحرير الوطني” لا يوظف الخدمات التي يقدمها، ويُذكِّرُ بماضيه النضالي ضد الاستعمار وما عاناه مع عائلته بسبب ذلك.
وفي هذه الأثناء كانت تدور معركة ضارية بين مجموعات شبكة ياسف سعدي وفصائل من قوات النخبة في الجيش الاستعماري. إنها (معركة الجزائر) الشهيرة. وككل الجزائريين كان مالك بن نبي يعيش حالة غليان في أعماقه. فقد بادر بإصدار مطوية تحت عنوان ( النجدة للجزائر SOS Algérie) يندد فيها بممارسة التعذيب والتقتيل الجماعي للجزائريين، ذاكراً أن عدد القتلى بلغ نصف المليون. ويُذكِّر هيئة الأمم المتحدة بمسؤولياتها إزاء المأساة الجزائرية، كما يُطالب بإيفاد لجنة تحقيق دولية لوضع حدّ لسياسة الإبادة التي تنتهجها قوات الجيش الفرنسي.
وهو يدعو العالم كله للتظاهر بقوله: “أمام هذه المأساة الأخلاقية والإنسانية يجب على العالم المتحضِّر ألاَّ يبقى ساكتا، ويجب على مؤتمر باندونغ أن يخرج من صمته. إنّ الضمائر يجب أن تنفجر غيظاً، كما يجب أن تخرج الإنسانية قاطبة في مظاهرات رمزية لتُعبِّر عن استنكارها لما يحدث، في مسيرة لأطفال العالم، وأخرى للنساء، وثالثة للرجال ذوي الإرادة الطَّيِّبة… كلُّ هذا من أجل إرغام المتحكّمين في زمام الأمور في هذا العالم أن يقوموا بواجبهم… فعلى الإنسانية أن تتبنّى، بقرار تاريخي،المسؤولية على حراسة القوانين التي تضمن احترام الذات الآدمية…”
وقد سارع الوفد الخارجي لجبهة التحرير بمنع نشر هذه المطوية بواسطة أجهزته بحجة أنها ليست وثيقة رسمية. وعند هذا طفح الكيل فأرسل مالك بن نبي برسالة إلى لامين دباغين في جويلية 1957، وجاء في خاتمتها: “إنَّ الضغوطات التي أدّتْ إلى القضاء على بن بو العيد وزيغود والشيخ العربي التبسي هي نفسها التي مورستْ في حقي كيْ أبقى خارج الثورة: ونظرا لعجزهم عن القضاء عليَّ عَمَدُوا إلى إخمادي“.
وفي شهر ديسمبر 1957 انعقد المؤتمر الثاني للدول الأفروآسيوية. وكان مالك بن نبي يعتقد أن المنطق يقتضي أن يدعوه مسؤولوا جبهة التحرير بالقاهرة إلى تمثيل الجبهة في المؤتمر كونه مضطلعا بالموضوع، لكنه سرعان ما خاب ظنه. وفي 12 جانفي 1958 كتب لهم رسالة بنبرة انتقامية كي يخبرهم أنه شارك في أشغال المؤتمر رغما عنهم، لا كجزائريّ، بل بدعوة خاصة من أنور السادات رئيس الدورة، وهو الأمر الذي آلَمَه. يقول: “هكذا إذاً، سادتي ممثلي جبهة التحرير في الخارج، يحلو لكم ألاّ يمثِّل مؤلِّف “النزعة الأفروآسيوية“ الجزائرَ في أي نقاش. إنكم لم تُكلِّفوا أنفسكم حتى عناء استشارة احترافيته حول صياغة العرض الذي تَلَوْتُمُوه في الجمعية العامة بخصوص الوضع في الجزائر… لقد بذلتم أقصى ما تستطيعون لإبعاد مؤلف “النزعة الأفروآسيوية” عن منبر الشعوب الأفروآسيوية… أرجو منكم أن تكفّوا من الآن عن صرف الإعانة المالية الشهرية التي كنتم تصرفونها لي: ذلك أني لا أريد أن تتخذوها دليلا على مشاركتي وسكوتي عن وضعية تبدو لي غير عادية“.
