الإمـامان ابـن باديـس ومحمـد عبـده موازنة

بقلم: د.محمد بن سمينة -

غني عن البيان أن لكل من الناس ، ميراثه الأسري وذاتيته وشخصيته الخاصة في جانبيها الفطري والمكتسب . و لهذا يحسن بالباحث للتعرف - حق المعرفة- على الآراء و الأعمال والمواقف، وما فيها من أصالة أو اقتباس أن يعقد موازنة بين النظائر والأشباه ،ولأجل هذا كانت الرغبة في الموازنة بين ابن باديس و بعض أعلام عصره من المفكرين والمصلحين .

و يمكن القول أن أعلام الإصلاح المسلمين يلتقون على امتداد العصور في المنطلقات و في الأهداف ، في دروب الجهاد و في المقاصد المنشودة ، مع ما يمكن أن يكون بينهم من وجوه الافتراق في غير ذلك من أساليب العمل و ملامح التلوين الشخصي و مظاهر الأسلوب. وتنسحب هذه الحقيقة على ما كان من ذلك ما بين هؤلاء المصلحين في هذا العصر الحديث من أمثال (محمد بن عبد الوهاب :1703 /1799) و (جمال الدين الأفغاني :1839 /1897 ) و (محمد عبده :1849/1905) و (محمد رشيد رضا :1866 /1935 ) و (عبد الرحمان الكواكبي :1854/1902 ) و (شكيب أرسلان 1869/1946) و (عبد الحميد ابن باديس 1889/1940) و(محمد البشير الإبراهيمي 1889/1965) و(الطيب العقبي1890/1960) و(إبراهيم اطفيش:1888/1965) و (إبراهيم بيوض1899/1981) و(العربي التبسي 1895/1957) و(أبي اليقظان :1888/1973)و(مبارك الميلي1898/1945 ) ، وغير هؤلاء في أكثر من بلد من بلاد العلم العربي الإسلامي ممن سار على هذا النهج ، واختار هذا الطريق ، فقد كان جميع هؤلاء ينهلون أفكارهم من معين واحد، ويخوضون غمار الجهاد في ميادين متشابهة ، و ينشدون غايات متماثلة .

ويود هذا البحث أن يعقد موازنة ما بين اثنين من هؤلاء الأعلام وبخاصة بين من يتوقع أن تكون الصلة بينهما أكثر تلاحما وأشد وثوقا. وقد وقع الاختيار بناءا على ذلك أن تكون هذه الموازنة قائمة على نقاط التقاطع ما بين هذين الإمامين : ابن باديس ومحمد عبده.

ونبادر بالقول أن منهج هذه الموازنة لا يستهدف التوسع في بيان وجوه المماثلة والمفارقة بين هذين الإمامين ، وإنما يقتصر على توضيح أهم ذلك في محاور ثلاثة هي :

أولا : في مجال النشأة و التكوين .

ثانيا : في حقل الإسهامات في الحياة العامة .

ثالثا: في ميدان الكتابة .

ونأتي إلى الحديث عن مقومات المحور الأول في هذه الموازنة ، مبتدئين ذلك بما عند محمد عبده من ذلك ، ثم نحاول أن نوازن بين ذلك وبين ما كان لدى ابن باديس من ذلك :

1- في مجال النشأة والتكوين :

الإمام محمد عبده (1266 ـ 1323 / 1849 ـ 1905)

تتلمذ محمد عبده في صباه على الشيخ (درويش خضر) الذي كان من أتباع السنوسيين الذين كانوا يجمعون بين التصوف السني، وبين الدعوة إلى الإصلاح على نهج الوهابيين فكان لهذا الشيخ الصوفي أثره على شخصية محمد عبده (1) ثم اختلف إلى الأزهر فتخرج منه بشهادة العالمية سنة 1877 ، غير أن ما حصل عليه من علم صحيح ، إنما حصل عليه من بعد (2)

و في هذه الأثناء اتصل بالسيد جمال الدين الأفغاني الذي كان قد حل بمصر (1871) فكان لهذا الداعية الإسلامي الكبير ما كان له من أثر عظيم على مسيرة محمد عبده الإصلاحيو توجهاته المستقبلية ، ثم قام الإمام عبده بالتدريس في الأزهر وبه لقي من بعض الجامدين لأفكاره التجددية الجريئة ما لقي ، كما درس بدار العلوم و بمدرسة الألسن ، ثم عين محررا لجريدة الوقائع المصرية (1880) (3)

و لما قامت الثورة العرابية(1881) لم يكن من المتحمسين لها في البداية و لكن التطورات التي لابستها على إثر التدخل الأجنبي جعلته يقف إلى جانبها (4) و قد قدر لهذه الثورة أن تفشل فسجن محمد عبده ثم نفي إلى بيروت سنة (1882) و قد تلقى في هذه الأثناء دعوة من أستاذه الأفغاني الذي كان قد نفي من مصر (1878) للالتحاق به حيث يقيم بفرنسا فاستجاب لذلك وبباريس أصدر هذان المصلحان جريدة (العروة الوثقى) التي كانت تنقل أفكارهما إلى بلاد العالم الإسلامي، إلا أنها لم تلبث أن توقفت بعد صدور (18 عددا) منها ، فرجع محمد عبده إلى بيروت و مكث بها يدرس و يؤلف حتى عفي عنه فعاد إلى مصر سنة (1888) فعين قاضيا ثم مفتيا، و ظل يشتغل بهذا المنصب إلى أن توفي رحمه الله سنة (1905) .

و كان محمد عبده قد قضى حياته مجاهدا حاملا لواء الإصلاح الديني والاجتماعي ، داعيا إلى النهضة و التقدم ، وذلك عن طريق ما ينشره من أعمال، وما قام بإحيائه من تراث وما كان له من نظرات في تفسير القرآن الكريم بمنهج علمي حديث ركز فيه على التمكين أفكاره الإصلاحية و تقديم صورة صحيحة عن الدين الإسلامي والمنافحة عنه (5) و قد اشتمل تفسيره هذا على سورتي البقرة وآل عمران و جزء من سورة النساء إلى الآية 126 (6) وله تفسير جزء عم، وسورة الفاتحة وبعض الآيات المتفرقة (7).

