مدرسة دار الحديث وبُناتُها

بقلم: الشيخ عبد الرحمن شيبان -

إن جمعية العلماء، التي كانت وراء تأسيس"دار الحديث"، وغيرها من المنشآت الدينية، والعلمية، في مختلف أرجاء الوطن، هي أقدم جمعية وطنية دينية علمية في الجزائر، وقد تأسست كما تعلمون في 17 ذي الحجة 1349هـ الموافق لـ  05 ماي 1931م، في إطار معجزتين اثنتين: قرآنيةٍ ونبويةٍ :

فالمعجزةُ القرآنية تتمثل في قوله تعالى في الآية 11 من سورة الرعد القاضية بأن التغيير سُنةٌ كونية تتحقق سموا وانحطاطا بـحسب إرادة البشر، والتي نصها:} إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ{.

أما المعجزة النبوية فهي: أن تأسيسها وافق مرور مائة سنة على الاحتلال الفرنسي للجزائر، وقد اطمأن لنجاحه المطلق في تحويل الجزائر إلى أرض فرنسية ترابا، ودينا، ولسانا، فإذا الجمعية تتأسس إثر ذلك، وفقا للحديث الذي رواه الأئمة: أبو داود والحاكم والبيهقي، عليهم رحمة الله جميعا، رواية عن أبي هريرة –رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد قال: »إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها«، لترفع شعارها الذي هو شعار الحركة الوطنية قاطبة، الإسلام ديننا، ردا على الزعم الاستعماري القائل بأن الجزائر قد عادت إلى مسيحيتها التي كانت منتشرة فيها قبل الفتح الإسلامي، والعربية لغتنا، ردا على الزعم بأن لغة الجزائريين قد صارت الفرنسية، والجزائر وطننا، ردا على الزعم القائل بأن الجزائر قطعة من فرنسا، وعمالة من عمالاتها فيما وراء البحر، كلا، إن الجزائر- بحول الله - وطن للجزائريين، وما كانت، ولن تكون، قطعة من فرنسا.

الغاية من تأسيس جمعية العلماء:

وقد كانت الغاية من تأسيس جمعية العلماء، هي تحرير الوطن بواسطة التربية والتعليم، والوعظ والإرشاد، وذلك عملا بقوله تعالى في أول ما نزل من القرآن الحكيم:}اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الإنسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الإنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ{، إذ لا هداية ولا رقي إلا بالعلم، وما يقتضيه من إيمان وعمل، كما نبه إلى ذلك مؤسس هذه الدار –رحمة الله عليه- العالم العامل، والمربي المصلح، الإمام الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، إذ يقول في كتابه (آثار الإمام الإبراهيمي)، في صفحة 36، طبعة دار الغرب الإسلامي ببيروت:" مُحال أن يتحرر بدن يحمل عقلا عبدا" .

العوامل المساعدة على نجاح مسعى جمعية العلماء:

وقد ساعد جمعية العلماء على نجاحها في أداء رسالتها الإصلاحية التجديدية في جميع الميادين، التزام العمل في ضوء التوجيهات التالية:

اعتماد الكفاءة العلمية التي حثت عليها الآية 108 من سورة يوسف عليه السلام: }قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَن اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِن الْمُشْرِكِينَ{.

التزام الطريقة المثلى في تبليغ الدعوة إلى جمهور الشعب على اختلاف فئاته، وفقا لقوله تعالى في الآية 125 من سورة النحل:}ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ{، وقد اتسمت تلكم الطريقة بالوسطية، والاعتدال، ومواكبة العصر، والعلمية، بالتزام العلم في القول والعمل، امتثالا لقول الله تعالى في الآية 36 من سورة الإسراء:} وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً{، إذ يقول في تفسيرها في "آثاره" في الجزء الأول، صفحة 139:« العلم هو وحده الإمام المتبع، في الحياة، في الأقوال والأفعال والاعتقادات».