وبعد أيام قليلة كتب أنور السادات مقالا ُنشر في المجلة السوفياتية International Affairs، وأرسل نسخة منه إلى مالك بن نبي. وفي المقال إطراء كثير على المفكر عبر الاقتباسات المأخوذة من كتاب “النزعة الأفروآسيوية”. وهذه شهادة على أن السادات يقاسمه الأطروحات التي عرضها. وفي 8 فيفري نشرت جريدة الأهرام برقية تعلن عن تعيين بن نبي كمستشار لدى أمانة المؤتمر الإسلامي. وكانت هذه المؤسسة تحت رئاسة أنور السادات، وتضمّ أشهر علماء الإسلام وأشهر وجوه الحياة السياسية في مصر. غير أنّ بن نبي يسجل هذه الملاحظة في مذكراته الشخصية: “وسائل مسخَّرة لغير غاية، ورجال بدون مهام”.
وكان لامين دباغين وبن خدّة وأحمد توفيق المدني أكبر المُصِرِّين على عزله وإبعاده عن كل شؤون الثورة. وقد صرح بن نبي في مذكراته الشخصية بما يأتي: “لقد صرتُ، ومنذ عامين، كرصيد مُجمّد في حساب بنكي“. وحتى الدكتور خالدي وصالح بن ساعي لم يُراسلاه منذ عام كامل. الأول، أي الدكتور خالدي ، شارك رفقة ألبير كامو Albert Camus وفرحات عباس في التجمع الذي نُظِّم من أجل (الهدنة المدنية) في نادي التّرقّي، ثُمَّ غادر الجزائر بصفة غير شرعية ولجأ إلى المغرب حيث صار طبيبا رئيسيا في أحد مستشفيات جبهة التحرير. أمّا الثاني، أي صالح بن ساعي، فكان يشتغل بتسيير نشاط صناعي في نفس البلد، وقد وضع الإمكانيات المتاحة له في خدمة الثورة.
وفي 15 أفريل كتب مالك بن نبي رسالة إلى رئيسي الدولتين العظميين، أيزنهاور وخروتشوف. أمّا في 15 ماي وجّه رسالة إلى جمال عبد الناصر الذي كان سيسافر إلى الاتحاد السوفياتي في زيارة رسمية، وهي الرسالة التي طلب فيها منه أن يتدخل لدى الكريملين بغية الحصول على مساعدة للثورة الجزائرية. وفي 20 ماي طلب منه أنور السادات إعداد دراسة مقارنة بين الإسلام والبوذية والمسيحية.
بتاريخ 12 ماي طلبت منه مجلة « Présence africaine » الصادرة في باريس، الإذن بنشر مقتطفات من كتاب “النزعة الأفروآسيوية”، كما طلبت منه إعداد رسالة لتُتْلى على المشاركين في مؤتمر الكُتَّاب السُّود، والمُزمع عقده في روما خلال شهر سبتمبر. وفي 12 جويلية نشرت جريدة (روز اليوسف) محاورة لها معه.
وفي رسالة أخرى إلى “سادتي في جبهة التحرير الوطني وجيش التحرير الوطني في المغرب” مؤرخة في 18 جويلية، كتب يقول: “لا بُدَّ لي أن أُزيل الغموض حول فكرة قد تُوقِعُكُمْ في الخطإ بشأني: فأنا لست مرشحاً لأية مسؤولية رسمية في الدولة الجزائرية مستقبلاً” . ولما انعقد مؤتمر الكُتاب الأفروآسيويين في طشقند في 01 أكتوبر، لم تجد قيادة الثورة فائدة في إدراج اسم مالك بن نبي ضمن أسماء المشاركين الذين أوفدتهم، والذين لم يكونوا من الكُتَّاب أصلاً. وقد آلَمَهُ ذلك كثيراً. و تكرر الخطأ بمناسبة انعقاد مؤتمر الشباب الأفروآسيوي في القاهرة شهر فيفري 1959 بحضور جمال عبد الناصر، إذ لمْ يُدْعَ بن نبي للمشاركة فيه.
