الإمام عبد الحميد بن باديس في سوف
بقلم: أ. إبراهيم مياسي -
تبلورت الحركة الوطنية بالجزائر فيما بين الحربين (1919 – 1939 م) في ثلاث اتجاهات أساسية ، هي الاتجاه الاستقلالي ، والاتجاه الاندماجي ، والاتجاه الإصلاحي، هذا الأخير الذي برز فيه الشيخ عبد الحميد بن باديس كرائد من رواده ، حينما ازداد نشاط العلماء داخل نادي الترقي بالعاصمة ، والذي اخذ يحاضر فيه ابن باديس كلما جاء إلى العاصمة، ضمن الحركة الإصلاحية بالجزائر.
وكان نادي الترقي النواة الأولى لتحقيق وحدة الفكر الجزائري، وفيه وضعت البذرة الصالحة للنهضة الحقيقية للشعب الجزائري، إذ تكونت لجنة تحضيرية مهدت لنشأة جمعية العلماء، وصادف ذلك احتفال الفرنسيين بالذكرى المئوية لاحتلال الجزائر سنة 1930. مع ما صاحبه من مظاهر لإذلال الجزائريين وإشعارهم أنهم فقدوا كل شيء في وطنهم، لأنه أصبح في نظر الغاصب جزء من "الوطن الأم" فرنسا، وظن أنه استطاع اجتثات جذور الشعب الجزائري، محو خصائصه الروحية والثقافية، أي العروبة والإسلام، وذلك حسب مقولة الكاردينال "لافيجري": " إن عهد الهلال في الجزائر، قد غبر، وإن عهد الصليب فد بدأ وإنه سيستمر إلى الأبد".
وقد فزع المخلصون من المسلمين، وعلى رأسهم علماء الجزائر عندما كشف الاستعمار صراحة النقاب عن وجهه وإصراره على جعل هذه المغارب العربية الإسلامية العزيزة جزء لا يتجزأ من فرنسا الأوروبية المسيحية والبنت الكبرى للبابا في روما، فاتخذ هؤلاء المخلصون لأنفسهم ولمواطنيهم شعارا مضاءا وهو "الإسلام ديننا والعربية لغتنا والجزائر وطننا".
تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين:
عقد العلماء اجتماعا في الخامس من شهر ماي سنة 1931م بالعاصمة أسسوا على أثره "جمعية العلماء المسلمين الجزائريين" وقد ضمت اثنين وسبعين عالما جزائريا جاؤوا من مختلف أنحاء الجزائر، وقد وجهت الدعوة إلى علماء سوف، منهم الشيخ الطاهر بن العبيدي، والشيخ إبراهيم العوامر، اللذان اعتذرا عن الغياب وحضر الشيخ الأمين العمودي، ومحمد العيد آل خليفة، وحمزة بوكوشة، وغيرهم.
وانبثق عن الاجتماع أيضا المجلس الإداري للجمعية من ثلاثة عشرة عضوا، على رأسهم الشيخ عبد الحميد بن باديس الذي لم يحضر إلا في اليوم الثالث والأخير للاجتماع، فكان انتخابه غيابيا، نظرا للمكانة المرموقة التي يتمتع بها عند أغلب الأعضاء من المصلحين.
وقال الشيخ البشير الإبراهيمي في هذا الصدد: "إنه (ابن باديس) هو الذي وضع القانون الأساسي على قواعد من القلم و الدين لا تثير شكا ولا تخيف، و كانت الحكومة الفرنسية في ذلك الوقت تستهين بأعمال العلم المسلم، و تعتقد أننا لا نضطلع بالأعمال العظيمة فخيبنا ظنها و الحمد لله".