و ماذا بعد ، عن سيرة ابن باديس من هذه الشذرات من سيرة الإمام عبده ؟ و ما هي أوجه الاتفاق و الافتراق في ذلك ما بين الإمامين ؟

يمكن القول أن ابن باديس يلتقي مع محمد عبده في بعض هذه الجوانب من سيرة الحياة ، فقد مر في بداية تعلمه بما يقرب مما مر به محمد عبده في هذه المرحلة ، فقد تتلمذ على الشيخ (حمدان لونيسي ) دفين المدينة المنورة (ت 1920) كما ربطته في هذه الفترة كمحمد عبده صلة ببعض المتصوفة و اختلف من بعد ، إلى جامع الزيتونة و هو مؤسسة تعليمية مشابهة للأزهر و تخرج منه كمحمد عبده بشهادة العالمية ثم دخل إلى الحياة العملية ، مثله من باب الإصلاح ، فاشتغل بالتدريس و الصحافة مربيا للجيل ، ومرشدا للجماهير و مفسرا للقرآن الكريم .

و إن جهود الإمامين في هذه الميادين متقاربة و غايتهما في ذلك متشابهة مع بعض الفروق في الجانب الشكلي ، ذلك أن محمد عبده اقتصر في تفسير القرآن تدريسا على بعض السور كما رأينا . أما ابن باديس فقد فسر القرآن الكريم كله تدريسا ، و نشر بعضا من ذلك في مجلته ( الشهاب) .

و مما يمكن أن يميز الإمامين أحدهما عن الأخر في هذه السيرة أن محمد عبده كان رجل بحث و نظر أكثر منه رجلا ميدانيا ، بينما ابن باديس كان بالإضافة إلى مساهماته في مجال النظر رجلا عمليا ميدانيا ، دائم المرابطة إلى جانب الأمة ، دائب الحركة و الجهاد في معركتها ، مشرفا على هيئة نظامية تهدف إلى نهضة شاملة (8) و كان ابن باديس يتحرك في كل هذه الميادين حرا طليقا غير مقيد بحبل الوظيف،كما كان - كذلك- محمد عبده .

و مهما يكن فإن المتأمل في هذه الخطوط العامة من سيرة هذين العلمين المصلحين يلمس أن وجوه التقارب بينهما أكثر من وجوه الاختلاف ، كما يتلامح ذلك في عوامل التكوين ، و فيما ينعكس من ذلك على جهودهما في دروب الجهاد وميادين العمل المتعددة .

ثانيا : في حقل الإسهامات في الحياة العامة :

1 –في ميدان الإصلاح الديني و الاجتماعي :

يمكن القول أن الوضعية التي انحدر إلى دركاتها المسلمون في معظم وجوه حياتهم انحرافا في الاعتقاد ، و جمودا في الفكر ، و عزوفا عن العمل و زهدا في الدنيا ، إنما كان ذلك « بسبب ابتداعهم في دينهم و خطئهم في أصوله و جهلهم بأدنى أبوابه و فصوله » (9)

و يعود قدر كبير من هذا التردي في حياة المسلمين إلى ما كان يبثه في أوساطهم بعض أدعياء التصوف في المشرق و في المغرب من بدع و أوهام (10)

و قد قيض الله للأمة في مطلع هذا العصر كوكبة من العلماء المصلحين هزت ضمائرهم هذه الحال فعكفوا على تشخيص عللها و محاولة إيجاد العلاج لها فانتهوا من ذلك إلى عدة وصفات يعثر الباحث من بينها على هذا النص في آثار محمد عبده الذي يكاد يلخص الداء و الدواء معا ذلك أن صاحبه يرى أن علاج تلك الحال « إنما هو تصحيح الاعتقاد و إزالة ما طرأ عليه من خطأ في فهم نصوص الدين حتى إذا سلمت العقائد من البدع تبعها سلامة الأعمال من الخلل و الاضطراب و استقامت أحوال الأفراد و استنارت بصائرهم بالعلوم الحقيقية دينية و دنيوية و تهذبت أخلاقهم بالملكات السليمة و سرى الصلاح منهم إلى الأمة » (11)

و قد أوقف المصلحون على النهوض بهذه الرسالة جهودا كبيرة تمركزت بخاصة على تصحيح العقيدة الإسلامية وتطهيرها مما علق بها من شوائب و أهواء ، و قد لقي أولئك المصلحون في سبيل ذلك ما لقوا على أيدي المحتلين و على أيدي بعض صنائعهم من الجامدين ، و قد بلغ ذلك ببعض هؤلاء إلى حد إقدامهم على اقتراف الجريمة لمحاولتهم التصفية الجسدية لبعض المصلحين .

كما تصدى هؤلاء المصلحون في الوقت ذاته إلى بعض المتعصبين الأجانب الذين حاولوا أن ينالوا إفكا و افتراء من الدين الإسلامي ، فقاموا يدحضون شبههم و يكثفون عن زيف أباطيلهم و يرسمون بلسان الحقيقة صورة صحيحة عن الدين الإسلامي ، و قد أبلى محمد عبده البلاء الحسن في هذا المجال ، و كان من ذلك ما كتبه في الرد على افتراءات (هانوتو) (12) و (رينان) (13) و ما نشره ابن باديس في هذا الباب ردا على (آشيل ) بعضا من ذلك (14)

يمكن للدارس الذي يوازن بين جهود محمد عبده في هذا المحور، و بين ما يماثلها من آثار ابن باديس يدرك ما كان من وجوه التلاقي و التشابه بين الإمامين في معظم القضايا المعالجة فكرا ومنهجا و أداء ، تمكينا للعقيدة الإسلامية الصحيحة في أوساط المجتمع ومقاومة للمبتدعين في الدين ومقارعة للمتعصبين ضده و توعية للأمة بما يوضح أمامها المسار الصحيح في الفكر و في طرق العمل .

ولا ينحصر هذا التقارب بين الإمامين في المنطلقات وفي المبادئ فحسب وإنما ينسحب ذلك أيضا على طريقة التناول و أدوات التبليغ، فكان الحوار الرصين والخطاب المتزن والبرهان العقلي عوامل مشتركة تطبع المنهج وتميز الأسلوب لدى الإمامين.

2- في الحقل المعرفي :

لقد أدرك المصلحون في العالم الإسلامي أن قدرا كبيرا من أدواء الأمة إنما مرده إلى انتشار شبح الجهل و انحسار ظل العلم في أوساطها، و إن الشفاء من ذلك إنما يكون ـ بالإضافة إلى أخذها بأصول دينها ـ بدعوتها إلى الإقبال على العلم و المعرفة و نزع ثوب الغفلة و الجهل .

و انطلق المصلحون يجاهدون على هذا الدرب آخذين بأيدي أمتهم إلى ينابيع المعرفة الحقة داعين إياها بدعوة القرآن الكريم إلى الإقبال على العلوم الدينية والعلوم الكونية في وقت واحد .

