النشاط التعليمي والإصلاحي لجمعية العلماء المسلمين بمنطقة الجلفة إبّان الاحتلال الفرنسي للجزائر
بقلم: مصطفى داودي -
إن منطقة الجلفة على غرار باقي مناطق الوطن لم تكن نشازا في نشاطها العلمي والإصلاحي و التكويني بناء على ركائز الثوابت التي حفظت لهذا الوطن شخصيته و جعلته يثبت أمام عواصف الإقلال و المحو التي مارسها الاحتلال الفرنسي طيلة قرن ونيف من الزمن، كما أنها لم تكن على هامش الاهتمام من قبل رجال الإصلاح في جمعية العلماء، وعلى رأسهم شيخا الإصلاح و النبوغ و العطاء عبد الحميد بن باديس و محمد البشير الإبراهيمي اللذان كان لهما زيارات إلى المنطقة لغرس و تثبيت قيم الإصلاح فيها، و قد قوبلت هذه الإرادة بمثلها في التحقيق من قبل أبناء المنطقة، و ما تكرر الزيارة إلاّ تيقنا بأن تربة هذه المنطقة منبتة و مكوناتها غنية بكل ما يفيد الغرس لدعمه و تقويته حتى يكون مخضرا وصلبا، و هو ما كان أكثر جذبا لعلماء الإصلاح لهذه المنطقة .
إلاّ أن الأمر الملفت و نحن نتتبع هذا الموضوع من خلال الأصول، و ذلك بتارة مع ما هو مكتوب من خلال الرسائل و الكتب و جرائد الجمعية أثناء الفترة، و تارة أخرى مع ما هو شفهي من خلال منابعه التي عاشت الوقائع أو قربت منها قرب التأثير و النشاط، أو من خلال الآثار التي تصنف كشاهد حي على ذلك النشاط، قلت أن الملفت في كل ذلك و نحن نتتبع تاريخ جمعية العلماء و نشاطها الوطني لم نجد إشارات من قريب أو من بعيد على دور هذه المنطقة في سياق الدور العام لنشاط الجمعية عبر ربوع الوطن، باعتبار أن النبت الذي حصل يستدعي الاهتمام و إبراز الدور سواء من خلال علماء المنطقة الذي ضحوا بأنفسهم من أجل تثبيت الفكر الإصلاحي للجمعية و لم يكن دورهم مقصور على المنطقة فقط بل تعدوها إلى مناطق كثيرة، ومن هؤلاء نجد الشيخ "عبد القادر بن ابراهيم النايلي" الفقيه الشاعر و "محمد الرايس" و هما ذا أثر ثابت تحفظه صفحات البصائر إلى اليوم، كما أن أثر الإصلاح فعل فعله في دماء تغذت منه و سالت على تربة هذه المنطقة تضحية من أجل هذا الوطن إبان الثورة التحريرية المجيدة، و أن قصة هذه المنطقة في النشاط الإصلاحي لجمعية العلماء المسلمين بها هو من المواضيع المهمة التي تستدعي البحث و الاهتمام، و نفض غبار النسيان عنه، وإننا بكل يقين سوف لا نضع أمامكم الصورة الواضحة مثلما كانت ولن نحيط بكل الجوانب المتعلقة بالموضوع لإعطاء رؤية متكاملة وإنما كل ما نرسمه لكم هو هيكل عام عساه يجد من يملأه لتكتمل صورته ويؤدي الغرض المقصود من وراء تبيانه.