ثم يصف الشيخ الإبراهيمي كيف نجح هو و زميله ابن باديس في اجتذاب العلماء و الفقهاء إلى الجمعية فيقول: "دعونا فقهاء الوطن كلهم، و كانت الدعوة التي وجناها إليهم صادرة باس الأمة كلها ليس فيها اسمي ولا اسم ابن باديس، لأن أولئك الفقهاء كانوا يخافوننا لما سبق لنا من الحملات الصادقة على جهودهم، ووصفنا إياهم بأنهم بلاء على الأمة، وعلى الدين لسكوتهم على المنكرات الدينية وأنهم مطايا الاستعمار، يذل الأمة و يستبعدها باسمهم فاستجابوا جميعا للدعوة... و انتخبوا ابن باديس رئيسا... و أصبحت الآن الجمعية حقيقة واقعة قانونية و جاء دور العمل" (1).
و يشير قانون الجمعية الأساسي إلى أنها جمعية إرشادية تهذيبية، لا يسوغ لها أن تخوض أو تتداخل في المسائل السياسية، و أن قصدها هو محاربة الآفات الاجتماعية، لهذا تسارعت الإدارة الفرنسية إلى الاعتراف بها و الموافقة على قانونها الأساسي، لكن الجمعية قد وجدت نفسها منغمسة في خضم المعترك السياسي، منذ نشأتها الأولى رغم تصريحات الشيخ ابن باديس بأن هدفهم علمي و ديني، وأنه قد كرس حياته للتعليم وكونه من دعاة التفاهم بالحكمة و الموعظة الحسنة سواء مع رجال الدين غير المصلحين أو الإدارة الفرنسية، و بذلك استطاع الشيخ أن ينشر أفكار الجمعية عبر كامل الوطن، حيث زار العديد من المناطق لزرع بذور النهضة الجزائرية، و منها منطقة وادي سوف.
زيارة ابن باديس إلى سوف:
رتب الشيخ عبد العزيز الشريف، شيخ الزاوية القادرية بسوف، زيارة لوفد من جمعية العلماء بقيادة الإمام ابن باديس إلى وادي سوف في شهر ديسمبر 1937م (2)، و ذلك بعد اقتناعه بأفكار الحركة الإصلاحية، و بعد تحوله من الطرقية إلى الإصلاحية، نظرا لكونه زيتوني قد اغترف من الينابيع الصافية للعلم و أصول الدين، فانضم إلى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين كعضو فعّالِ و بارز فيها، بحكم إمكانيته العلمية و المالية.
ففي المؤتمر السنوي العام الجمعية العلماء الذي بدأ أعماله يوم 24 سبتمبر 1937 بنادي الترقي بالعاصمة (3). قدّم الشيخ ابن باديس بعض كبار الرجال الذين لهم أكبر أثر في بعث النهضة الجزائرية من جمعية العلماء ، منهم الشيخ الفضيل الورتلاني والشيخ سعيد صالحي ...
ثم تقدم هو بنفسه وألقى خطابه الرسمي مقترحا أن يسمى هذا الاجتماع بــ " عيد النهضة الجزائرية " ، ثم طلب إلى زميله الطيب العقبي أن يقدم الشيخ عبد العزيز بن الشيخ الهاشمي ( الشريف ) إلى الحاضرين ، وكان لهذا التقديم مغزاه العميق ، إذ هو شهادة في الواقع بانتهاء المعركة مع مناهضي جمعية العلماء من إتباع الطرق الصوفية ، ذلك أن " الشيخ عبد العزيز كان من شيوخ الطرق ، أمّا اليوم فيجب أن تعرفوه بأنه جندي من جنود الإصلاح ومن أعضاء جمعية العلماء " (4) .
ثم أُحيلت الكلمة إلى الشيخ عبد العزيز الذي ابدي تأسفه لتأخيره عن الانضواء تحت لواء الجمعية ، ووعد بأنه سيبذل كل مجهوداته في خدمة الإصلاح وتبرع لهم بمبلغ خمسة وعشرين ألف فرنك – وهو مبلغ هام في ذلك الوقت – وقدم لهم الدعوة لزيارة المنطقة لتدعيم نشاطه وتكريس أفكار الحركة الإصلاحية في سوف .
