الشيخ العلامة عبد الحميد بن باديس.. المربي الرائد والمعلم الفذ
بقلم: فائزة سليمان –
إن المساهمة الفعالة في إعادة تشكيل وعي ثقافي وحضاري جديد، يدعونا إلى الوقوف مع أنفسنا للفحص والمراجعة والمكاشفة والمشاورة والاستفادة من تجارب الآخرين؛ خاصة من أبناء الأمة المخلصين. كما يدعونا بحرارة للتعرف على العلل التي أسلمتنا إلى هذا الواقع المحبط الذي نحن فيه...واقع يحتاج إلى تغيير – دون شك – ويحتاج إلى تجاوز شعار كثيرا ما نردد : " ليس في الإمكان أبدع مما كان " أو شعار " فاقد الشيء لا يعطيه ".. شعارات قاتلة للفاعلية والتطلع إلى المستقبل " برؤى " مبصرة وبخطى واثقة..
لقد صنعنا لأنفسنا " رضا " هو موت قبل الموت وفناء قبل الفناء..!
إن الخريطة الجديدة للعالم اليوم.. جعلتنا نتحرك في كل الإتجاهات.. وجعلتنا في بحث متواصل عن ذواتنا، وعن أدوارنا، وعن أهدافنا، للأسف بكثير من التردد والخوف والجهل؛ لأننا – ببساطة- لا نملك ذلك " الوعي المرهف " بخطورة ما نحن عليه، كما أننا لا نتمتع " بالبصيرة " في ملاحظة ما نكابده من صعوبة للعيش في زمن تحول العالم فيه إلى قرية صغيرة ، صغيرة جدا .. !
ولأننا لم نستطع أن نستكشف العلل الحضارية : علل التفكير، علل التدين، علل التعليم، علل التربية، علل السياسة، علل الإعلام، علل الإقتصاد... والقائمة طويلة، بعيون وأدوات الخبير العارف المتمرس ؛ فوصلنا دون أن ندري أو ربما ونحن ندري إلى حالة " الإنطفاء " الفكري والحضاري وإلى مرحلة " السكون "... فسكنت طاقاتنا، وتبعثرت هممنا، وتعطلت إراداتنا الفاعلة عن العمل والإعمار والإثمار، وتعمقت أحاسيسنا السلبية بعدم قدرتنا وعدم جدوانا !
لا مناص من استيعاب التجارب ..
إن التوغل في أعماق التاريخ لهذه الأمة، ومعرفة حقيقة مسارها وجوانب القوة والنهوض فيه، وأسباب الضعف والسقوط أمر لا مناص ولا بد منه. ولعلها تكون خطوات موفقة في رحلة جادة، ممتعة إلى عوالم المصلحين والمغيرين والمجددين...
إن التفكير الإستراتيجي المطلوب الإيمان به اليوم يدعونا إلى إستشراف الماضي واستيعاب التجارب " الرائدة " السابقة، والإحاطة بقضايا الأمة والساعة، وتحديد " سنن " السقوط والنهوض والنظر في " إيجابيات " الحاضر ووضعها في موقعها المناسب من المسيرة...والنظرة الشمولية لواقعنا هي الحل الأمثل للتغيير والتحسين في نظري.
إن التواصل الفعال مع تجارب الرواد من أصحاب الأفكار والمناهج... هوربح خالص لنا..ولأفكارنا التي نطمح أن تكون في القمة .. !
حديث عذب ..عن رجل خاص
لعل الحديث عن رجل خاص ، خاض تجربة غنية في الإصلاح والتجديد والتغيير في العصر الحديث سيكون حديثا عذبا...وسنسارع إلى القول أن الأمر هنا يتعلق بالشيخ " عبد الحميد بن باديس " رحمه الله رائد الإصلاح ورئيس جمعية العلماء المسلمين في الجزائر..
إن تجربته الحضارية، كان لها الدور الأهم في احتفاظ الجزائر بعروبتها وإسلامها وبعبارة أدق بهويتها وبناء جيل التحرير وجيش التحرير والاستقلال... تلك التجربة التي شكلت عمقا تاريخيا في الضمير الجزائري...
ربما سيكون السعي لتعميق أفكار هذا الشيخ الجليل ، المتميز...من صميم اللحظة " المستقبلية " للبناء : بناء جيل يحمل على كاهله " مسؤولية " أن يكون أفضل. وسنحاول أن نعرض لجوانب القوة في تفكيره وجوانب التميز في منهجه وجوانب الإبداع في جهوده التربوية، وجوانب الفاعلية في خطته الإصلاحية وجوانب التألق في خطابه الإعلامي، دون أن ننسى جوانب التفوق في مشروعه الحضاري وجوانب السحر في شخصه المتواضع..
إن هذا الرجل الذي كرس أكثر من ربع قرن كامل من حياته للقرآن.. رجل إستطاع أن يستوعب الواقع الجزائري بكل سلبياته ومكوناته، كما استوعب واقع الأمة الإسلامية بشفافية روحية خاصة، وبطريقة فهم أصيلة ومتفردة، ولم يغب عنه لحظة واحدة أن صلاح هذه الأمة مرهون بالمنهج الذي صلح به أولها...