و يتجلى هذا المفهوم للعلم في آثار كثير من المصلحين ، فتجد ذلك في آثار (محمد عبده) (15) و في آثار (ابن باديس) و عند غيرهما من المصلحين (16) و من ثم كان حرص هؤلاء المصلحين على الربط بين الدين والعلم و بيان وجوه تآخيهما على منهج القرآن من جهة والتأكيد من جهة ثانية على حسن الإفادة من عطاءات المدنية الغربية الحديثة ذلك « أن الإسلام لن يقف عثرة في سبيل المدنية أبدا، لكنه سيهذبها وينقيها من أوضارها وستكون المدنية من أقوى أنصاره متى عرفته وعرفها أهله » (17) ولهذا كانت الدعوة إلى طلب العلم تشمل العلم الديني والدنيوي معا، وتحث على تحصيله من كل مكان ، وتلقيه بأي لسان (18) مصداقا لقوله (صلى الله عليه وسلم) « اطلبوا العلم و لو بالصين » (19) رواه البيهقي. ولو كان العلم المقصود طلبه في الحديث دينيا فقط ، ما كانت الدعوة تكون إلى ذلك في بلاد الصين و هي وثنية .

و قد بسط المصلحون في هذا الإطار الحديث في واجب العلماء بتعريف المسلمين حقيقة دينهم و توعيتهم بشؤون دنياهم و الأخذ بأيديهم على طريق التحرر و الرقي (20) كما حاولوا أن يصوروا من نحو آخر ما انحدر إليه بعض المحسوبين على العلم من دركات الجمود و التقليد إلى الحد الذي جعلهم يعارضون إدخال بعض العلوم الحديثة كالجغرافيا إلى الأزهر ، و وقوفهم في وجه الداعي إلى ذلك (محمد عبده) (21) وقد رأى المصلحون أمام هذا الحال الذي جمدت عليه فهوم بعض المنتسبين إلى العلم أن دورهم في خدمة المعرفة ينبغي ألا يقتصر على الجهود الداعية إلى الإقبال على العلم الصحيح وحسب ، و إنما يجب أن تذهب هذه الجهود إلى أبعد من ذلك فتعالج المشكلة من جذورها و ذلك بالقيام بعملية إصلاح أسس المنظومة التعليمية و كان لمحمد عبده و ابن باديس مساهمات ملموسة في هذا المضمار فقد حرر محمد عبده في هذا الشأن جملة من مشاريع الإصلاح في ميدان التربية لا تخص مصر وحدها ، و إنما شملت غيرها من بلاد الإسلام : تركيا (22) و الشام (23) و قد خص محمد عبده الأزهر بعناية مميزة في هذا الميدان فدعا إلى إجراء عملية لإصلاح شاملة لما يحكم سير العمل به من قواعد ، و لما يضبط برامجه التربوية من مناهج ، تحريرا لهذه و تلك بما يكبلهما من جمود و تقليد (24) . و قد ظلت عملية إصلاح التعليم هذه هاجسه الذي لا يكل من تكرار الحديث عنه و قد حدث أن ارتحل إلى بلاد المغرب في مطلع هذا القرن ، فكان الإصلاح المنشود موضوع دروسه في جمهور علماء تونس ، مما يمكن أن يعتبر ذلك دعوة غير مباشرة للمساهمة في إصلاح برامج التعليم بجامع الزيتونة الذي يعتبر في تونس بنظمه و مناهجه نظيرا للأزهر بمصر (25)

و يمكن القول أن أبرز عنصر ركز عليه محمد عبده في عملية إصلاح التعليم أكثر من غيره هو حديثه عن افتقار برامج التعليم بالمدارس الرسمية بمصر و تركيا يومئذ إلى التربية الخلقية والعلوم الدينية ، وقد اعتبر ذلك من أبرز أسباب انحطاط المسلمين (26)

و مما يلحظ في هذا المضمار أن (محمد عبده) وهو ينص على هذه الظاهرة السلبية في برامج التعليم يومئذ لم يفته أن يلفت النظر أكثر من مرة إلى ظاهرة أخرى مشابهة لها ، أو أكثر منها خطورة تلكم هي ظاهرة انتشار التعليم الأجنبي في البلاد الإسلامية و ما ينجم عن ذلك من مخاطر على ناشئة الأمة : عقيدة و خلقا و انتماء (27)

و مما ينبغي الإلماع إليه في هذا الإطار أن جهود محمد عبده التربوية كانت تستهدف النهوض بالبنين و البنات في آن واحد ، فقد حث في هذا الصدد على وجوب العناية بتعلم البنات موضحا أن الخطاب الديني يسوي بين المرأة و الرجل في هذا المجال ، بما يستوجب النهوض بهما معا في ميدان العلم (28) مؤكدا في الوقت ذاته أن « ترك البنات يفترسهن الجهل وتستهويهن الغواية من الجرم العظيم » (29)

و نخلص من هذا إلى القول أن التربية تعد الركيزة الأساسية التي بنى عليها محمد عبده مشروعه الإصلاحي، ولذلك تنوعت إسهاماته في ميدانها، فكانت عملية بنهوضه بالتدريس في أكثر من مؤسسة ،وكانت نظرية بتحبيره العرائض في إصلاح التعليم ، و دعوته إلى العناية بأصول التربية العامة القائمة على مبادئ الدين و الفضائل (30) ، كما كانت له إلى جانب ذلك بعض العناية بشؤون التربية الخاصة فيما يتصل بمحتوى البرامج الدراسية و الطرق المتبعة في أدائها و ذلك بالتأكيد على انتهاج أسلوب التدرج في ذلك ، و مراعاة تنوع استعدادات المتعلمين و اختلاف قدراتهم في الاستيعاب و ما إلى ذلك(31) و لعل هذه العناية الملحوظة بشؤون التربية عند محمد عبده و غيره من المصلحين تبرز أهميتها فيما كان ينشده هؤلاء من تجديد في أسس البنية النفسية و الفكرية و السلوكية للأمة .

و يمكن القول أن الإمام ابن باديس يلتقي مع محمد عبده في معظم ما دار فيه الحديث في هذه القضايا :

1 . دعوته الأمة إلى الإقبال على المعرفة ذكورا و إناثا

2 . الإسهام ببعض الأفكار في عملية إصلاح التعليم

3 . التأكيد على أهمية العلوم الدينية في البرامج التربوية

4 . الحديث عن مخاطر التعليم الأجنبي

5 . بعض النظرات في التربية الخاصة

و إن كان هناك شيء من الافتراق ما بين هذين الإمامين في هذا الميدان ، فذاك ما يمكن الإشارة إليه فيما تميز به ابن باديس عن محمد عبده في هذا الباب بعكوفه طوال حياته على مشروعه التربوي الإصلاحي داعية مرشدا للعامة ومعلما مربيا للخاصة ، مما أتاح له أن يخرج جيلا من التلامذة حملوا رايته و ساروا على نهجه ،وتجلى بعض ذلك في مئات المدارس التي نبتت من بذور غرسه في حقول كثيرة من تربة الوطن ،وقد أتت أكلها في المحافظة على شخصية الأمة وتحصين الإنسان الجزائري من مخاطر التغريب و إعداده إعدادا نفسيا وفكريا، بما أهله إلى إعلان الجهاد ومحاربة المعتدين وتحقيق النصر .