فلبت الجمعية الدعوة ، وفي هذا الصدد نستشهد بما كتبه الشيخ خير الدين في مذكراته :
" ... انتشرت وفود جمعية العلماء المسلمين في كل مكان ، ومن الوفود التي شاركت فيها ، وفد الصحراء الذي تكوّن من الشيخ عبد الحميد بن باديس ... والشيخ المبارك الميلي ، زار هذا الوفد وادي سوف وكانت معقلا من معاقل الطرقية التي تناهض حركتنا الإصلاحية ، ولكن الحركة الإصلاحية ، سرت في كل مكان وأصبح لها أتباع ينتصرون بها وتنتصر بهم ، ومن جملة الشخصيات التي انضمت إلى حركتنا وأصبحت عضوا عاملا في إدارة الجمعية : الشيخ عبد العزيز بن الشيخ الهاشمي رئيس الطرقية القادرية ... " (5) .
وفعلا ، كان لهذه الزيارة الوقع العميق في نفوس أهل المنطقة حيث سجل لنا الأستاذ حمزة بوكوشة ( رحمه الله ) العضو الإداري لجمعية العلماء تفاصيل هذه الزيارة في جريدة البصائر منها : " ... وما كادت الصحافة المحلية تنشر نبأ إيفاد هذا الوفد حتى هبّ دعاة الفتنة والشقاق وحاولوا تصوير الجمعية وأتباعها لرئيس الملحقة السيد القبطان بصورة شوهاء وقاموا بأدوار في الجوسسة الدينية المدعمة بالاختلاق والافتراء التي بعجز عنها شياطين الإنس والجن ... " (6) .
هكذا بدأ أصحاب الطرقية في تحريك أعوانهم ليهاجموا الحركة الإصلاحية ، فجعل هؤلاء يصفون الرئيس الشيخ ابن باديس بأنه وهّابي ، وعبداوي ، بل انه (( عزرائلي )) ، رغبة في تنفير الناس منه ، وسعيا إلى وأد الحركة في مهدها ، ولكن استقبال الوفد كان فوق كل تصور أينما حلّ .
ففي " قمار " استُقبل الوفد من طرف الشيخ الأخضر شبرو رئيس خلية جمعية العلماء بالوادي (7) وهو زيتوني ، اشتغل " باش عدل " بمحكمة " قمار " واشتهر بإخلاصه للحركة الإصلاحية ، وبسعيه الحثيث لنشر أفكارها ، وقد انتقل إلى مناجم الجنوب التونسي " بالمتلوي " و " الرديف " و " أم العرائس " ليجمع تبرعات العمال الجزائريين هناك ، وجمع مبلغ 700 فرنك قدّمها إلى جمعية العلماء ؛ وحين نزول الوفد من السيارة تقدم إليهم أعضاء خلية جمعية العلماء بالوادي ، يتقدمهم الشيخ الأخضر شيرو والسيد عبد الكامل النعجي أمين مال شعبة الوادي والسيد قدور نائبه وغيرهم ، وقدم الشاب الطيب بن الحاج عبد القادر بن فرحات إلى الرئيس باقة من الأزهار مرفوقة بأبيات منها قوله :
يا باقـة أذني السـلام اللاـقا وإلى الرئيس صلي احتراما فائقا
من نشئ (سوف) المبرهن أنه .............................
وفي خارج بلدة " قمار " تجمع الناس في تظاهرة عظيمة للاحتفاء بالوفد مع تقديم القهوة له ، وحينما أخذ الوفد مكانه ، قام الشيخ محمد الطاهر بن بلقاسم التليلي ، وهو زيتوني أيضا ، وألقى خطاب الترحيب وقصيدة طالعها :
هبيّ يا قريـة الرمال وهبــي واجبات اللقاء إلى خير وفد
مرحبا بالذين هبـوا لحــــق أهله ضيعوه عــــن غير عمد
نفخوا في البلاد روحا فأمست أمة تعرف الحقوق وتفــــدي
وبعد هذه الحفلة توجه الوفد إلى مدينة الوادي وسار إلى مكتب الحاكم العسكري لأداء زيارة مجاملة للقبطان الحاكم الذي أثار مخاوفه من هذه الزيارة ، لكن الشيخ ابن باديس طمأنه وقال له : " أنا كفيل بأن لا يحدث إلا ما تحمد عقباه وستفرحون بالأثر الحسن الذي يتركه اثر رحلتنا في قلوب السكان " (8) . فقال له الحاكم العسكري : " إن الوادي لا تتوفر على قاعات مناسبة للخطابة " ، فردّ عليه الشيخ عبد العزيز بأن الخطب تكون في زاويتي ، وهي أوسع محل في البلد ، ثم خرج الوفد من مكتب قائد الملحقة ليتناول وجبة الغذاء على مائدة الشيخ عبد العزيز.