وحتى نكون أكثر منهجية فإننا بالضرورة حينما نسمع كلمة إصلاح فمن المنطق انه لا يكون الإصلاح إلا إذا حدث خلل أو فساد أو خروج عن إرادة أُريدت، وإلا فلا معنى للإصلاح، من هذا الباب فإنه من الضروري أن نوضح في عجالة الأمر الذي حدث في الجزائر وأرادت جمعية العلماء إصلاحه، وهذا بالضرورة يقودنا إلى الحديث عن ما فعلته فرنسا في الجزائر منذ احتلالها حيث وكخلق كل احتلال حينما يريد أن يدجن شعبا ما ويجعله يدور في فلكه أن يعمل على هدم شخصيته، وبهذا عملت فرنسا على إبعاد الشعب الجزائري عن قيمه ومبادئه والتي شعارها اللغة العربية والإسلام والتاريخ وكان شعار فرنسا انه "إذا أردت أن تهدم شخصية امة فأبعدها عن لغتها" لان اللغة العربية هي وعاء الإسلام ولسانه ولا يمكن أن يفهم الإسلام نقيا صحيحا فاعلا مثلما نزل إلا باللسان العربي وقد وصفها الإمام عبد الحميد بن باديس "بالرابطة التي تربط بين ماضي الجزائر المجيد وحاضرها الأغر ومستقبلها السعيد، وهي لغة الدين والجنسية والقومية ولغة الوطنية المغروسة " ، وقد جاء في إحدى التعليمات التي صدرت في أوائل أيام الاحتلال " أن ايالة الجزائر لن تصبح حقيقة مملكة فرنسية إلا عندما تصبح لغتنا هناك لغة قومية" وهكذا أخذت فرنسا تبعد الشعب عن لغته بشتى الوسائل والتي من أبرزها:
- القضاء على معظم مراكز الثقافة العربية من مدارس ومساجد وزوايا وكتاتيب
- نهب التراث الثقافي العربي الإسلامي (مخطوطات ، وثائق ، كتب)
- خنق الصحافة العربية ومنع انتشارها ومضايقتها
ودام هذا التضييق حتى 08 مارس 1938 حينما شيعت فرنسا اللغة العربية في الجزائر بإصدار قانون شوطان Chautemps والذي بموجبه أصبحت اللغة العربية لغة أجنبية في بلادها .
أما عن الإسلام، فان فرنسا أول ما دخلت إلى الجزائر بدأت في التضييق على الكتاتيب والزوايا بالإضافة إلى غلق الكثير من المساجد وحولتها إما إلى اسطبلات للخيل أو كنائس أو مراكز إدارية وبالمقابل فتحت الباب واسعا أمام المنصّرين وذلك كله لفصل هذا الشعب عن كل ما يربطه بالإسلام وهي سياسة فرنسية واضحة أعلنت عنها منذ بداية الاحتلال حينما رسم الحاكم العام في الجزائر سنة 1832 معالم سياسة فرنسا في الجزائر بقوله "إن آخر أيام الإسلام قد دنت وفي خلال 20 عاما لن يكون للجزائر إله غير المسيح، وأننا لا نشك بأنها ضاعت من الإسلام إلى الأبد" وانه في احتفالات سنة 1930 كان الشعار هو تشييع جنازة الإسلام في الجزائر، أما في مجال التاريخ فان الاحتلال الفرنسي اخذ على عاتقه تشويه تاريخ هذا الوطن وذلك عبر المنظومة التربوية المقامة في المدارس الفرنسية في الجزائر حيث كانت تعلم الأطفال بان بلادهم كانت تسمى قديما بلاد الغال وان أجدادهم كانوا يسمون بالغاليين تماما مثل ما يقرأ التلميذ الفرنسي، كما ركزت في مرحلة متقدمة من الاحتلال على إثارة الفرقة بين مكوّنات الشعب الجزائري خصوصا على بلاد القبائل والتي منع فيها استعمال اللغة العربية والأحكام الإسلامية وتعويضها باللغة الفرنسية و الأحكام العرفية، الأمر الذي جعل رجال عروش القبائل يثورون على هذا الوضع وقدموا عريضة جماعية سنة 1948 إلى حكومة الاحتلال جاء فيها :
" فالزاوية الكبرى أمة إسلامية عربية لا ترضى عن دينها وشرعها بديلا وإنها تعتقد أنها جزء لا يمكن فصله عن الجسم العربي الجزائري وأنها لا ترضى أن تكون نوعا جديدا على هامش العرب"