التسامح مع الموافق والمخالف، كما عبر عن ذلك قول الإمام ابن باديس –رحمه الله- في أول خطبة ألقاها أمام أعضاء المجلس الإداري للجمعية بمناسبة انتخابه رئيسا لمكتبها، الذي جاء فيه: » إخواني إنني أراكم في علمكم واستقامة تفكيركم لم تنتخبوني لشخصي، وإنما أردتم أن تشيروا بانتخابي إلى وصفين عرف بهما أخوكم الضعيف هذا: الأول أنني قصرت وقتي على التعليم إظهارا لمَقْصدٍ من أعظم مقاصد الجمعية، وحثا لجميع الأعضاء على العناية به، كل بجهده، والثاني أن هذا العبد له فكرة معروفة، وهو لن يحيد عنها، ولكن يبلغها بالتي هي أحسن، فمن قبلها فهو أخ في الله، ومن ردها فهو أخ في الله، فالأخوة في الله فوق ما يقبل وما يرد، فأردتم أن ترمزوا بانتخابي إلى هذا الأصل: وهو: أن الاختلاف في الشيء الخاص، لا يمس روح الأخوة في الأمر العام، فماذا تقولون أيها الإخوان؟ فأجابوا كلهم بالوفاق والاستحسان « .

نشاط الجمعية في المجال السياسي:

أما في المجال السياسي فإن الجمعية ركزت جهدها في تحرير العقول من التدجيل السياسي والتضليل الديني، وتغذية الروح الوطنية، وإحياء مقومات الشخصية الوطنية، وذلك في إطار إعدادِ الشعبِ الجزائري لتحرير الوطن من أغلالهِ -كما سبق الإشارة إلى ذلك -؛ فقد وضع لذلك إمامُنا ابن باديس –عليه رحمة الله- منهاجاً سارتْ على هُداه ثورتُنا التحريرية المُظفَّرة، ثورةُ نوفمبر 1954، فانتصَرتْ – بحول الله - وأبهرت، وذلك من خلالِ نشِيدِهِ الخالد:

شعبُ الجزائري مسلم  *   وإلى العروبةِ ينتسِب

الذي أنشدهُ في نِهاية حَفْلٍٍ مدرسيٍّ أُقيمَ بقسنطينة، بمناسبةِ المولد النبوي الشريف سنة1937، يدعو فيهِ إلى أمور ثلاثة:

1- الثورةِ المسلَّحة القائمة على محاربة الاستعماريين بالإرهاب المقدس، إذ يقول :

وأَذِقْ نُفــوسَ الظـالِميــــــن * السُّــمَّ يُمزجُ بالرَّهَــبْ

مستوحيا ذلك من قولِهِ تعالى في الآية 20 من سورة الأنفال:}وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ{؛ ومن لطائف القرآن أن الدعوة لإعداد العدة ليس المراد منها سفك الدماء اختياريا، وإنما الغرض منها إشعار العدو بقوتنا حتى لا يستخف بنا، ويدعم ذلك، حديث صحيح متفق عليه، رواه عبد الله بن أبي أوفى- رضي الله عنه- جاء فيه أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في بعض أيامه التي لقي فيها العدو، انتظر حتى مالت الشمس، ثم قام في الناس فقال: » أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموه فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف.«

2- الدعوة إلى القضاءِ على الخونةِ عملاء الاستعمار، من الجزائريين، إذ يقول:

واقْـلَـعْ جـُذُورَ الخـَائِـنيـــــنَ * فــمِنْهُمُ كلُّ العَــطَبْ

حتى لا يَخْرُقوا سفينة الحرية والاستقلال؛ عملا بالحديث النبوي الشريف، الذي أوردهُ الإمام البخاري - رحمه الله - في صحيحه، عن النعمان بن بشير ـ رضي الله عنهما ـ أنَّ النبيَّ ـ صلَّى الله عليه وسلم ـ قال : «مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا، كمَثَلِ قَوْمٍ استَهمُوا على سَفِينَة، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاهَا، وبعضُهم أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا من الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ ، فَقَالُوا: لَوْ أنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا؛ فَإِنْ تَرَكُوهُم وَما أَرَادُوا هَلَكُواْ جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُواْ عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا جَمِيعًا».

3- الدعوة إلى استنهاض هِمَم الجامدِين من الجماهير الشعبية لأخذِ العُدَّة للجهاد، إذ يقول :

واهْــزُزْ نُــفُوسَ الجَامِديـــــن * فربــما حيي الخـشـب

عملاً بقوله تعالى في الآية 65 من سورة الأنفال:}يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّض الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ{.

ذلك هو ما ركزت عليه جمعية العلماء جهدها في المجال الديني والعلمي والسياسي قبل الثورة.