إن خطتنا في الحديث عنه.. واضحة الأهداف... تقوم على تعميق حب هذا الرجل وتثمين جهوده والإتكاء عليها في تربية الشباب وتحريرهم من هذا العجز والكسل، عجز يشل القدرة على التفكير والتفعيل، وكسل يميت الإرادة... وسيكون الرسول صلى الله عليه وسلم قدوتنا في ذلك حيث كان دعاؤه المأثور : " اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل.."
وهي خطة سنراعي فيها مبدأ " الأولويات " وسنحترم فيها سنة التدرج وسيكون هدفها محاولة جادة لفتح أفق علمي – ثقافي – فكري- تربوي قد يفيد في إعادة قراءة الواقع الحاضر وفهمه فهم صحيحا .. !
وستكون البداية حديث هادئ عن جهود " عبد الحميد بن باديس " التربوية وهو جانب مهم من جوانب شخصية غنية بلغت " القمة " في التنوع " لقد كان إبن باديس مناظرا مفحما، ومربيا بناء، ومؤمنا متحمسا، وعابدا محبا والها... ووطنيا... ومصلحا... وشاعرا... ومفسرا.... وخطيبا لا يتردد ولا يتلعثم كما كان صحفيا قديرا ومؤرخا ومحللا " مما يجعل الفرصة متاحة لأي باحث ودارس، للتواصل معه والتعرف عليه ودراسته بشكل ومفيد، وممتع.
نربي تلامذتنا على القرآن ..
إن هم ابن باديس في تكوين " رجال " يوجهون التاريخ ويصنعونه، ويغيرون الأمة الجزائرية وينهضون بها قد إرتكز على قاعدة أساسية هي تربية وتعليم " الجيل " وكانت جهوده وفق منهج أصيل حقق أهدافه بكل تأكيد.
قال رحمه الله : " إننا –والحمد لله – نربي تلامذتنا على القرآن من أول يوم ..ونوجه نفوسهم إلى القرآن كل يوم..."
وكانت بذلك وجهته " الأولى " صوب التربية والتعليم لبناء " النخبة " التي ستمثل بعد ذلك- فكر الأمة وقيادتها، فأسس جمعية التربية والتعليم الإسلامية بقسنطينة (1349 هـ- 1930 م) وكانت " باكورة " جهوده التربوية والدعوية والتعلمية. وكانت بداية مباركة " ليقظة " غيرت مجرى التاريخ في الجزائر, يقول مالك بن نبي رحمه الله : " لقد بدأت معجزة البعث تتدفق من كلمات إبن باديس، فكانت ساعة اليقظة، وبدأ الشعب الجزائري المخدر يتحرك ويالها من يقظة جميلة مباركة..." . ولأن العملية التربوية هي مجموعة المعارف والخبرات التي تساعد الفرد على التكيف مع متغيرات مجتمعه؛ ولأنها التدرج في تنميته تنمية كاملة شاملة فإن " فلسفة " التربية الباديسية حددت مسار ومنهج وهدف " العملية " بوضوح. وهي فلسفة " ربانية تركز على دعامتين: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد ساهمت في توفير الإطار التوجيهي لكل الأنشطة، وحددت بعمق " بنية " هذه التربية....وقد تجسدت في تلك " الإفتتاحيات " المتينة لمجلة الشهاب بنماذج من تفسير الشيخ للقرآن الكريم تحت عنوان " مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير "... وتلك " الإلتفاتات " المعبرة لمجلة الشهاب أيضا لشروح موطأ الإمام مالك تحت عنوان " مجالس التذكير من حديث البشير النذير ".
منهج واضح دقيق
ولعل "تعامل" الشيخ الرئيس عبد الحميد بن باديس بأسلوب الفهم السنني مع الواقع الجزائري استيعابا وتحليلا، والمطبوع بطابع الجدية والدقة المنهجية كان وراء "وعيه العميق" بالحاجات الملحة للأمة، وهو ماجعله بعد ذلك يركز على الجانب التربوي والتعليمي والإرشادي والدعوي أكثر من أي شيء آخر. ويمكن أن نلاحظ أن الأدوات التي إستند إليها الشيخ عبد الحميد بن باديس والأساليب التي إعتمدها هي خلاصة " رؤيته " وقد بدت بهذا الترتيب التربية بالقدوة: وتعني ببساطة وجود المربي الذي يحقق بسلوكه، وممارسته التربوية المثال الصادق لأهداف " المنهج " التربوي المراد إقامته والحقيقة أن التلميذ في المدرسة، والطالب في الجامعة يحتاج كل منهما إلى " نموذج " عملي للتربية ليتأكد أن ما يطلب منهما من فضائل أمر " واقعي " يمكن ممارسته. ويبقى هذا البعد " التربوي " هو الأول في رسالة المعلم.