ومن الغد صباح الخميس توجه الوفد إلى عميش ، فدخل إلى سوق البياضة ونوجه بعد ذلك إلى المسجد الذي بناه الشيخ الهاشمي فاجتمع عليهم نفر غفير ، فألقى عليهم الشيخ ابن باديس خطابا توجيهيا ، ثم عاد الوفد إلى الوادي لتناول الغذاء على مائدة الشيخ عبد العزيز ، وبعد الظهر توجه الجميع إلى الزقم ، وتوقف الركب في طريقة بقرية " البهيمة " واستقبلهم السكان بكل حفاوة ، حيث أقيمت لهم عدة احتفالات . ولم يغادر الوفد " البهيمة " إلا والشمس آذنة بالمغيب .
وصل الجميع إلى " الزقم " مع تمام الغروب ، فأقيمت لهم الولائم وانتشرت البهجة والأفراح بمقدم الوفد . وفي السهرة تأسست خلية لجمعية العلماء بالزقم من خمسة عشر عضوا برئاسة السيد معمري عبد الرحمن بن علي ، وهو متخرج من جامع الزيتونة ( 9) وقضي الوفد الليلة بالزقم .
وفي صباح الجمعة رجع إلى الوادي ليحاضر للأمة في زاوية الشيخ عبد العزيز ، لكن المناسبة كانت يوم السوق الأسبوعي وتقتضي الظروف أن يقيم الاحتفال في ساحة السوق : فذهب الشيخ عبد العزيز إلى القبطان ليفاوضه في الأمر ، فأذن له بذلك بعد تردد ، وعقد الاجتماع بساحة السوق وحضره خلق كثير ، رغم دسائس الخونة وبعض الطرقيين للتشويش على هذا المهرجان وإفشاله ، وقد روجوا أكاذيب وأقاويل حول رئيس الوفد : حتى يقاطع الناس هذا الحفل تفاديا لأفكاره الخطيرة ، ولكن المفاجأة كانت كبيرة حيث حظي الشيخ الجليل والوفد المرافق له باستقبال رائع وبحضور جمع غفير ، وبإعجاب الجميع بخطبة الإمام ابن باديس التي كان لها وقع في نفوس شباب المنطقة خاصة ، وأصبح ذلك اليوم المشهود خالدا ومنحوتا في ذاكرة الكثير منهم إلى اليوم ، حيث يروي بعضهم أن مجموعة من الأطفال قد سُخروا لرمي الحجارة على الوفد ، لكنهم انبهروا بكلام الشيخ ابن باديس ، فتركوا حجارتهم وانجذبوا إلى الحفل بكل غبطة واندفاع للاستماع والاستمتاع بالحديث عن الأُخوة الإسلامية والأُخوة الإنسانية والروابط التي تربط المجتمع ، ثم قدم الشيخ عبد العزيز أعضاء الوفد الذين ألقوا كلماتهم على التوالي وهم الشيخ العربي التبسي والشيخ مبارك الميلي وحمزة بوكوشة ومحمد خير الدين ، وبعدها طلب من الحاضرين الانصراف ، حيث وقت صلاة الجمعة ، وبعد الصلاة تناول الوفد طعام الغذاء على مائدة الشاب البشير شيحمة .
