الشيخ العربي بن بلقاسم التبسي (1896 – 1957)
بقلم: محمد الصالح بن عتيق -
ولد الشيخ عام 1896 على أحد الاحتمالات، وهو من أقطاب النهضة الإصلاحية بالجزائر.
بدأ القراءة بمسقط رأسه، ثم انتقل إلى نفطة بالجريد لحفظ القرآن. وتلقى – هنا –المبادئ العلمية الأولى. ثم إلى تونس للدراسة بجامع الزيتونة، بل قصد مصر للدراسة بالجامع الأزهر، وبقي فيه مجتهدا، وحصل على معلومات قيمة، وخاصة علم الأصول. وقضى بالأزهر ما يقرب من أربع سنوات.
صدى الاعتداء على الأستاذ ابن باديس في الأزهر الشريف:
بعث الطلبة الجزائريون برسالة إلى (الشهاب) في 3 فبراير سنة 1927 م ينعون فيها بالأئمة على المجرم المعتدي، ويهنئون الأستاذ بالسلامة، ونص الرسالة:
إلى صاحب الفضيلة الأستاذ الجليل الشيخ عبد الحميد بن باديس، أطال الله بقاءه، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد فنهنئ أنفسنا، و نهنئ العلم، وآمال الأمة، ونهنئك بالنجاة من كيد من ابتلى الله به الدين و الأمة، و العلم و القومية، وأنا لما أصابك لفي غم يونس، و حزن يعقوب، ونشكو إلى الله التقصير !
ولئن أوسد بك هذا الكلب، فلك بابن أبي طالب – جعل الله أجلك أفسح من أجله، وقارب بينك وبينه في عظيم الأجر- ما يملأ النفس عزا، والقلب رضى، وأن جل الخطب، وعظم المصاب، وإن ما نزل بك - من القضاء الذي لا محيص منه – كان علينا جيرة الأزهر الجزائريين، أوجع نبأ.
ولئن كانت فئة العيلوين المارقين، ومن سييحشر معهم قصدوا من عدوانهم على الأمة في شخصك، أن يسكتوا داعي الله، فأني بك – وأنت الأسد الهصور – مسمعهم قول من أنت أعلق منه بالمعالي يوم أن سامه بعض قومه مثل ما سامك من هو معدود منا مساكنه:
(أيها السادة: إذا تقدمت فاتبعوني، وإذا تأخرت – وحاشاك- فاقتلوني، وإذا قتلت – لا قدر الله – فخذوا بثأري) فستجد أصحابك ليس أقل غيرة عليك من أصحابه، ولئن اختلف ظرف المكان.
القاهرة 16 يناير 1927م
عن جيزة الأزهر الجزائريين: العربي بن بلقاسم التبسي
ومن الأزهر الشريف بمصر، عاد إلى تونس، وشارك في امتحان التطويع سنة 1928م، فحاز على (شهادة العالمية).
ولما عاد إلى الجزائر، وجد الحركة الإصلاحية في عنفوانها، وشارك فيها مشاركة فعالة بقلمه ودروسه ببلدة تبسة.
ثم انتقل إلى بلدة (سيق) بعمالة وهران، وكانت هذه المنطقة – من غرب الوطن – يرزح تحت أعباء (الطرقية) المخرفة، وتعاني التخلف العقلي، وكان طلبتها وفقهاؤها، ينبرزون العلماء المصلحين بجهلهم للدين، وأحكام الفقه، وأنهم رجال أوتوا ذلاقة اللسان، والسفسطة.
ولما انتصب الأستاذ التبسي لإلقاء الدروس بالمسجد، كان هؤلاء الطلبة ممن يحضرونها، فسمعوا منه في الفقه وغيره ما جعلهم يعترفون له بالعلم، ويغيرون رأيهم فيه، وفي إخوانه علماء الإصلاح.
وإلى جانب هذا كان يهاجم البدع والخرافات المنتشرة في كامل المنطقة، ولم يستطع أنصارها أن يقفوا أمامه، ويردوا هجماته المتواصلة بالحجة و الدليل، وخافوا على سلطانهم أن ينهار، وعلى سمعتهم – بين العامة – أن تضمحل، فالتجأوا إلى الاستعانة عليه بالإدارة الاستعمارية، لتضع له حدا، فاستدعاه حاكم البلد الفرنسي، وقابله بغطرسة وعنف، وقال له: أنت تحارب الزوايا وأهلها، ألا تعلم أنهم أحباب فرنسا؟
قال الشيخ: نعم، أعلم هذا، ولكن لا أعلم من هم أعداؤها؟ ألا تجيبني يا حضرة المتصرف؟
فنظر إليه وقد أدركه شيء من العجز، و الخجل، ثم قال له: أنصحك أن تكف عن الحديث عن الزوايا وأصحابها، وإلا فستضطرنا إلى اتخاذ إجراءات ضدك و خير لك أن ترحل من هذا البلد ! ...