تنمية القدرات الذاتية للطالب : ركز الشيخ عبد الحميد بن باديس في خطته التربوية على تنمية التحصيل الذاتي للعلم وحث الطلبة على عدم الاكتفاء بالبرامج "المقررة " وحدها قال في الشهاب سنة 1932: " على الطلبة أن يسيروا عل خطة التحصيل الدرسي والتحصيل النفسي ليقتصدوا في الوقت ويتسعوا في العلم ويوسعوا نطاق التفكير".
توجيه طاقات الشباب : أدرك الشيح الرئيس الأهمية البالغة لعملية توجيه طاقة الشباب وتصريفها بشكل" منظم " مدروس، وتوجيهها توجيها إيجابيا بناء، وإعتنى بأوقات فراغ الناشئة ودعا إلى ملأها بما يفيدهم، لحمايتهم من الانحراف.... فكان يدعوهم إلى الترويح عن أنفسهم بما يطيب لهم من الهوايات كالسباحة والخروج إلى الطبيعة والإبداع...
وكان يراعي نفسية المتعلم وحاجته إلى ما يبعث الراحة والتفاؤل لديه يقول عن نفسه " لم تفارقني مهنة المعلم، فكنت أجدنى عن غير قصد أقرر نكتة في بيت من الشعر أو عبرة في حادث من التاريخ...."
الوعظ والتذكير : الموعظة الحسنة عند الشيخ لها أثر في تربية النفوس، إن التربية عند الشيخ عبد الحميد بن باديس تربية شاملة لا تقتصر على جانب واحد، فهي تربية للجسم والروح والعقل والقلب. يقول رحمه الله :
" الإنسان مأمور بالمحافظة على عقله وخلقه وبدنه... فيثقف عقله بالعلم ويقوي أخلاقه بالسلوك النبوي ويقوي بدنه بتنظيم الغذاء..."
وأهم ملامح تلك التربية تتلخص في النقاط التالية :
- تربية روحية : يرى الإمام أن المخاطب من الإنسان " نفسه " لذلك فالعناية بتزيينها بمكارم الأخلاق من تمام صلاح التربية وبلوغ الكمال الإنساني، ذلك لأن الإنسان " مهيأ للكمال بما فيه من الجزء النوراني العلوي وهو روحه، ومعرض للسقوط والنقصان بما فيه من اختلاط عناصر جزئه الأرضي وهو جسده ".
- تربية جسمية : إذ ضعف الجسم يقل آداؤه العقلي والاجتماعي، وبالتالي لن يكون الإنسان عنصرا فعالا في مجتمعه، فالرياضة البدنية والوجبات الغذائية المتوازنة لها دور " حيوي " في سلامة الأعمال يقول الشيخ ابن باديس رحمه الله "... تتوقف الأعمال على سلامة الأبدان، فكانت المحافظة على الأبدان من الواجبات...."
- تربية سلوكية عملية : إن تفعيل الأقوال والأهداف " مقصد " تربوي، لذلك حرص الشيخ بشدة على أن يكون من رجاله : رجالا عمليين،مطبقين،ملتزمين. و كان يوصيهم أن ينشروا ما تعلموه برفق ولطف "، ويظهر دور المربي القدوة في هذا الجانب واضحا جليا.
- تربية عقلية : حث الإمام عبد الحميد بن باديس على تثقيف العقل والمحافظة عليه يقول :" حافظ على عقلك فهو النور الإلهي الذي مُنحته لتهتدي به إلى طريق السعادة في حياتك " . ودعا طلبته إلى تنمية القدرات العقلية وتخليصها من الأوهام والشكوك والخرافات، وربطها بالعلوم والمعارف يقول : " التفكير، التفكير يا طلبة العلم، فإن القراءة بلا تفكير لا توصل إلى شيء من العلم وإنما تربط صاحبها إلى صخرة الجمود...."
لقد أدرك الشيخ الرئيس " الأهداف " ببراعة المربي الذي يراعي الأولويات، وقد بين الهدف التربوي الذي يسعى لتحقيقه بأنه " الرجوع (بالشعب) إلى عقائد الإسلام المبينة على العلم وفضائله المبنية على القوة والرحمة وأحكامه المبنية على العدل والإحسان ونظمه المبينة على التعاون بين الأفراد والجماعات....."
فالتربية عند إبن باديس تهدف إلى :
- تحقيق العبودية الخالصة لله في حياة الفرد والمجتمع.
- إحداث التغيير " الداخلي " في الفرد الجزائري خاصة،والمسلم عامة.
- النهوض بالمجتمع الجزائري، ودفعه إلى التخلص من الإستعمار.
إحالات ومراجع .
1- إبن باديس حياته وآثاره: د. عمار طالبي ج1.
2- البصائر السنة I عدد 16 صفر 1355 هـ أفريل 1936.
3- شروط النهضة: مالك بن نبي ص 24.
4- الشهاب ج3 دو القعدة 1351 هـ 1932
5- الشهاب ج5 محرم 1351 هـ 1932م
6- الشهاب ج8 1352 هـ 1936م
7- عمار طالبي ج3 ص 92 ابن باديس حياته وآثاره .
8- إبن باديس حياته وآثاره ج4 ص 19.