وكان 14 جانفي 1959 هو تاريخ إطلاق سراح مصالي الحاج. وقد علّق مالك بن نبي على هذا الحدث قائلا: “إنها لحظة مأساوية للشيخ الزعيم الذي يرى بأمِّ عينه (الزعماء الأقزامzaïmillons) الذين شارك هو نفسه في تنشئتهم، وهم يطردونه من عرش الزعامة الذي ظنّ أنه صاحبه إلى الأبد“. وسيعترف بن خدة الذي عايش كل مراحل الثورة، بأن مالك بن نبي كان على حقّ، لكن بعد فوات الأوان، أي بعد مضيّ أكثر من عشرية عن الاستقلال. يقول بن خدة: “لقد كُتِب النجاح لـ (الأنا)، وهو مصدر العناد والتعنت والتسلّط . ذلك المرض الذي أصاب زعماءنا وأصمّ آذانهم عن كلّ معارضة، وجرّهم إلى التَّفَرْعُنِ وهم لا يشعرون. وإذا أضفنا إلى ذلك ما كان من رداءة وانعدام الكفاءة، لا بدّ أن نتوقع كلّ العواقب الوخيمة” (2). لكن بن خدة عندما كان على رأس الحكومة المؤقتة، ثلاثين سنة قبل كتابته لهذه الأسطر، لم تكن منه أية التفاتة طيبة تُجاه بن نبي، إذْ تَجَاهَلَه كُلِّيةً عندما كان في القاهرة(3).
ولا شكّ أنَّ مشكلة (الأنا) هذه تعتبر من بين أعراض الأزمة في العالم الإسلاميّ. وقد أُتيح لمالك بن نبي أن يلاحظ الأضرار الناجمة عن (تصادم مجموعات الأنا télescopage des moi) في اجتماعات المؤتمر الإسلامي فَكَتَبَ بتاريخ 01 أفريل 1959 قائلاً: “إنَّ العالم الإسلامي هو ضحية الغلوِّ الممقوت في (الأنا)، وفي كل خطوة تَحْدُثُ كارثةٌ. فعندما تلتقي (مجموعات الأنا) في اجتماعاتنا تُنْسَفُ المشاكل نسْفاً: فلا يبقى هناك أيُّ مشكل، وكل الاهتمام ينصبُّ على اعتبارات تتعلّق بعزّة النفس والمصالح الشخصية. هذا هو العالم الإسلامي في سنة 1959: عالم مريض وعاجز عن العمل، لأنّ كل عمل يفترض وجود فكرة مُوَجِّهة ومعها وسيلةِ تنفيذ. لكن الفكرة والوسيلة مرتبطان في التحام تام مع المعادلة الشخصية، أي مع الأنا“.
وكان كلّ من إبراهيم مزهودي وعمارة بوقلاز والوردي وبوقسة، وآخرون من المجاهدين المعروفين يزورونه في إقامته. وكانوا يشتكون من زملائهم في الحكومة المؤقتة مُتَّهمين إياهم بأن كل واحد منهم يسعى إلى خلق مجال للسلطة الشخصية بدلاً من التَّفرُّغ لمحاربة الاستعمار.
وخلال نهاية السداسي الأول من سنة 1959 شرع مالك بن نبي في زيارة لكل من سوريا ولبنان، ودامت إقامته فيهما ما يقارب الشهر. وقد استُقبِل كضيف شرف، وألقى عدة محاضرات في كلا البلدين. كان شهراً سعيداً بالنسبة إليه. فبصدور كتبه بالعربية صار اسمه معروفا في المشرق كله. واقتُرِحَ عليه الإقامة في لبنان، وكان الدكتور حسن صعب الذي ترجم نص “الإسلام والديمقراطية” يُصِرُّ على ذلك. لكنّ بن نبي لم يكن بإمكانه النزول عند تلك الرغبة رغم الاضطراب الذي يعيشه في مصر، حيث ساءت علاقاته مع رؤوس التيار الماركسي في الحكومة المصرية برئاسة علي صبري الذي يُكِنُّ له عداوة خاصة.
والواقع أن مالك بن نبي كان يصعب عليه أن يتواءم فلسفياًّ وسياسيا مع نظام جمال عبد الناصر الذي كان يدعو إلى القومية العربية، وهو، أي مالك بن نبي، كان لا يؤمن إلاّ بوحدة العالم الإسلامي حضارياًّ وفي إطار بُعْدٍ أوسع هو العولمة. وعلى كل حال، فإنَّ هذا الاختلاف في الرؤية واضح جدا في كتاب “النزعة الأفروآسيوية” وكتاب “فكرة كومنولث إسلاميّ”. على أنَّه كان يستأنس بصداقة الوزراء حسن الباكوري، وكمال الدين حسين، وأحمد عبد الكريم، ونهاد القاسم، وبعض رجالات الفكر الذين يُقدِّرون مقامه مثل عمر بهاء الدين العامريّ، والدكتور الباهي، وسعيد العريان، والدكتور أبو زهرة، وصلاح الدين الشاش، كما كان كثيرا ما يزور بطل معركة الريف المغربي، الأمير عبد الكريم الخطابي.