وبعد ذلك ذهب الوفد إلى مكتب الحاكم العسكري لتوديعه وإعلامه أن الزيارة قد انتهت بدون أي حادث والجدير بالذكر هنا هو أن أسلوب جمعية العلماء في عملها كان دائما أسلوبا هادئا وسليما حتى يطمئن له الحكام الفرنسيون ، حيث تقوم الجمعية بتهيئة التربة الصالحة للزراعة أولا ، ثم تبذر فيها البذور الملائمة وتسقيها رويدا رويدا حتى تنبت وتترعرع ، بعدها يقطب ثمرها الناضج كثورة عارمة على العدو.
غادر الوفد الوادي واتجه إلى " تكسبت " حيث استقبلهم الشاب الطيب فرحات (10) ، ثم توقف في بلدة " كوينين " عند السيد حمويا عبد الوهاب بن ناقا الذي تبرع للجمعية بمبلغ خمسة وعشرين ألف فرنك (11) ثم انتقل الوفد بعد ذلك إلى " تاغزوت " عند زاوية الشيخ العيد التجاني .
ومن الغد وصل الوفد إلى " قمار " حيث ألقى الشيخ ابن باديس درسا قيّما وتبعه الشيخ خير الدين والعربي التبسي ومبارك الميلي ، ثم جاء دور الشيخ عبد العزيز فقام وقال : " إن الطرق بدعة لا أصل لها في الدين فحسبكم التمسك بالكتاب والسّنة " وقال أيضا : ّ انظروا أيها الإخوان إلى الفرق بين العلماء وشيوخ الطرق ، العلماء أتوكم مجتمعين لتبليغ العظات وشيوخ الطرق يأتونكم متفرقين في سياق لأخذ الزيارات ، الطرق شتّتكم وأضرّت بكم في دينكم ودنياكم والعلماء يريدون إرجاعكم إلى الكتاب والسّنة وتعليمكن العلم الصحيح " . | البصائر / عدد 95 | .
ومن " قمار " انتقل الوفد إلى بلدة " الرقبية " لزيارة مسجدها لمصالحة الفرقاء ، حيث يذكر الشيخ محمد خير الدين : " ... فقد زرنا ( الرقيبة ) وهي بلدة صغيرة تتنازعها طريقتان هما : القادرية والتجانية ، وقد بلغ الشقاق بينهما شأوا بعيدا فحرّموا التعامل والتزاوج بينهما وقسموا المسجد الجامع شطرين ، أقاموا في وسطه جدارا فاصلا جعل من المسجد مسجدين ... " (12) .
ومن " الرقيبة " غادر الوفد اقليم " سوف " مخلدا زيارته في سجلّ مسجد تاريخ المنطقة .
تأثير الزيارة على المنطقة :
كان لهذه الزيارة الأثر العميق عند الشيخ عبد العزيز وسكان المنطقة عامة ، فاغتنم ذلك لتكثيف نشاطه ، وازدياد حركاته وتنقلاته عبر القرى والمداشر شمالا وجنوبا لنشر أفكار الحركة الإصلاحية والدعوة لها ضمن التوجيهات الدينية والعلمية لإحياء نفوس الناس وتنبيههم من غفلتهم وإيقاظ ضمائرهم لإنارة الطريق الصحيح لهم ، فاهتم بتأسيس المدارس لنشر العمل عبر التعليم وفق مناهج جمعية العلماء ، حوّل جزء من زاوية " البياضة " إلى أقسام للتعليم العصري ، وفي شهر مارس 1938 م ، وظف نقود محصول التمور في تهيئة زاوية الوادي – التي شرع فيها أبوه منذ سنوات خلت – لجعلها جامعة تستوعب أكثر من خمسمائة طالب جزء منهم يخضع للنظام الداخلي ، ولهذا الغرض جهزت قاعدتان كبيرتان للمحاضرات وعشرين غرفة فردية ، كما خزّن لهم التمور والأرز (13) واستقدم لها أساتذة أكفاء كالشيخ علي بن ساعد والشيخ عبد القادر الياجوري المعروفين بغزارة علمهما وبراعتهما في ميدان التعليم والإرشاد كما درّس في هذه المدرسة الأستاذ لعروسي ميلودي والشيخ معراج دربال وغيرهم ، فعرفت المنطقة بذلك حركة علمية تعمل على البحث الحضاري ونشر الوعي الفكري ، أثارت مخاوف سلطات الاستعمار ، فحاولت معارضتها وهدمها عن طريق أعوانها الذين سربوا الإشاعات بأن التلاميذ الذين يزاولون تعليمهم في هذه المدرسة وبهذه الطريقة العصرية ، سيمسخهم الله إلى قرود ، لكن إقبال الطلبة كان منقطع النظير .