مواقف الجمعية أثناء الثورة التحريرية المباركة:

أما بعد اندلاع الكفاح المسلح في غرة نوفمبر 1954، فقد أخذت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين على عاتقها تأييد الثورة ومناصرتها، ودعوة الشعب إلى الالتفاف حولها، فبادر المرحوم الشيخ الفضيل الورتلاني الذي كان بالقاهرة ساعة اندلاع الثورة، إلى إصدار بيان في 03 نوفمبر 1954، نشر في الجرائد المصرية في حينه، حي فيه الثورة ورجالها، وبارك جهادها، وأكد شرعيته، وقد استهله بقوله -رحمة الله عليه-: «حياكم الله أيها الثائرون الأبطال، وبارك في جهادكم، وأمدكم بنصره وتوفيقه، وكتب ميتكم في الشهداء الأبرار، وحَيَّكم في عباده الأحرار» واختتمه بقوله: «أيها الجزائريون الأحرار، أيها المكافحون في جميع أقطار المغرب العربي، اعلموا أن الجهاد للخلاص من هذا الاستعباد قد أصبح اليوم واجبا عاما مقدسا، فرضه عليكم دينكم، وفرضته قوميتكم، وفرضته رجولتكم، وفرضه ظلم الاستعمار الغاشم الذي شملكم، ثم فرضته أخيرا مصلحة بقائكم لأنكم اليوم أمام أمرين، إما بقاء كريم، أو فناء شريف».

ثم أُتبِع هذا البيان بنداء آخر يوم 15 نوفمبر 1954م أذاعه من إذاعة "صوت العرب" بالقاهرة الإمام المرحوم الشيخ محمد البشير الإبراهيمي بنفسه تحت شعار: «أعيذكم بالله أن تتراجعوا...» بارك فيه الكفاح المسلح واعتبره جهادا واجبا، ومما جاء فيه:

«حياكم الله وأحياكم، وأحيا بكم الجزائر، وجعل منكم نورا يمشي من بين يديها ومن خلفها، هذا هو الصوت الذي يسمع الآذان الصم، وهذا هو الدواء الذي يفتح الأعين المُغمضة، وهذه هي اللغة التي تنفذ معانيها إلى الأذهان البليدة، وهذا هو المنطق الذي يقوِّم القلوب الغُلف، وهذا هو الشعاع الذي يخترق الحجب والأوهام».

وقد أكد فيه صراحةً مشروعيةَ كفاح الجزائريين وأنه جهاد دعت إليه ضرورات دينية ودنيوية معا، مما يخرس أصوات المشككين، فقال:«إن فرنسا لم تبق لكم دينا ولا دنيا، وكل إنسان في هذا الوجود إنما يعيش لدين ويحيا لدنيا، فإذا فقدهما فبطن الأرض خير له من ظهرها».

وقد ختمه -رحمه الله- بقوله: «أيها الإخوة الأحرار هلموا إلى الكفاح المسلح إننا كلما ذكرنا ما فعلت فرنسا بالدين الإسلامي في الجزائر، وذكرنا فظائعها في معاملة المسلمين لا لشيء إلا لأنهم مسلمون، كلما ذكرنا ذلك احتقرنا أنفسنا، واحتقرنا المسلمين، وخجلنا من الله أن يرانا ويراهم مقصرين في الجهاد لإعلاء كلمته، وكلما استعرضنا الواجبات وجدنا أوجبها وألزمها في أعناقنا إنما هو الكفاح المسلح، فهو الذي يسقط علينا الواجب ويدفع عنا وعن ديننا العار، فسيروا على بركة الله وبعونه وتوفيقه إلى ميدان الكفاح المسلح، فهو السبيل الواحد إلى إحدى الحسنيين، إما موت وراءه الجنة، وإما حياة وراءها العزة والكرامة».

كما تصدت جمعية العلماء لمحاولة الاحتلال الفرنسي تمزيقَ الصف، وضربَ الجزائريين بعضهم ببعض، إذ زعمت فرنسا أنها لم تجد ممثلا شرعيا للشعب الجزائري كي تفاوضه، فبادر على الفور الإمام الشهيد الشيخ العربي التبسي – رحمه الله - إلى إحباط مناوراتها تلك بإصدار بيان باسم جمعية العلماء نشر في 4 فيفري 1955 بجريدة البصائر يعلن فيه أن ليس هناك ممثل شرعي للشعب الجزائري إلا الذين اضطلعوا بالكفاح المسلح فهم وحدهم الممثلون الحقيقيون للأمة، وإليكم ما قاله رحمه الله:
«إن برنامج التغييرات الأساسية الأصولية في أمور البلاد لا يمكن أن يُرتجل في باريس ارتجالا، بل يجب أن يكون نتيجة بحث ودراسة عميقة مع ممثلي الأمة الحقيقيين الذين يتكلمون باسم سائر الأحزاب والهيآت والمنظمات القومية».