3 ـ في المجال السياسي :

يمكن القول أن معظم جهود الإمام محمد عبده تكاد تقتصر على الإصلاح الديني والتربوي لا تتجاوزهما إلى غيرهما ، لكن هذا لا ينفي أن يكون الإمام قد اشتغل في بعض الفترات من حياته بشيء من السياسة فقد رأينا أنه مارس شيئا من ذلك بوقوفه إلى جانب الثورة العرابية ومشاركته أستاذه الأفغاني ببعض جهوده في هذا الميدان ، إلا أنه خلص من بعد ، في أعقاب انفصاله عن الأفغاني ورجوعه من منفاه إلى بلده مصر، إلى العدول عن هذه المزاوجة والاقتصار في نشاطه أو يكاد على الإصلاح الديني والاجتماعي فحسب ، و اعتزاله العمل السياسي نهائيا لاعتقاده أن السياسة « ما دخلت عملا إلا أفسدته » (32)

و كان أثناء زيارته للجزائر سنة 1903 قد نصح أهلها بتركهم الاشتغال بالسياسة و حثهم على مسالمتهم الحكومة (33) و قد يكون بادر بذلك ليفند تلك الوشاية التي سبقته إلى الجزائر و يزعم أصحابها أنه قادم إليها ليحرض أهلها على فرنسا (34) و مهما يكن من ذلك فإنه كان سيء الظن بالسياسة إلى حد بعيد كما تدل على ذلك مقولته هذه « أعوذ بالله من السياسة و من لفظ السياسة و من كل حرف يلفظ من كلمة السياسة ، و من كل خيال يخطر ببالي من السياسة و من كل أرض تذكر فيها السياسة و من كل شخص يتكلم أو يتعلم أو يجن أو يعقل في السياسة ، و من ساس و يسوس و سائس و مسوس » (35)

و كان في آخر حياته قد هادن الإنجليز أملا في أن يساعده ذلك في التمكين لمشروعه الإصلاحي (36)

كما وقف من الخلافة العثمانية موقف المساند المؤيد،و يرى بهذا الصدد أن المحافظة على الدولة العثمانية ثالثة العقائد بعد الإيمان بالله و رسوله ويؤكد ذلك بقوله « و إنا و الحمد لله على هذه العقيدة عليها نحيا و عليها نموت » (37) وهو لا ينفرد بهذا الموقف المساند للخلافة من بين المصلحين، وإنما يشاركه في ذلك كثير من هؤلاء لعل من أبرزهم محمد رشيد رضا، محب الدين الخطيب و ذلك خوفا منهم عليها من أعدائها (38)

و ماذا عن موقف ابن باديس من قضايا هذا المحور ؟

يمكن القول أن ابن باديس قد تميز عن محمد عبده في النشاط السياسي، ولا يكاد يلتقي معه في هذا الميدان إلا لماما ، و تبدو تلك الفروق في هذه الجوانب :

1 . نفور محمد عبده من العمل السياسي واقتصاره أو يكاد في مشروعه الإصلاحي على الجانب الديني والتهذيبي، بينما كان ابن باديس قد زاوج في مشروعه بين هذه النشاطات في وقت واحد وإذا كان الدارس يصادف أن ابن باديس قد أعلن أكثر من مرة في بداية عهده أنه لا يرغب في العمل السياسي و أن السياسة ليست من وسائل حركته فإن الذي يتأمل فيما كان يقوم به في هذه الفترة من أعمال و مواقف ، يتبين أن ذلك إنما هو جزء أصيل من العمل السياسي (39) ، كما يبدو ذلك في وقت مبكر في تعليقاته على خطب الحكام تذكيرا بالحقوق و منافحة عن الهوية ، و لكنه كان يمارس ذلك بمنهج مرن معتدل ، ليس فيه شيء من الصخب، و ليس فيه شيء من الضجيج، وكان ذلك منه خطة حكيمة ذكية أملاها عليه وعيه بملابسات المرحلة التاريخية الصعبة التي كان يعيش الشعب الجزائري يومئذ تحت وطأة إجراءاتها القاسية مما كان يقتضي من كل عاقل أن يكون في مثل هذه الظروف، حكيما يتحرك بحساب في كل خطوة يخطوها في هذا الطريق، محافظة على حركته وتمكينا لمقاصدها في حياة الأمة ، و تفويتا على المتربصين بها فرص الانتقام منها .

2 . رأينا فيما تقدم أن محمد عبده كان مؤيدا للخلافة العثمانية، وقد مر معنا أن ابن باديس كان يقف من هذه القضية موقفا مخالفا بلغ به إلى حد الوقوف إلى جانب الاتحاديين الذين أطاحوا بهذه الخلافة (40)

3 . سبقت الإشارة إلى أن الإمام محمد عبده مال في آخر حياته إلى شيء من مهادنة الإنجليز بينما لم يسجل التاريخ أن ابن باديس قد فكر في يوم من الأيام أن يسير في هذا الطريق مهادنة للمستدمرين الفرنسيين، و إن كان قد أظهر في بداية حياته ـ حفاظا على مشروعه ـ قدرا ملحوظا من المرونة والاعتدال في التعامل مع بعض السلطات الحكومية ، فإنه لم يلبث أن انتهى في ذلك إلى المجاهرة بآرائه السياسية و رفعه راية التحدي و المواجهة الجريئة للمحتلين كما يبدو ذلك في مواقفه منذ انعقاد المؤتمر الإسلامي، وقد حدث أن صرح عام 1937 في محاضرة ألقاها بتونس عن ضرورة الجمع بين العلم والسياسة . مؤكدا أن هذا الجمع إذا كان متعذرا من قبل مراعاة للظروف العامة فقد أصبح ذلك في هذه الفترة مطلوبا وممكنا، ومما يمكن أن يخلص إليه البحث في هذه المقاربة أن محمد عبده كان قد بدأ حياته بالإصلاح وانتهى بالإصلاح ، بينما كان ابن باديس قد بدأ حياته بالإصلاح وانتهى بالإعداد إلى الثورة .