وبدأت الأجواء –هنا وهناك – تتلبد، والمضايقات تشتد، والمؤامرات من الإدارة تحاك وتتواصل، فلم ير الشيخ بدا من الرجوع إلى بلده (تبسة)، وأسس بها مدرسة، ومسجدا، وذلك سنة 1934.
والشيخ العربي علم من أعلام النهضة الجزائرية، وركن من أركان الإصلاح، وحارسا أمين من حراس الشريعة الإسلامية، وداعية كبير من دعاتها، وحيثما حل ترك آثار بارزة، وطلبة كانوا على منواله علما وعملا.
وكان الشيخ العربي حاضر البديهة، قوية الحجة، محاورا فذا، خطيبا بارعا، جريئا في إبداء رأيه. وكانت له أجوبة مسكتة، وحجج مفحمة لخصمه، من ذالك، ما ذكرنا له مع الحاكم (سيق)، ومنها ما حدث له مع الدرك الفرنسي بمدينة (البويرة) سنة 1955م، ولمّا أوقفوا السيارة التي كان يمتطيها هو وصحبه، وطلبوا من ركابها تقديم أوراق التعريف، فأخذوها و ذهبوا بها إلى إدارتهم، ولم يعودوا بها في الحال، وكان أحد الدرك قريبا منا، فناداه الشيخ وقال له:
قل لأصحابك يعيدون أوراقنا، فنحن على سفر، وليس لنا من الوقت ما نضيعه هنا.
فذهب وجاء، ومعه الضابط يحمل أوراق التعريف، وأخذ يقرأها ويتعرف على أصحابها، وهم: الشيخ العربي – من تبسة- والشيخ عبد اللطيف سلطاني – من القنطرة- والشيخ محمد الصالح بن عتيق – الميلة- فظهر على الضابط شيء من التعجب لاجتماع شخصيات من جهات مختلفة...
ثم وجه سؤالا في غطرسة وكبرياء قائلا: من أين أتيتم و إلى أين تتجهون؟ فأجابه الشيخ العربي: جئنا من العاصمة، متجهين إلى شرق البلاد.
قال الضابط: من أتى بكم إلى الجزائر، وأنت من الشرق؟ فأجابه الشيخ على الفور: ليس العجب أن نأتي إلى الجزائر، وهي بلادنا، ولكن العجب أن يأتي إليها قوم وهم ليسوا منها. فطأطأ الضابط رأسه وأشار – في عنف- إلى السائق بالمسير. ولما سارت السيارة بنا شعرنا بأن هناك مكيدة تدبر ضدنا، وإنهم سيلحقون بنا. وقبل الخروج من البلد أمر الشيخ العربي السائق أن يعدل بنا إلى ناحية من البلد، بمنزل أحد الأصدقاء. ولما وصلنا استقبلنا صاحب المنزل أحسن استقبال، وطلب منا أن ندخل إلى منزله. أما السائق فقد أمره الشيخ أن يذهب بسيارته إلى مكان ما، ويذهب راجلا يراقب تحركات رجال الدرك. ولما عاد أخبرنا انه شاهد سيارة لهم وفيها اثنان منهم عرف واحد منهما. وعندئذ اقترح صاحب المنزل أن يذهب السائق منفردا، وينتظرنا بمدينة سطيف، أما نحن فقد أنقلتنا سيارة الصديق إلى سطيف، ومنها تابعنا المسير إلى مدينة قسنطينة.
من مواقفه الوطنية:
كانت الثورة تشغل باله، وتأخذ حيزا كبيرا من اهتماماته، حتى أنه رفض أن يغادر الجزائر، عندما اقترحت عليه الجبهة، وجيش التحرير، أن يلتحق بمصر، أو
ليبيا، و يتجنب الأخطار التي تهدده، فأبى قائلا:
إن خروجي اليوم والوطن في حرب يعد فرارا من الزحف، الذي هو من اكبر الكبائر.
أنا لو كنت خارج الوطن ووقع هذا فيه، لدخلت فورا ! وإذا خرجت أنا – وأمثالي- في هذه الظروف، فمن يشجع الأمة ويحثها على مساندة الثورة؟ أن الحالة خطرة حقا، وإن الأعداء ليهددوننا في حياتنا في كل لحظة فماذا نصنع؟ أنترك الميدان لهم وحدهم؟ كلاّ !وألف كلاّ !
سأمكث هنا في الجزائر؟ و ليكن ما يكون !
وبقي– رحمه الله- يواصل نشاطه وخطبه في الجامع على الجمهور الغفير في صراحة وشجاعة، والجمهور يستجيب له بكل حماس.
وهكذا استمر في نشاطه وتأييده للثورة إلى أن وقع الاعتداء عليه من طرف (اليد الحمراء) بقيادة زعيمها المجرم (لقيارد)، وأخذ من منزله في ثياب النوم ثم أعدموه رحمه الله، رحمة واسعة.