وقد ختم بيانه ذلك –رحمه الله- بدعوة الشعب الجزائري إلى التحلي بالصبر والصمود ولزوم الوحدة والثقة بأن النصر آت لا محالة، فقال: «كما نتوجه إلى الأمة بكلمة طيبة نستحثها فيها على التماسك والتكتل والوحدة المطلقة في سبيل الدفاع عن حريتها المنتهكة، وحقها المغصوب، وكرامتها المهدورة، وروحياتها التي امتهنت، حتى تخرج من هذه الأزمة الطويلة المدى بتحقيق أهدافها، وبلوغ غايتها الكبرى، وأن تصبر الصبر الجميل، على ما تعانيه من إرهاق ومظالم فإن ساعة الفرج قريبة بحول الله».

نشاط الجمعية بعد الاستقلال:

ولما أذن الله بالفرج، وأشرقت شمس الاستقلال، ورفرفت راية الحرية في سماء الجزائر المستقلة، واصلت الجمعية نضالها وجهادها، وتصدت لكل المناورات التي رمت إلى التنكر للإسلام والعروبة، من ذلك مقاومتها بشدة للنزعة العلمانية التي رمى أتباعها إلى عزل الإسلام والعربية، وإقصائهما من الحياة السياسية للشعب الجزائري، فكان لي ولإخواني من رجال الجمعية شرف التصدي للعلمانيين في المجلس الوطني التأسيسي، عندما اجتمع لوضع أسس الدستور، فأرادوا أن يجعلوا من الإسلام والعربية دين الشعب، ولغة الشعب، وذلك قصد تملص الدولة من أي التزام نحو الإسلام والعربية، فأصررنا نحن على أن يُنص في الدستور على أن الإسلام دين الدولة وأن العربية هي اللغة الوطنية الرسمية حتى تصبح الدولة ملزمة، سياسيا واجتماعيا، برعايتهما، فتم لنا ذلك بتوفيق من الله، ولم يتوقف جهد الجمعية عند ذلك الحد، بل تصدت لمختلف الأفراد والهيئات الرسمية والشعبية التي حاولت جاهدة بكل ما أوتيت من وسائل وإمكانات لتشويه تاريخ الجمعية وتضليل الشعب، عن طريق إفهامه أن جمعية العلماء اقتصرت جهودها على مطالبة الاستعمار ببعض الإصلاحات لتحسين الحياة المدنية للشعب، بل تمادى بعضهم فاتهمها بتبني فكرة الاندماج بحجة دعوتها للمؤتمر الإسلامي سنة 1936، وبحجة تأخر اعترافها بالثورة حتى سنة 1956 فتوليت أنا ونفر من إخواني تفنيد تلك الدعاوى، وقد جمعت ما كتبته أنا شخصيا في هذا المجال من مقالات ستصدر قريبا في كتاب تحت عنوان "حقائق وأباطيل" – إن شاء الله.

المغزى من سنة 1956م!