و لا يفوتنا أن نذكر في هذا المضمار أن محمد عبده قد سار في اتجاه المهادنة إلى درجة أنه أصدر فتوى بجواز الاستعانة بالمحتلين بما يفيد المسلمين (41) في حين أن ابن باديس كان قد أفتى ببراءة الأمة من المتجنسين من أبنائها الذين يولون المحتلين ويكثرون سوادهم (42) و أحسب أن المسافة بين الإمامين في هذا الميدان شاسعة.

ثالثا: في ميدان الكتابة :

كان لأفكار محمد عبده تأثيرها الواضح على حركة النهضة الحديثة في العالم العربي الإسلامي في أكثر من ميدان ، و قد ألمعنا فيما سبق إلى شيء من ذلك في المجال الديني و الاجتماعي والمعرفي.و نود في هذه الفقرة أن نعرف شيئا من ذلك في ميدان اللغة و الأدب ، و نبادر بالقول أن الدارس لجهود محمد عبده في هذا الحقل تصادفه إسهاماته في جوانب عديدة منها :

1 . أن محمد عبده كان قد عكف على إحياء جملة من مصادر اللغة العربية وآدابها و كان قد أسس لهذا الغرض (جمعية إحياء العلوم العربية) (43) فنشر عددا من كتب التراث يأتي في مقدمتها 🙁 نهج البلاغة للإمام علي بن أبي طالب ) ، و شرح (مقامات الهمذاني) ، و نشر (كتابي دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة) للإمام عبد القاهر الجرجاني و ( المخصص لابن سيدة) .

2 . كان محمد عبده قد قام بجهد نظري في حثه الطلاب و الكتاب على العناية باللغة العربية قواعد و آدابا كما حاول إلى جانب هذه الجهود المختلفة أن يقدم من خلال كتاباته النموذج التطبيقي الذي يمكن أن يكون مثالا يحتذي به الأدباء في أعمالهم موضوعا و أسلوبا.

3 ـ كان محمد عبده قد ظهر في بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر وكان النثر العربي يومئذ قد بدأ لتوه يتلمس طريقه نحو التخلص من مظاهر الضعف الموروثة ، فانعكس ذلك على بعض كتاباته وكان لهذه الجهود الطيبة أن أتت أكلها في تطويع اللغة العربية للتعبير عن حاجات العصر والإسهام في عملية تطوير النثر العربي .

وإن المتأمل في نتاجه يمكنه أن يلحظ أنه مر بمرحلتين اثنتين (44) :

1. تعود المرحلة الأولى إلى أيام التحصيل بالأزهر، وقد اتسم نتاجه فيها ببعض خصائص النثر في عصر الضعف : مقدمات طويلة، بعض الألفاظ العامية والأعجمية، كثرة السجع .

و يصادف الباحث في آثار الإمام جملة من النصوص التي تمثل صنعته في هذه الفترة من ذلك ما كتبه في تقريظ ( الأهرام ) وهو طالب بالأزهر « إنه لما نظر كل قاص و دان، واشتهر بين بني نوع الإنسان أن مملكة مصر كانت في سالف الزمان، مملكة من أشهر الممالك، وكعبة يؤمها كل سالك وناسك ، إذ كانت قد اختصت برتبة العلوم، وبث المعارف المتعلقة بالخصوص و العموم ، و انفردت بالبراعة في الصنائع، و الابتكار في أنواع البدائع .... » (45)

و من ذلك أيضا نصه ( الكتابة و القلم ) (46) و قد تحدث كثير من الدارسين عن أسلوبه في هذه المرحلة (47)

2. و يمكن أن تعود المرحلة الثانية إلى ما بعد تعيينه على رأس تحرير جريدة الوقائع المصرية، وقد أخذ مع بداية هذه الفترة يحاول أن يتحرر في أسلوبه من بعض مظاهر الضعف، فظهر ذلك في مجموعة من المقالات الصحفية مال فيها إلى الترسل وترك السجع، وقد ازداد هذا الاتجاه التحرري في أسلوبه وضوحا في أعقاب اشتغاله بالعروة الوثقى في باريس ثم في عكوفه ببيروت على نشر بعض مصادر اللغة العربية وآدابها فانعكس ذلك على صورة أسلوبه فأصبح حرا مرسلا ينسج فيه على منوال ابن خلدون في المقدمة، ويحذو فيه حذو الجرجاني في كتابيه (دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة ) وقد اتسمت صنعته في هذه المرحلة بجملة من الخصائص أهمها : الترتيب والتقسيم، الترسل والتحرر من السجع ، السهولة في الألفاظ، الجزالة في التراكيب، الأقيسة المنطقية، الخواتم الدينية ، الجمل المعترضة، الإفادة من التراث الديني و الأدبي .

ويمكن أن تكون مقالاته في العروة الوثقى نموذجا لأسلوبه في هذه المرحلة و قد عاد للعربية بذلك على يديه في ميدان النثر حريتها و قوتها و طلاقتها ، كما رجع لها ذلك في حقل الشعر على يدي (البارودي) (48)

و يمكن أن يعتبر (محمد عبده) بإسهاماته في تطوير أسلوب الكتابة من بين أبرز رواد النثر العربي الحديث الذين طوعوا أسلوب الكتابة للتعبير عن مختلف وجوه الحياة الجديدة مما ساعد على تقديم النموذج الأدبي الجديد للكتاب و الشعراء لينسجوا على منواله أعمالهم و قد سار على ذلك كثير من تلامذته من بينهم : ( محمد رشيد رضا ، المنفلوطي، سعد زغلول ، حافظ إبراهيم ، عبد المحسن الكاظمي ، قاسم أمين و غيرهم ...) فأبدع هؤلاء أدبا ، صور بصدق بعض قضايا الأمة ، و نهض بقوة بأمانة التبليغ و التوجيه (49)

و ماذا بعد عن إسهامات ابن باديس وجهوده في ميدان خدمة اللغة العربية : إحياءا و تطويعا و تطويرا ؟ و أين يلتقي الإمامان في هذا الميدان ؟ وأين يختلفان ؟

يمكن القول أن ابن باديس يلتقي مع محمد عبده في معظم ما تميزت به جهوده في حقل النهضة الفكرية و الأدبية خدمة للعربية وإحياء لتراثها : تدريسا و توجيها و كتابة ، فكان له ما كان لمحمد عبده من أثر في تطويع العربية وتطوير عملية الكتابة بما كان ينشر و بما كان يوجه ، فتخرج على يديه كوكبة من الأدباء نذكر بينهم : (محمد الهادي السنوسي، أحمد سحنون ، محمد العيد ، أحمد بن ذياب ، أبو بكر بن رحمون ، الربيع بوشامة ، عبد الكريم العقون ، محمد الصالح رمضان ، أحمد بوشمال ، محمد الغسيري وغيرهم ...)