بعد كل هذا الفساد في الأرض والخلل الكبير الذي أرادته فرنسا في الجزائر حتى أصبح أزيد من 96% من الجزائريين يعيشون في ظلام الأمية بعد ظلام الاحتلال، وهم الذين حينما زارهم سنة 1831 الرحالة الألماني ( فيلهلم شيمبر W. Schimper) قال : ( تعمّدت أن أجد جزائريا لا يقرأ و لا يكتب فلم أجد ووجدت ذلك كثيرا في جنوب أوروبا )، هذه قصّة الحضارة التي أرادت أن تسوّقها فرنسا في الجزائر، وهي التي جعلت الشيخ عبد الحميد بن باديس وهو في إحدى زياراته إلى مدينة الجلفة في ثلاثينيات القرن الماضي لمّا خرج به أهلها في زيارة إلى منطقة "المعلبة" الفلاحية ، ورأي راعي غنم يرعى غنمه ويلبس حذاء مصنوع من الحلفاء يسمى حينها بـ"الفرتالة" و هو يشتغل في صنع حذاء آخر فقال الشيخ أنتظر حتى يكمل الحذاء لآخذه منه فقيل له يا شيخ وما تصنع بحذاء من الحلفاء ظنا منهم أن الشيخ همّ بارتدائه، فقال لهم الشيخ : آخذه معي و أضعه في مكتبي و حينما يأتيني الزوار أقول لهم : (أنظروا إلى حالة المجتمع بعد قرن من الاحتلال يصنع حذاءه من الحلفاء، هذه حضارة فرنسا في الجزائر)، لذلك بات من الضروري وجود حركة إصلاحية تعليمية ممنهجة تحمل عبء إصلاح ما أفسده الاحتلال وهو الأمر الذي ولدت لأجله جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في 5/5/1931 والتي رأت بأنه لن تحرر هذه الأمة إلا باستعادة شخصيتها ولن تستعاد هذه الأخيرة إلا على أساس التربية والتعليم، وقد أشار إلى ذلك بوضوح الشيخ محمد البشير الإبراهيمي لقوله :" إن المدرسة هي جنة الدنيا والسجن هو نارها ... والأمة التي لا تبني المدارس تبنى لها السجون" من هذا المنطلق بدأ العمل الإصلاحي للجمعية وقد كان هذا العمل ممنهجا انتشر في كامل التراب الوطني ومن هذه المناطق منطقة الجلفة والتي كانت إبان الاحتلال وعلى غرار باقي المناطق تعيش في ظلمات ثلاث الإحتلال والفقر والجهل، ورغم هذه الظلمات إلا أنها بقيت محافظة على مقومات شخصيتها رغم البدع والخرافات التي انتابتها ويعود ذلك الحفاظ إلى أمرين :
أما الأول : فهو تلك الشيم والأخلاق التي تنبع من عمق الإسلام والتي توارثوها جيلا عن جيل مثل الكرم والرجولة والحياء والعفة.
والثاني كان له عمق الحفاظ على الشخصية الجزائرية سواء قبل الاحتلال أو أثنائه ألا وهو العمل الكبير الذي كانت تقوم به الزوايا والكتاتيب في تعليم اللغة والقرآن الكريم والفقه والثقافة الإسلامية عموما إلا أن الملاحظ على المنطقة أنها لم تلق تعليما تجديديا عصريا يواكب التطورات ويهتم بجميع جوانب الحياة سواء الدينية أو الاجتماعية أو العلمية وغيرها وهو المشروع الذي حملته جمعية العلماء المسلمين الجزائريين على عاتقها منذ تأسيسها في 05 ماي 1931 حيث جعلت دعائم مشروعها الإصلاحي يعتمد على ثلاث ركائز: العلوم الدينية من تفسير وحديث وفقه وأخلاق والعلوم اللسانية من قواعد ولغة وأدب والعلوم الخادمة للدين والحساب وغيرها .
1ـ رحلة الأفكار الإصلاحية للجمعية إلى المنطقة:
وكان ذلك عن طريق:
أ ـ الرحلة العلمية والتشبع بالأفكار:
إن رحلة الأفكار الإصلاحية لجمعية العلماء تكشف لنا مدى الحركية العلمية التي تميز بها رجال المنطقة وكيف أنهم كانوا يهجرون الأوطان ليتزودوا بنور العلم عساه يضيء ليل الاستعمار المظلم وهذا يبين مدى دور الهجرة العلمية في انفتاح العقول وتحسين الأفكار ودفع الإصلاح إلى مدارج كبرى ما كان ليبلغها لولا تلك الهجرة وهو سر قول الشاعر :
سافــر تجـد عوضا عمن تفارقه وأنصب فإن لذيذ العيش في النصب
إنـي رأيـت ركـود الماء يفسـده إن سال طاب وإن لم يجر لم يطب
والأسد لولا فراق الغاب ما افترست والوتر لولا فراق القوس لم تصب