وقد تعرضت في مقال منها، إلى الزعم الكاذب القائل بتأخر جمعية العلماء عن الالتحاق بالثورة حتى سنة 1956 وهو المقال المنشور في العدد13 من "جريدة البصائر" السلسلة الرابعة الصادر بتاريخ 13 جمادى الأولى 1421 الموافق لـ:13 أوت 2000 فقلت فيه: «إن جمعية العلماء لم تـنتظر سنة 1956 لكي تلتحق بركب الجهاد والمجاهدين، كما يدعي ذلك أعداء الإسلام ولغة الإسلام، وعلماء الإسلام، بهذه الديار، ووضحنا أن الجمعية والبصائر لسان حالها، كانتا منذ اندلاع الثورة مرآة تعكس المسيرة الجهادية بصدق ومثابرة جعل من البصائر لسان الثورة الشبه الرسمي على حد تعبير الإعلاميين...وقلنا وكررنا بأن جمعية العلماء قيادة، ومعلمين، وطلابا، وأنصارا كانوا مع الثورة منذ طلوع فجرها، بمشاركة الجميع في الجهاد بجميع أنواعه، في صفوف جيش التحرير الوطني، وجبهة التحرير الوطني، داخل الوطن وخارج الوطن، من ذلك البلاغات والنداءات التي وجهتها الجمعية إلى الشعب الجزائري، وإلى الشعب الفرنسي، وإلى الهيئات الرسمية المختلفة، فكان بيانها الأول، من القاهرة، في 03 نوفمبر 1954 والبيان الثاني، من القاهرة، أيضا في15 نوفمبر 1954، والبيان الثالث من عاصمة الجزائر نشرته البصائر في 04 فيفري 1955 وكانت كل هذه النداءات والبلاغات السابقة واللاحقة، تصدر عن الهيئة الإدارية للجمعية، أو أحد فروعها، إثر اجتماعات خاصة للهيئة الإدارية أو لفروعها، أما البلاغ الذي يصدر عن اجتماع عام لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، فلا يتأتى إلا إذا انعقد اجتماع عام، أو مؤتمر عام، يضم الممثلين لجميع الشُّعب المنتشرة في جميع أرجاء الوطن،  وهو ما تم تحقيقه في يوم السبت 23 جمادى الأولى 1375 هـ الموافق 07 جانفي 1956م، في الاجتماع العام للجمعية الذي انعقد بمقرها- بمباركة قيادة الثورة التحريرية – وقد تضمن بيانه الختامي: رفض أي إصلاح تعرضه فرنسا، غـير الاستقلال ، وأن لا مفــاوض يمثل الجزائر إلا رجال الكفاح المسلح ...فإن أقصى ما يمكن أن نقوله، بصفة مختصرة، تعليقا على سنة 1956م، وارتباطها بجمعية العلماء، وعلاقتها بالثورة النوفمبرية المباركة، هو أنها ليست بداية انضمام لجمعية العلماء إلى الثورة، كما يردد ذلك أعــداء الجزائر العربية الإسلامية...من الخادعين والمخدوعين،- وهم مع الأسف من أبناء جلدتنا- مثل الباحث الذي كتب مقالا في جريدة وطنية ناطقة بالفرنسية يؤكد فيه: »   أن العلماء، بصفتهم "مصلحين دينيين"، والشيوعيين، وحزب البيان الجزائري بزعامة فرحات عباس، لم يلتحقوا بالثورة إلا في سنة 1956«، بل إن بلاغ العلماء السابق الذكر، الذي صادق عليه الاجتماع العام للجمعية، يعد "سياسيا" بيانا ثانيا لثورة نوفمبر، أعدته جمعية العلماء بمباركة جبهة التحرير الوطني، وأعلنه العلماء في اجتماعهم وفي صحيفتهم بإرادتهم وإيمانهم، لأنهم من الثورة وإليها، يؤدون بعملهم هذا، واجبا مقدسا وطنيا وإسلاميا وإنسانيا، إنه بيان صريح واضح، يصدره حشد وافد من مختلف أصقاع الجزائر، يوزع على أوسع نطاق في داخل الجزائر وخارجها، يؤكد للقريب والبعيد، وللصديق والعدو، بأن:

الثورة الجزائرية ثورة شعب بأكمله يجاهد ليحطم أغلاله، وليسترجع سيادته واستقلاله، لا ثورة "قطاع طرق"، ولا ثورة  "شيوعيين"، ولا ثورة "قوميين ناصريين" أو غير ناصريين، كما تزعم أبواق الجلادين الاستعماريين».

وآية  الآيات الدالة على المشاركة الفعالة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين في الثورة، هي:

1- لقد ضم  المجلس الوطني للثورة الجزائرية بين أعضائه ثلاثة من أبرز علماء الجمعية، وليس ذلك لأحد سوى لرجال الإصلاح، وهؤلاء العلماء هم:

  - الشيخ  أحمد توفيق المدني –عليه رحمة الله-.

- الشيخ محمد خير الدين -عليه رحمة الله-.

- الشيخ إبراهيم مزهودي -أمد الله في أنفاسه-.

2- شارك ممثل عن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في الحكومة المؤقتة للثورة الجزائرية بشخص الشيخ  أحمد توفيق المدني.

3- في مرحلة استرجاع الاستقلال، ضم المجلس الوطني التأسيسي، وهو أول هيئة برلمانية للجزائر المستقلة، عددا كبيرا من رجال جمعية  العلماء المسلمين الجزائريين. 

كان الشيخ أحمد توفيق المدني، الأمين العام الأسبق لجمعية العلماء عضوا بارزا في أول حكومة جزائرية تشكلت في سنة 1962 بعد استرجاع الاستقلال الوطني.