وتجدر الملاحظة أن الإمامين قد عاشا فترة تاريخية متشابهة بالنظر إلى مسار حركة النهضة الحديثة في المشرق وفي المغرب، فقد جاء محمد عبده إلى ميدان العمل بعد مجيء الرعيل الأول من الرواد الذين أرهصوا بالنهضة العامة في المشرق ومهدوا لها من أمثال : (الطهطاوي ، الشدياق ، اليازجي ، علي مبارك وغيرهم...)، وقد ظهر ابن باديس في فترة مماثلة على مستوى حركة النهضة الحديثة في الجزائر فقد جاء بعد هؤلاء الشيوخ ( المجاوي ، ابن سماية، ابن شنب، ابن الخوجة ، ابن الموهوب، وغيرهم ...)

هؤلاء الذين كان تأثيرهم على اليقظة العامة في الجزائر يشبه تأثير من سبق ذكرهم من أعلام الشرق على النهضة القومية . فنتج عن ذلك أن كانت إسهامات ابن باديس في تطوير حركة النهضة الفكرية والأدبية في الجزائر قريبة من إسهامات محمد عبده في النهضة المشرقية .

و إن هذا التلاقي بين هذين الإمامين في هذا الحقل لا يمنع من تسجيل بعض الفروق بينهما من ذلك :

1- أن جهود الإمام محمد عبده في ميدان إحياء التراث و نشره كانت أوسع من جهود ابن باديس ، ذلك أنها شملت العلوم الدينية و الأدبية معا ، بينما تكاد تقتصر إسهامات ابن باديس في هذا الميدان على نشر بعض الآثار الدينية ، وكانت مشاركته في خدمة التراث الأدبي تدريسا فحسب .

وإن تعليل هذا الفرق بين الإمامين في هذا الميدان واضح و بسيط ، ويمكن رده ـ بالإضافة إلى تباين معطيات البيئة السياسية والاجتماعية والثقافية بالمغرب و بالمشرق ـ إلى مختلف أعباء المسؤولية الملقاة على كاهل ابن باديس مع قلة الإمكانات وكثرة العوائق في قيادة حركة النهضة العامة في الجزائر: تدريسا للعامة والخاصة ، وإشرافا على مجلة الشهاب إعدادا وتحريرا، ورئاسة لجمعية العلماء قيادة وتوجيها ، وتصديا لمخططات المحتلين عمليا ونظريا ، أحسب أن هذه المهام و غيرها لم تترك الفراغ لابن باديس ليشارك مشاركة واسعة في حركة التأليف و التصنيف ، وكان رحمه الله يحس بذلك، وقد سبق أن رأينا أنه علل لذلك بتفرغه إلى ما تفرغ له من نشاط في اكثر من ميدان ، ومع ذلك فقد كان أكثر إخوانه المصلحين مساهمة في ميدان الكتابة والشعر ،كما كان أكثرهم نهوضا بتبعات المسؤولية .

2 ـ لم يعرف أسلوب ابن باديس ما عرفه أسلوب محمد عبده في مرحلته الأولى من سجع و صنعة ، وإن ما وصلنا من أعماله كان معظمه مطبوعا بطوابع الترسل و التحرر من معظم الزخارف و القيود .

و نخلص من هذه الوقفة التي حاولنا أن نوازن فيها ما بين محمد عبده وابن باديس ، إلى القول بأن ظاهرة التأثير والتأثر بين الإمامين في التصور وفي المنهج ، في المنطلقات وفي الأفكار، في الدوافع وفي الغايات كانت واضحة جلية لا يمكن أن تخفى معالمها على باحث محقق، وقد نص على ذلك كثير من الباحثين (50)

و نود أن نشير بادئ ذي بدء إلى أن الإمامين لم يلتقيا بالرغم من أن محمد عبده قد زار الجزائر (سنة 1903) ، و قد كان ابن باديس يومئذ في الطور الأول من التحصيل لم يتجاوز الرابعة

عشر من عمره ‎ مما لم يسمح له بأن يكون من بين العلماء الذين حضروا مجالس محمد عبده أثناء هذه الزيارة .

و يذكر ابن باديس أنه لم يقرأ لمحمد عبده إلا القليل يوم بدأ حركته (51) غير أن هذا القول يجب تفسيره في السياق الذي قيل فيه ، ذلك أن ابن باديس قد قال ذلك في موقف الدفاع عن النفس ، مما يتهمه به المحتلون من أن له اتصالات خارجية بغرض الكيد له ، و الوقيعة به و بحركته .

كما يمكن القول من جهة أخرى أن ابن باديس إذا لم يقرأ إلا القليل من آثار محمد عبده في بداية حركته فإن هذا لا يمنع من أن يكون قد قرأ الكثير له من بعد ذلك على امتداد حياته من خلال ما نشر من مقالاته في العروة الوثقى التي يؤكد بعض المعاصرين أن ابن باديس كان يدرس بعض فصولها لطلبته (52) و من خلال ما نشر من تفسيره و أفكاره في المنار، و يؤكد محمد عبده نفسه أن صاحب المنار قد أنشأ له بواسطتها « حزبا أوجد له تلاميذ و أصحابا » (53) و قد كان الجزائريون من قراء هذه المجلة مما يجعل هذه المقولة تشملهم ، و يؤكد ذلك أن بعضهم كان قد أوصى محمد عبده أثناء زيارته للجزائر بأن يبلغ صاحبها رغبتهم في عدم التعرض لفرنسا بشيء حتى لا تتخذ بذلك ذريعة تحملها على حرمانهم من تلك المجلة التي كانوا يعدونها بمثابة « مدد الحياة لهم » (54)

و كان ابن باديس كثير الرجوع إلى المنار، كثير النقول منها ، كما كانت الصلة الروحية والفكرية بين صاحبها وبين ابن باديس حميمية وقوية. ويصادف المرء إعجاب ابن باديس بشخصية محمد عبده وتقديره له في أكثر من موطن، و يبدو بعض ذلك فيما نشره في الشهاب على هامش إحيائه وفاته الثلاثين من نصيحته للجزائريين مرفوقة بصورته كما سجل ابن باديس بخط يده ما يخلد هذا الإعجاب وهذا التقدير في كلمة بعنوان (قولة عظيم في عظيم) يقول فيها : قال الشيخ محمد بخيت كبير الأزهريين اليوم في الشيخ محمد عبده في حفلة أقيمت لذكراه بمصر(....) (55) : « ترك فراغا عظيما كان يشغله وحده لم يستطع أحد أن يشغله بعده » نقلا عن جريدة المقطم الصادرة في 18 ذي الحجة عام 1346 ويختم ابن باديس هذه الكلمة بقوله :« فحيا الله تلك الأرواح الطاهرة والنفوس الكبيرة كتبه عبد الحميد بن باديس» (56)

ويصادف الدارس كثيرا من الجزائريين الذين يؤكدون هذه الصلة وهذا التلاقي الروحي والفكري بين الإمامين (57) ويحسن التذكير في هذا المضمار أن هذا التأثير العبدوي لا يخص ابن باديس وحده من بين غيره من الجزائريين، وإنما يكاد يشمل معظمهم، سواء منهم أولئك الذين أرهصوا باليقظة العامة ومهدوا إلى النهضة الحديثة من أمثال : (المجاوي ، ابن سماية ، عمر راسم ، ابن الخوجة و غيرهم ...)