لذلك فإن رحلة الأفكار بين رجال العلم كانت السر الأكبر في انتشار العمل الإصلاحي لجمعية العلماء بمنطقة الجلفة ومن تلك الرحلات رحلة الشيخ عبد القادر بن إبراهيم المسعدي النايلي (1888-19566م) العلمية إلى بسكرة وتقرت ومناطق أخرى جعلته يلتقي الكثير من رجال جمعية العلماء سواء قبل تأسيس الجمعية أو بعدها وكان الحوار الأكبر بين هؤلاء العلماء هو ضرورة الإصلاح وتنبيه العقول ومحاربة البدع وفضح الاستعمار بالإضافة إلى المراسلات المختلفة بينه وبين الكثير من العلماء مما جعله يتشبع بالفكر الإصلاحي التجديدي والذي كان شعارا لجمعية العلماء المسلمين، وقد ظهرت ثمار هذا التشبع في العمل الإصلاحي الكبير الذي قام به بمنطقة الجلفة ، باسم جمعية العلماء التي التحق بها منذ المؤتمر التأسيسي الذي حضره يوم الثلاثاء 5 ماي 1931، وهو الاجتماع الذي عقد بنادي الترقي بالعاصمة و أثمر عن ميلاد الجمعية ، كما ساهم في وضع قانونها الاساسي و تشكيل مكتبها الإداري، ولاقى في سبيل هذا الفكر محنة السجن والاعتقال والنفي والمتابعة وكان تحت عين مراقبة الادارة الفرنسية و التي كانت ترصد كل تحركاته حتى أنها سجّلت عليه في تقاريرها المكتوبة عبارة ( هذا الرجل خطرا على الأمن العام وعلى فرنسا) ، كما ضيق عليه في نشاطه التعليمي و تعدى ذلك التضييق بإلحاق الأذى لكل من يقترب منه و قد أكّد ذلك شخصيا في إشارته إلى العقوبات المسلطة على التلاميذ والطلاب الذين كانوا يستمعون للدروس إذ يقول " ... وفي هذه السنة قام حاكمنا الحالي بإغراء من أولائك الأعداء ، فصار يتتبع جميع من يأتيني لطلب العلم بالحبس والتغريم والضرب ونتف اللحى ويقال لهم لا تترك سبيلكم حتى تضعون بخط يدكم على أن عبد القادر بن إبراهيم عدو للدولة، فمنهم من وضع خطه جبرا ومنهم من امتنع واحتمل الضرب ونتف اللحية والتغريم مرارا عديدة" .
و لعلّ قصيدته صوّرت ذلك حينما قال :
لقد منعوني الروح و الراح و المنى *** فجدبي الوجد الجد لذا الضنا
و قد منعوني الأنس و الشمس أن أرى *** بدور تدور و البدار إلى المنا
و قد منعوني الزور بالزور منهم *** فصرت بهم حلا و قد حل بي العنا
و قد منعوني بالبعاد فابدعوا *** و عادوا و حادوا عن جنائي لذا الجنا
و قد منعوني عن رشادى و مرشدي *** و رفدي و رصلى للمعاني و ما عنا
و قد منعو جفني القريح قراره *** و دمعي دمي و الخد خدده الرنا
كما أن رحلة الأفكار الإصلاحية للجمعية للمنطقة كانت عن طريق الكثير من علماء المنطقة منهم الشيخ محمد رايس (1330-1387 ه/1912-19688 م) والذي كان تلميذا للشيخ عبد القادر المسعدي ثم تلميذا للشيخ عبد الحميد بن باديس رائد الإصلاح في الجزائر أين احتك بالكثير من أبناء جمعية العلماء بالإضافة إلى دراسته بالزيتونة بين سنوات (1940-1945 م) والتقائه بالشيخ أحمد حماني أحد مؤسسي جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وإلى جانب الشيخ محمد الرايس نجد الشيخ بن ربيح رابحي (1891-1943 م) والذي مثل جمعية العلماء بالجلفة والذي كان له لقاءات كثيرة مع علماء الجمعية بالإضافة إلى مراسلاته الكثيرة مع الشيخين ابن باديس ومحمد البشير الإبراهيمي .
بالإضافة إلى الشيخ المجاهد الثائر مصطفى بن محمد حاشى (1313-1401 ه/ 1895-1980 م) والذي كان صديقا للشيخ نعيم النعيمي وعبد القادر المسعدي ومحمد العيد آل خليفة وكان أينما حل في بلد في إطار رحلته العلمية إلا وانخرط مجاهدا
في صفوف ذلك البلد حيث شارك في ثورة عمر المختار ضد الاحتلال الإيطالي لليبيا وأصيب برصاصة في رجله اليمنى ولما ذهب قاصدا بيت المقدس دخل لبنان وانخرط في صفوف المجاهدين المتوجهين إلى البلقان ولما عاد إلى المنطقة كان مفتيا لامعا وشارك في ثورة التحرير وقد زج به في السجن .
وإلى جانب هؤلاء نجد الشيخ محمد بن الأخضر حساني الفرجاوي (1298 – 1394 / 1881م-1974) والذي جالس الكثير من أبناء وعلماء جمعية العلماء وعلى رأسهم الشيخين عبد الحمد بن باديس ومحمد البشير الإبراهيمي وقد كان عضوا في جمعية العلماء المسلمين دون أن ننسى الشيخ نعيم النعيمي الذي كان له تأثير كبير باعتباره احد أعضاء جمعية العلماء البارزين.