مواصلة المسيرة:

وإن جمعيتنا، أيها الحضور الكريم!  لا زالت وحتى الساعة تواصل جهادها من أجل الإسلام والعربية وحماية الوحدة الوطنية والدفاع عن سيادة الدولة الجزائرية بكل ما أوتيت من قوة، وإن هذا الاحتفال الذي أقمتموه احتفاء بالذكرى السبعين لتأسيس "دار الحديث"، والندوة العلمية التي خصصتموها لموقف الجمعية من الثورة، لهو مما يندرج ضمن اهتمامات الجمعية في تعريف الناشئة الجزائرية بالتاريخ الوطني الحق، وليست هذه المبادرة التي كان لكم شرف القيام بها، بمستغربة من تلمسان وأهلها، ومن دار الحديث هذه، التي ما أسسها محمد البشير الإبراهيمي –رحمه الله- إلا لتكون منارة تنشر الهدي القرآني والنبوي السليم، لا في تلمسان وحدها، بل في كامل ربوع الوطن، بل ما إخاله إلا أرادها، منارة تشع بنورها على العالم العربي والإسلامي برمته، ليَشحَذ فيه العزائم، ويحرك الهمم، إحياء لروحه، رجاء العودة به إلى العطاء الحضاري الذي به عرف عبر التاريخ!

دار الحديث مفخرة للتلمسانيين:

فقد حق للتلمسانيين أن يفخروا بهذا الصرح الديني العلمي العظيم، الذي أنجزه أسلافهم، والذي اندهش له ضيوف الجزائر من علماء العالم العربي والإسلامي، الذين زاروه بمناسبة انعقاد ملتقى الفكر الإسلامي هنا في تلمسان حول السنة النبوية الشريفة سنة 1982، بصفته أول مجمع ديني علمي ثقافي، في الأمة الإسلامية، إذ ليس من السهل تشييد مثله، في تلك الظروف الحرجة بالذات، كما قال عنه الشاعر المرحوم الشيخ محمد الأخضر السائحي في قصيده الذي حي فيه تلمسان وضيوفها، بمناسبة انعقاد ملتقى الفكر الإسلامي الآنف الذكر:

ألم تُبْنَ دارٌ للحديثِ رفيعةً * وإنشاء دارٍ للإقامةِ يصعبُ

وترتفعُ الأصواتُ فيها قويةً * وكان ارتفاعُ الصوتِ قد يُتجنبُ

وتكشفُ عن وجهِ ابن باديسَ واضحًا * ووجهِ ابنِ مرزوقٍ الذي كاد يُحجبُ

وجوب المحافظة على دار الحديث وتفعيلها:

وإذا كان يحق لسلفكم أن يفخر بهذا الإنجاز العظيم، فلكم أنتم أن تفخروا بحفاظكم عليه، وحرصكم على أن يستمر في مواصلة إشعاعه الديني والعلمي، وأعتقد أنه من واجب الجزائر أن تواصل رعايتها له، بما يكفل له نشر الهدي القرآني والسنة النبوية، والتمكين لهما في العالم العربي والإسلامي أجمع، كيما يتحقق بذلك ما كان يطمح إليه إمام نهضتنا الوطنية الشاملة، الشيخ عبد الحميد بن باديس، وأخوه في الجهاد، الذي كان له شرف تأسيس هذه الدار، الإمام الشيخ محمد البشير الإبراهيمي –رحمهما الله - وجزاهما خيرا عن الجزائر والإسلام والعربية.

وختاما؛ نحمد الله على أن وفق مساعينا، إلى استئناف جمعية العلماء المسلمين الجزائريين نشاطها، على مستوى المكتب الوطني، وعلى صعيد الشُّعَب المنتشرة في كل ولايات الوطن أولا، وعودة البصائر لسانِ حال الجمعية إلى الصدور بصفة منتظمة، ثانيا، واستعادة نادي الترقي الذي ولدت في رحابه جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في 05 ماي 1931 ثالثا، ليواصل نشاطه الديني والثقافي من جديد، فعلى الجميع أن يقوموا بواجبهم نحو خدمة الإسلام والعربية والجزائر، جاعلين نُصب أعينهم شعار عبد الله بن معاوية، حفيد جعفر ابن أبي طالب -رضي الله عنه- إذ يقول

لسنا وإن أحسابنا كَرُمَتْ * يوما، على الأحسابِ نَتَّكِلُ

نبني كما كانت أوائِلُنَا * تبني، ونفعلُ مثلما فَعَلُوا

وعلى الله قصد السبيل، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.