أم أولئك الذين جاؤوا من بعدهم من جيل ابن باديس الذين جاهدوا وضحوا ليجعلوا من الدعوة الإصلاحية حركة منظمة شاملة تؤصل لأسباب النهوض في مختلف مناحي الحياة ، و تعمل لتوفير الوسائل لتحرير البلاد .

رابعا : الخلاصة :

و نذكر أن هذا التقارب الملحوظ ما بين هذين الإمامين : روحا و فكرا ، منهجا و جهادا ، مهما تكن درجته، فإنه لا يمنع ـ لأسباب عديدة ـ من تسجيل وجوه الافتراق بينهما في أكثر من ميدان من ذلك :

1 - أن محمد عبده قد اقتصر أو يكاد في منهجه الإصلاحي على الجانبين الديني والتثقيفي و التهذيبي ولم يشتغل بالسياسة إلا لماما، وكان يرى أن العمل التربوي يمكن أن يكون بديلا  عن العمل السياسي (58) بينما كان ابن باديس قد جمع في مشروعه الإصلاحي ما بين الدين و الاجتماع و السياسة فكان يتحرك في هذه الميادين كلها في وقت واحد ، يمكن للعقيدة الصحيحة و ينشر الفضيلة و يحث على العلم و ينافح عن الحقوق و يذود عن المقومات ، و هو بهذه الأعمال كان يتحدى المحتلين ويناهض مخططاتهم التغريبية الرامية إلى النيل من كيان الشعب الجزائري و من مقومات شخصيته . و لا شك أن بناء مسجد و تدشين مدرسة و إصدار صحيفة و تأسيس جمعية و فتح ناد ، لا شك أن ما تقوم به هذه المؤسسات من بناء الإنسان و توعيته بمحيطه ، و إعداده إعدادا يدفعه إلى تحقيق ذاته على أرضه ، إنما يدخل في صميم العمل الوطني . و يمكن القول من ثم أن ابن باديس كان يزاوج في منهجه ما بين السياسة و غيرها منذ دخوله معترك الحياة العامة (59)

2 - كان محمد عبده يميل في منهجه الإصلاحي إلى الجانب النظري أكثر من غيره ، في الوقت الذي كان ابن باديس يجمع إلى حد ما في منهجه الإصلاحي ما بين الناحيتين النظرية و العملية و لعله كان يولي الناحية الأخيرة عناية أكثر بحرصه الدائم على الاتصال بجمهور الأمة بصفته واعظا مرشدا و معلما مربيا و صحافيا حرا ، مما ساعده على التعرف على مشكلات الأمة عن كثب ، فساهم في إصلاح شؤونها و معالجة أمراضها و الذود عن خياراتها (60)

3 - كان محمد عبده قد تقلب طوال حياته في عدة وظائف حكومية ، بينما كان ابن باديس قد أخذ عهدا على نفسه منذ بداية حياته على ألا يمارس أي وظيف حكومي ما دام ذلك في أيدي المحتلين لقناعته أن ذلك لا يخدم الأمة ، و إنما سيكون من أشد العوائق لمن أراد أن ينهض بذلك ، و يستدل على رأيه بما أصاب حركة الإصلاح في مصر و تونس و غيرها من بلاد الإسلام ، لأن معظم القائمين عليها كانوا موظفين عند السلطات الحاكمة ، وهو في هذا الخيار يشبه الإمام محمد رشيد رضا الذي رفض الاشتغال بالوظيف .

و إن ابن باديس لا يؤاخذ محمد عبده على التحاقه بالوظيف ، و إنما بحث له عن مبرر لذلك، فذهب إلى أنه قبل الوظيف ، لما كان يعلق عليه من أمل في إصلاح الأزهر والمحاكم الشرعية (61)

4 - و قد قام ابن باديس - وهو حر من كل أغلال الوظيف - بمعظم ما قام به محمد عبده و هو موظف فأسس لنفسه حركة ، و وفر لها من الوسائل ( التعليم ، الصحافة ، النوادي ، الجمعيات) ما مكنه من أن يتحرك بمشروعه الحضاري في ميادين عديدة ، و يكون دائم الاتصال بالأمة في مختلف قواعدها يشخص الأدواء و يصف الدواء ، و يأخذ بأيديها على طريق التحرر و التقدم .

5 - و إنما يمكن أن نخلص إليه في هذه الموازنة ما بين هذين الإمامين أن وجوه التلاقي بينهما كانت أكثر من غيرها ، و إن ما كان بينهما من فروق ، إنما هو أمر طبيعي يعود إلى اختلاف العوامل الذاتية : ( الموهبة النشأة ، التكوين) و إلى بعض العوامل الموضوعية : (تباين في وجوه البيئة المحلية ما بين المغرب والمشرق وما حبلت به من تحديات هنا و هنالك ) و أما ما كان يربط بينهما من وجوه الاتفاق و هي كثيرة ، فذلك ما لا يصعب تفسيره و تعليله - فيما نحسب - على من عرف أن المرجعية الفكرية للشيخين كانت واحدة ، و أنهما كانا يستمدان آراءهما و مواقفهما و سلوكهما من مصدر واحد ، ألا و هو الدين الإسلامي : قرآنا و سنة و سيرة السلف الصالح وما استنار بذلك من علم و فكر و سلوك . و إنه لمن المستبعد- فيما نحسب - أن يختلف اثنان اختلافا جوهريا فيما يصدر عنهما من مواقف و أعمال و تكون قدراتهما الروحية و العقلية تستنير بهدي هذه المرجعية الدينية الواحدة إن التصور واحد و إن المنطلق واحد ، و من ثم كانت أساليب العمل متشابهة ، والغايات واحدة ، وكانت النتائج متقاربة .