ورغم ملاحظات السلطات المحلية ، فإن الشيخ عبد العزيز لم يتوقف ، بل واصل مشروعه التعليمي ، ولم يعترف بمرسوم 10 أكتوبر 1892 م ، واعتقد أن التعليم في الزوايا غير مراقب .
وقد أثار الشيخ ابن باديس هذا الموضوع في جريدة ( البصائر ) تحت عنوان : " الشيخ عبد العزيز بن الهاشمي والإصلاح " : " ... شرع عبد العزيز بعمارة زواياه بالعلم وعين رجلين للتعليم من أبناء سوف المتخرجين من جامع الزيتونة المعمور هما الشيخ علي بن سعد والشيخ عبد الياجوري ... وجمع عددا من الطلاب وحضّر لهم مؤونتهم وأخذت حركة العلم تدب بين الناس والرغبة فيه تنمو في الطلاب ، دعا الحاكم الشيخ عبد العزيز في شأن التعليم وطلب الرخصة ، وردّ الشيخ بأن الزوايا من قديم الزمان تعمل بدون رخصة ، وتكرر الأخذ والرد في الأمر وفهم أن الإدارة مستثقلة الحركة العلمية وتخوف الناس حتى كانت الكارثة ... " (14) .
ذلك أن الشيخ عبد العزيز عزم على تنظيم مظاهرة احتجاجية على تصرفات السلطات المحلية ، بمناسبة الزيارة التفقدية للسيد ( ميلييوت) (MILLIOT) إلى الوادي يوم 12 افريل 1938 م ، وهو المدير العام للشؤون الأهلية وأقاليم الجنوب وقبل وصول هذا الموظف السامي استدعى الحاكم العسكري بالوادي الشيخ عبد العزيز ليعلمه رسميا أن أي مظاهرة ممنوعة ، فرد عليه بأن المظاهرة ستنظم مهما كانت التكاليف ، وفعلا بعد الظهر من يوم 12 افريل 1938 م ، وبمجرد وصول السيد المدير العام تظاهرت جماهير غفيرة قدّرتها الوثائق الاستعمارية بحوالي 1200 شخص ، اعتصموا بشباك مقر الحاكم العسكري إلى الساعة الثامنة ونصف ليلا .
وفي نفس الوقت استقبل السيد ميلييوت المدير العام الشيخ عبد العزيز في المكتب ودارت بينهما مفاوضات عسيرة استغرقت حوالي ثلاثة ساعات تمحورت حول عريضة السكان ، الذين يعبرون فيها عن غضبهم على تصرفات المصالح الاستعمارية ، ويمكن إجمال ما جاء في العريضة فيم يلي :
- رفع الظلم والتعسف عن السكان من قبل الإدارة الفرنسية وأعوانها خاصة القياد .
- المحافظة على المقومات الحضارية للأهالي بانتشار التعليم باللغة العربية واحترام تعاليم الإسلام ورجاله مثل ما تفعله الإدارة مع الآباء البيض التي تزكي حركتهم التبشيرية .
- مساعدة الفقراء والمحتاجين بالحبوب والغذاء ، وطالب بتزويدهم بـ10 قناطير من القمح (15) .
وافق الموظف السامي على هذه المطالب وأخبر الشيخ عبد العزيز أنه سيرفعها إلى السلطات العليا ، ولكن الأمور تطورت واشتد الغضب بالشعب فاندلعت ثورة عارمة في البلاد ، أسفرت عن اصطدامات دموية بين السكان وقوات الطوارئ الفرنسية التي حاصرت المنطقة بحشود ضخمة للقضاء على الثورة في مهدها .