وبتاريخ 12 أكتوبر 1959 خصصت صحيفة (الحرية) العراقية طبعتها لحدثين هامين في ذلك اليوم، هما: محاولة اغتيال الرئيس العراقي عبد الكريم قاسم، والرسالة التي وجهها مالك بن نبي للرئيسين أيزنهاور وخروتشوف اللّذيْن عَقَدا اجتماعا في كامب ديفيد، وفي هذه الرسالة يناشدهما أن يجدا مخرجا للأزمة الجزائرية. ومن الأفعال الشنيعة التي ارتكبها الاستعمار وذكرها بن نبي في الرسالة، اغتيال الشهيد عيسات إيدير مؤسس الاتحاد العام للعمال الجزائريين.
وفي شهر نوفمبر من نفس السنة عاد إلى لبنان تلبيةً لدعوةٍ وُجِّهَتْ له للمشاركة في مؤتمرٍ حول العلوم السياسية. وفي 12 ديسمبر أرسل إليه جمال عبد الناصر كلمة يشكره فيها على الرسالة التي وجهها للرئيسين الأمريكي والسوفياتي.
وكانت جامعة الأزهر كثيرا ما تطلب منه تحليل بعض المؤلفات الغربية مثل (تطوّر الإسلام L’évolution de l’islam ) الذي ألّفه ريمون شارل Raymond Charles، و (التوراة والقرآن La Bible et le Coran ) بقلم جاك جوميي Jacques Jomier، أو (الإسلام في مواجهة التطوّر الاقتصاديّ L’islam face au développement économique ) لجاك أستروي Jacques Austruy. وقد تولّى بن نبي تحرير تقارير تحليلية باللغة العربية حول تلك الكتب. ويتبيّن من المخطوطات والمسوّدات التي عثرنا عليها في أرشيفه أنّه كان يتحكّم في زمام اللغة العربية تمام التحكّم في تلك الفترة من حياته، لأنّ تلك الآثار تعالج مواضيع متنوِّعة مثل التفسير والاقتصاد والجيوستراتيجيا.
التقى بن نبي مع المودودي (1903-1980) الذي كان في زيارة لمصر في 19 جانفي 1960 . وخلال الشهر نفسه نشرت مجلة (الحضور الإفريقي Présence africaine) الرسالة التي وجهها إلى مؤتمر الكُتَّاب السُّود المنعقد في روما. وكانت له زيارة ثانية لدمشق كمُحاضِرٍ خلال شهر أوت، وبالمناسبة قابله وزراء عديدون. في 18 اكتوبر كتب إلى خروتشوف ليشكره على دعمه للجزائر. وفي شهر نوفمبر اتصل به سكرتير الملك سعود ليقترح عليه الإقامة في الولايات المتحدة كمُرْشِد لجمعية إسلامية، لكنه رفض. وفي ديسمبر عاد ثانية إلى سوريا حيث عرفت محاضراته نجاحا باهرا.
وفي نهاية سنة 1960 نشرت الصحافة المصرية خبرا مفادُه أن مالك بن نبي مُقترَحٌ لنيل جائزة نوبل للسلام. وردّ بن نبي عن ذلك ببيان أرسله إلى مختلف الصحف، ويقول فيه: “لم أترشّحْ لنيل هذه الجائزة، ولا أطمح في نيلها“. وبعد ذلك ببضعة أيام نشرت صحيفة (الحقائق) بتاريخ 29 ديسمبر 1960 مقالا تحت عنوان “فيلسوف جزائري مُقترَح لنيل جائزة نوبل”، وممَّا جاء في المقال: ” لقد اقترحت الأوساط الأدبية في ستوكهولم كاتبين لنيل جائزة نوبل، وأحدهما هو الكاتب الجزائريّ مالك بن نبي… لكن هذه الجائزة سبق أن نالها في الماضي، وسينالها في المستقبل كُتّاب آخرون غير مالك بن نبي، بالنظر إلى طبيعة كفاحه السياسي وفلسفته التي يفتح بها للإنسانية آفاقا جديدة باتجاه الشرعية والخير والسلام…” . ولم تنبس الحكومة الجزائرية المؤقتة بكلمة واحدة إزاء هذا الخبر لكي يفهم العالم أنها لا تساند بن نبي في إمكانية أن يناله.
ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يُقترح فيها بن نبي لنيل جائزة. فلقد ذَكَرَ في المخطوطة الفرنسية لكتاب “الصراع الفكري في البلدان المستعمرة” أن مجلة Le jeune musulman وهي لسان حال جمعية العلماء (بالفرنسية)، نشرت بتاريخ 26 مارس 1954 بيانا لـ (الجالية الإسلامية في هامبورغ) تعلن فيه أن الدكتور فاوس Pfaus نال جائزة جمعية الصحافيين الهنديين. وقد “اقترح هذا الأخير على رئيس الجمعية فكرةَ أنّ السيد مالك بن نبي، مؤلِّف كتاب “الظاهرة القرآنية”، يستحق هو كذلك نيل هذه الجائزة”.
وعلى الفور نشر مالك بن نبي توضيحاً يقول فيه: “ليس بإمكاني قبول هذه الجائزة سواء أكان من أجل “الظاهرة القرآنية” أو من أجل كتابٍ آخر“. ومن جانب آخر كان هو صاحب التوصية المتعلقة بتأسيس (جائزة لمنطقة السلام) التي تضمنها القرار رقم 10 الصادر عن المؤتمر الأفروآسيوي المنعقد في شهر ديسمبر 1957 بالقاهرة. لقد خامرتْه الفكرة سنة 1954، أي قبل ميلاد الحركة الأفروآسيوية بمدة طويلة، وهذا ما يُستفادُ من تصريح الكاتب في النسخة الفرنسية من كتاب “الصراع الفكري”.
وعندما اندلعت أحداث بيزرت بتونس، أرسل مالك بن نبي برقية إلى الرئيس بورقيبة يقول فيها: “يشرفني أن أتقدم إلى سيادتكم باحترام لأعرض خدماتي في الإسعاف بأي مكان يخوض فيه الشعب التونسي البطل معركته المقدسة ضد العدوان الاستعماريّ. احتراماتي. مالك بن نبي. أديب. 51 شارع سيود. هيليوبوليس“. ولمّا أُعلِنَ عن وقف إطلاق النار في الجزائر بتاريخ 19 مارس 1962 كان في أسوان تلبيةً لدعوة من حاكم المدينة، فالتحق بالقاهرة فوراً ليكون في الموعد مع استقبال الزعماء الجزائريين الذين كانوا في السجن وأُطْلِقَ سراحهم. وجرى ذلك الاستقبال في المطار بحضور جمال عبد الناصر وكمال الدين حسين وحسين الشافعيّ.
المراجع:
1) عن مقال: « A la veille d’une civilisation humaine ? 4 » “عشية ظهور حضارة إنسانية “، منشور في جريدة « La République algérienne » بتاريخ 29 جوان 1951. وهذه الفكرة عند مالك بن نبي يمكن تشبيهها بفكرة مماثلة لدى نابليون بونابارت الذي قال عشية معركة روسيا: “إنني أشعر باني متجه إلى هدف لا أعرفه. وإذا ما حققت هدفي ولم يعُدْ وجودي ضرورياًّ، أصبح انكساري من السهولة بحيث تكفي ذرة واحدة لإحداثه. لكن في انتظار ذلك، فإنّ كل قوى البشر لن تستطيع ان تفعل بي شيئا”. إنّ قوة العزيمة واحدة عند هذين الرجلين. لكن الأول يقود أقوى جيش في عصره، أما الثاني فيتخبّط بمفرده على جبهة الحرب الإيديولوجية التي يواجه فيها الاستعمار والقابلية للاستعمار اللذيْن تكتّلا ضدّه.
2) عن كتاب: « Les origines du 1er novembre 1954 », Ed. Dahlab, Alger 1989..
3) لقد تفادينا نقل الأحكام القاسية التي أصدرها بن نبي في حقّ الشخصيات الوطنية أو الأجنبية التي اصطدم معها، وبعض تلك الشخصيات لا يزال على قيد الحياة.
المصدر: كتاب "جوهر فكر مالك بن نبي"، منشورة دار النشر سمر سنة 2016