 

الهوامش :

1 - محمد عبده : الأعمال الكاملة 3 : 138تحقيق د/ محمد عمارة المؤسسة العربية بيروت 1972

2 - ينظر د / عبد اللطيف حمزة : أدب المقالة الصحفية في مصر 2 : 76 ط3 دار الفكر العربي القاهرة 1964 .

3 - ينظر د / عمر الدسوقي : في الأدب الحديث 1 : 362 ط7 دار الكتاب العربي بيروت 1966 .

4 - ينظر م . ن : 367

5- ينظر كتاب الأصالة 2 : 73 من منشورات وزارة الشؤون الدينية الجزائر .

6 - ينظر محمد عبده : الأعمال الكاملة 5 : 276

7 - ينظر م . ن : 281

8 - ينظر د / محمد فتحي عثمان : عبد الحميد بن باديس رائد الحركة الإصلاحية في الجزائر المعاصرة ص 74 - دار القلم الكويت 1987 .

9 - ينظر محمد عبده : الأعمال الكاملة 3 : 231 ، 193

10 - م . ن : 211 ، 227

11 - م . ن : 231

12 - ينظر محمد عبده : الأعمال الكاملة : (من 201 إلى 240)

13 - ينظر المصدر نفسه : (من 316 إلى 347)

14 - ينظر آثار الإمام ابن باديس 5 : (من 42 إلى 65)

15 - ينظر الأعمال الكاملة 3 : 139 ، 231

16 - ينظر شكيب أرسلان : لماذا تأخر المسلمون و لماذا تقدم غيرهم ؟ ص 131 – (موفم) للنشر الجزائر 1990.

17 - ينظر محمد عبده : الأعمال الكاملة 3 : 334

18 - ينظر م . ن : 297

19 - ينظر إسماعيل بن محمد الجراحي : كشف الخفاء و مزيل الالباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس 1: 154 - ط4 بيروت 1985 .

20 - ينظر محمد عبده : العروة الوثقى ص 160 ط2 دار الكتاب العربي بيروت 1980

21 - ينظر محمد عبده : الأعمال الكاملة 3 : 313

22 - 23 - 24 - 25 - ينظر على التوالي محمد عبده : الأعمال الكاملة 3 : 71 - 95 - 177 - 138 .

26 - 27 - 28 - 29 - ينظر على التوالي م . ن : 73 - (55 - 112) -227 - 158

30 - 31 - ينظر محمد عبده : الأعمال الكاملة 156 ، 138

32 - ينظر محمد رشيد رضا : تاريخ الأستاذ الإمام محمد عبده 1 : 872 مطبعة المنار القاهرة 1931 .

33 - ينظر آثار الإمام ابن باديس 5 : 121

34 - 35 - ينظر على التوالي محمد عبده : الأعمال الكاملة 3 : 88 ، 316

36 - ينظر محمد صالح المراكشي : تفكير محمد رشيد رضا ص 201 الدار التونسية للنشر تونس (م و ك) الجزائر 1985 .

37 - محمد عبده : الأعمال الكاملة 3 : 72 ، 91

38 - ينظر محمد صالح المراكشي : تفكير محمد رشيد رضا ص 110

39 - ينظر د / علي علواش : حركة ابن باديس التربوية و أهدافها الإصلاحية ص 83 (رسالة دكتوراه الحلقة الثالثة ـ جامعة الجزائر ـ مخطوطة )

40 - ينظر آثار الإمام ابن باديس 5 : 20 و ما بعدها

41 - ينظر محمد عبده : الأعمال الكاملة 1 : 710

42 - ينظر آثار الإمام ابن باديس 3 : 308

43 - ينظر د / عمر الدسوقي : في الأدب الحديث 1 : 385 دار الكتاب العربي بيروت 1966 .

44 - ينظر محمد رشيد رضا: تاريخ الأستاذ الإمام محمد عبده 2: 37. (مطبعة المنار القاهرة 1931) و يجعلها بعضهم أربع مراحل : 1 ـ مرحلة الطلب بالأزهر 2 ـ مرحلة الوقائع 3 ـ مرحلة العروة الوثقى 4 ـ مرحلة ما بعد عودته من المنفى ينظر د /عبد اللطيف حمزة : أدب المقالة الصحفية في مصر 2 : 82

45- ينظر الأهرام : ع 15 س 1 : 1876 و ينظر محمد عبده : الأعمال الكاملة 3 : 7

46 - ينظر الأهرام : ع 8 س 1 : 1876 و ينظر محمد عبده : الأعمال الكاملة 3 : 9

47 - ينظر محمد رشيد رضا : تاريخ الأستاذ الإمام محمد عبده 2 : 43 و ينظر د / عمر الدسوقي في الأدب الحديث 1 : 372 و ينظر د / شوقي ضيف : الأدب العربي المعاصر في مصر ص 223 ، 227 - ط3 دار المعارف مصر د – ت .

48 - ينظر د / شوقي ضيف : الأدب العربي المعاصر في مصر ص 225

49 - ينظر د / عمر الدسوقي : في الأدب الحديث 1 : 384 و ينظر عباس محمود العقاد : محمد عبده ص 220 - ط3 دار الكتاب العربي القاهرة 1969 .

50 - د / محمد فتحي عثمان : عبد الحميد بن باديس رائد الحركة الإسلامية في الجزائر المعاصرة ص 31 ، 43 – دار القلم الكويت 1987.

51 - ينظر آثار الإمام ابن باديس 5 : 102

52 - ينظر أحمد حماني : الثقافة ع 38 ( أفريل ـ ماي 1977) ص 101 الجزائر .

53 - ينظر الأعمال الكاملة 3 : 131 - تحقيق د / محمد عمارة المؤسسة العربية بيروت 1972 .

4 5- ينظر محمد رشيد رضا : تاريخ الأستاذ الإمام محمد عبده 1 : 872

55 - كلمة غير مفهومة .

56 - عثرت على هذه العبارة بخط يد ابن باديس في كتاب أحكام القرآن لأبي العربي 2 : 1

57 - ينظر الإبراهيمي : السجل ص 41 –47 ط2 دار الكتاب الجزائر 1982. و ينظر محمد العيد : ديوانه ص 157 ط1 الجزائر 1967 .

58 - ينظر د / محمد عمارة : الأعمال الكاملة 1 : 80

59 - ينظر د / محمد علواش : حركة ابن باديس التربوية و أهدافها الإصلاحية ص 83 رسالة دكتوراه الحلقة الثالثة -جامعة الجزائر (مخطوطة)

60 - ينظر د / محمد فتحي عثمان : عبد الحميد بن باديس رائد الحركة الإسلامية في الجزائر المعاصرة ص 75

61 - ينظر آثار الإمام ابن باديس 3 : 92

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.