وبعد هدوء العاصفة ألقت السلطات الفرنسية القبض على الشيخ عبد العزيز وزملائه وزجت بهم في السجن ، ويذكر الإمام ابن باديس في جريدة (( البصائر )) ، عدد 121 وقائع كارثة وادي سوف الأليمة بما يلي : " ... عجّ وادي سوف يوم 18 افريل بالجنود والعتاد ، ورصعت رباه بالمدافع الرشاشة وأرعدت أجواؤه بأزيز الطائرات فأوشك أهله ونساؤه وأطفاله وبيوته ونخيله أن تنسفهم قنابل الأرض أو تمحقهم صواعق السماء ، فذهلت المراضع ووضعت نحو الثلاثين امرأة حملها ... وأصبح الوادي على حين بغتة وقد عطلت أسواقه وسدت طرقاته ، ومنع عنه الداخل والخارج وضرب عليه نطاق شديد محكم الحصار ... وألقي القبض على الشيخ عبد العزيز الهاشمي والشيخ علي بن سعد والشيخ عبد القادر الياجوري والسيد عبد الكامل بن الله وسيقوا إلى السجن بقسنطينة ، وحشرت جماعات من الناس إلى المركز الإداري وزج بهم في السجن ثم حكم على عدد وفير منهم بالنفي والسخرة ، كل هذا والناس معتصمون بالصبر ومنتظرون للفرج ... ثلاثة أسابيع ذاق فيها أهل الوادي ما ذاقوا وطاقت فيها الجنود شرقا وغربا وشمالا وجنوبا .
جاءت لجنة البحث للكشف عن أصل الحوادث والاطلاع على حقيقة الواقع ، وساق إليها القياد الناس ليشهدوا ، وقد جدوا واجتهدوا في جمع الشهود ، تحت مظاهر الرهبة والخوف .
قامت لجنة البحث بواجبها بنزاهة وإنصاف وتحققت أن لا ثورة ولا هيجان ، و أن لا شيء دبر ضد الحكومة أو الأمن العام ، ففك الحصار عن البلاد وسرح الموقوفون وفقلت الجنود راجعة ... ورفع ذلك الكابوس الثقيل عن الوادي الهادي المطمئن إلا ما بقي من مظالم بعض القياد " .
نلاحظ أن هذا النص التاريخي لا يحتاج إلى تعليق ، فهو ينطق وحده عن خلفيات زيارة ابن باديس ووفده إلى وادي سوف ، وأن ما حدث لم يكن ضد الحكومة أو الأمن العام ن وليس له علاقة بالسياسة ، ولهذا ثم اقتناع الإدارة الاستعمارية بذلك ففكت الحصار على الوادي المسكين .
لكن الشيخ عبد العزيز ورِفاقه بقوا في السجن بدون محاكمة وتكفلت جمعية العلماء بالدفاع عنهم وتخليصهم من هذا الظلم مستعينة بالمحامين ورجال القانون ، وقد عالج ابن باديس هذا الموضوع في عدة مناسبات في جريدة (( البصائر )) فقال في إحداها أن هؤلاء الشيوخ دخلوا الشجن " ... ضحيّة عقيدتهم الإسلامية وقيامهم بواجبهم الديني نحو إخوانهم المسلمين أهل ديار سوف ... " (16) .
وفي مقال أخر كتبه ابن باديس في (( البصائر )) تحت عنوان : " هل في سجن ( الكدية ) ما يذكرنا ب ( الباستيل ) ؟ " ...
والثورة الفرنسية سنة 1789 م وعلى الذكرى 150 سنة التي مرت على سقوط هذا المعتقل الرهيب، ثم ربط هذا الموضوع بمساجين العلماء وأشار إلى ما يلي :
" ... وها نحن في الجزائر نرى ذلك ونتجرع آلامه ، ففي سجن ( الكدية ) بقسنطينة قد ألقى أربعة من أعضاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين دون جرد معلوم ، ودون أن يقدموا للمحاكمة أربعة من العلماء: الشيخ عبد العزيز بن الهاشمي والشيخ عبد القادير الياجوري والشيخ علي بن سعد والسيد محمد الكامل مضت عليهم في السجن سنة وأربعة أشهر مع المجرمين ... إننا لا نطالب العفو والإفراج عنهم ، وإنما نطالب تقديمهم للمحاكمة ونشر قضيتهم أمام العدالة والرأي العام ، إننا على ثقة من براءة أصحابنا ... فإلى المحاكمة إن كنتم تريدون نصرة العدل وجمال الحرية " (17) ثم طالب ابن باديس في العدد الموالي معاملة هؤلاء المساجين العلماء معاملة تليق بمكانتهم الثقافية والاجتماعية حيث لا يمكن حشرهم مع اللصوص والمجرمين لأنهم سجناء الرأي والفكر والسياسة .
مكث الشيوخ بالسجن حوالي أربعة سنوات أي بعد وفاة الشيخ ابن باديس ( رحمه الله ) ثم حكم عليهم بالإبعاد والإقامة الجبرية .
والجدير بالذكر في الأخير أن زيارة ابن باديس والعلماء المرافقين له لـ " سوف " قد أجّجت روح الثورة والمقاومة ، حيث استمر العمل الوطني مع مسيرة الحركة الوطنية الجزائرية التي انبثق عنها اندلاع الثورة الكبرى المظفرة في نوفمبر 1954 .
إذن تلك هي النبذة الوجيزة عن نشاط الإمام عبد الحميد بن باديس في سوف ، ويا ليت أن كل جهات الوطن ترصد عمله تجاههم فإننا سنجمع مادة عزيزة نكتب منها مجلدات تخلد تاريخ هذا الرجل الفذ وأمجاده .
الهوامش:
(1) مجلة مجمع اللغة العربية ، الجزء الحادي والعشرين لسنة 1966 م ، ص. 143 – 144 .
(2) ARCHIVES D’outre-Mer , (A.O.M) à AIX ,10 H 89 , les populations musulmanes du Souf et leur évolution politique par capitaine Robert – THIRIET , chef de l’annexe d’EL OUED , Octobre – Novembre , 1938 , P 37 .
(3) الشهاب ، الجزء الثامن من المجلد الثالث عشر ، شعبان 1356 هـ الموافق لــ : أكتوبر 1937 م ، ص. 344 .
(4) د. محمود قاسم ، الإمام عبد الحميد بن باديس الزعيم الروحي ، لحرب التحرير الجزائرية ، دار المعارف بمصر ، 1968 ، ص 77 .
(5) الشيخ محمد خير الدين ، مذكرات ، الجزء الأول ، الجزائر ، 1985 ، ص280 .
(6) البصائر ، عدد 93 ، الجمعة 27 شوال 1356 هـ الموافق ليوم 31 ديسمبر1937 .
(7) A.O.M, 10 H 89 , Etude sur l’activité des Oulamas dans le territoire du Sud , Février 1938 , par GARDEL.
(8) البصائر ، عدد 93 .
(9) A.O.M , 10 H 89 , Etude sur l’activité des Oulamas .
(10) البصائر ، عدد 95 ، 12 ذي القعدة 1356 هـ الموافق لــ 14 جانفي1938 .
(11) A.O.M, 10 H 89 , Etude .
(12) خير الدين ، مذكرات ، ص . 281 .
(13) , P42 A.O.M ,10 H 89 , les populations musulmanes du Souf
(14) البصائر ، عدد 113 ، 24 جمادى الأولى الموافق لــ 22 جويلية 1938 م .
(15) A.O.M ,10 H 89 , les populations … , pp 46-49 .
(16) البصائر ، عدد 134 ، 13 شعبان 1357 هـ ، الموافق لــ7 أكتوبر 1938 م .
(17) البصائر ، عدد 178 ، جمادى الثانية 1358 هــ ، الموافق لـ 11 أوت 1939 م .
مجلة الموافقات ، العدد السادس ، 1418 ه ، (1997 م )