ب- الحركة الإصلاحية للشيخ مبارك الميلي بالأغواط :
لقد كان للحركة الإصلاحية التي قام بها الشيخ مبارك الميلي بمدينة الأغواط إبتداء من 1926 جانب من التأثير في ظهور الفكر الإصلاحي التجديدي بالمنطقة وذلك بحكم تجاوز المنطقتين وتفارقهما العرضي وكثرة الزيادة بين المنطقتين مما يحتم تأثر المنطقة بالفكر الإصلاحي للشيخ المبارك الميلي هذا الأخير الذي كانت له زيارات إلى منطقة الجلفة ووقف بنفسه على الواقع الديني والثقافي بها ودعى فيها إلى ضرورة إصلاح العقل وتوعيته وإخراجه من تلك المظاهر التي لا تمت للإسلام بالشيء وركز على ألوان البدع والإشراك وقد وصف كل ذلك في كتابه ( الشرك ومظاهره ) وقد نشر أغلب فصول الكتاب على صفحات جريدة البصائر وقد كان له مراسلات مع علماء المنطقة ومن أبرزها تلك التي كانت مع الشيخ الإمام سي عطية مسعودي عليه رحمة الله.
ج- جريدة البصائر والفكر الإصلاحي بالمنطقة :
تعتبر جريدة البصائر لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين من المحطات المهمة التي وصل عبرها الفكر الإصلاحي التجديدي إلى المنطقة بالنظر إلى ما كان ينشر فيها من مقالات ومواضيع تعالج فيها البدع والإشراك والجهل وتدعوا إلى العلم وتحرير العقول ومواكبة العصر والاعتزاز بشخصية الأمة .
وقد ذكر لي الكثير ممن عاصروا تلك الحقبة أنهم كانوا يتشوقون لمجيء تلك الجريدة وكانت تصل إليهم رغم مضايقة الاحتلال لهم والعمل على منع وصولها حيث كانوا يخبئونها عند الأشجار ويذهب الكثير من أبناء المنطقة إلى تلك الأشجار لقرائتها مما يبين مدى مساهمة هذه الجريدة في تشجيع أدباء المنطقة بالفكر الإصلاحي التجديدي .
ومما كان يبرز مكانة هذه الجريدة عند أبناء المنطقة هو مساهمتهم في الكتابة فيها حيث كتب فيها محمد بن عبد الرحمان النعاس و الأخضر المسعدي و محمد شونان و الشيخ عبد القادر بن إبراهيم المسعدي الذي قرضته البصائر بقولها «هو أحسن من عرفنا من طلبة أولاد نايل تعرف فيه الذكاء و حب الإطلاع و البحث » و كتب عنه زميله شونان (...يخبر عن حاضر الجلفة و ما آلت إليه بعد تأسيس ناديها من خير و سعادة و أنها قد عمرته بالمحاضرات و الدروس العلمية التي يقوم بها الشيخ عبد القادر بن ابراهيم المسعدي).
كما كتب الشيخ محمد بن علي كاس الملقب بالبخيتي العديد من المقالات المناهضة للإستعمار في الجرائد الجزائرية كالشهاب و البصائر و غيرها و من مقالاته الشهيرة التي أقلقت الحكم آنذاك مقالته " أئمة النظام " هذه المقالة كان لها صدى عميقا، و بعدا سياسيا لدى الأوساط المحافظة مما جرت عليه عدة مرات المخابرات الفرنسية و قادته إلى سجون كل من الجلفة- البليدة- القليعة، كما كتب محمد بن عمر من دمد بمسعد للبصائر قصيدته تحية البصائر:
بلغتنـا تحيـة منـك يـا من *** محضـت نصحهـا بكـل العبــاد
و دعت لإتباع نهج الرسـول *** الله أهـل القـرى و أهـل البـوادي
بكتـاب و سنــة و بيــان *** فقد حكى السحر ، في إمتلاك الفؤاد
ثم محضت على التآخي و نبذ *** الغــل و الالتئــام و الاتحــاد
و اجتناب لما يدهورنـا من *** بـدع قـد فشـت و كـل فســاد
و غدا همهـا و كـل منـاهـا *** شعبهـا كي يفـوز بين البـلاد
فعليـك السـلام منـا و حييت *** بـكــل تـحـيـــة و وداد
وعلى الكل من رجالك أهل الـ *** حزم و العزم و التقى و الأيادي
زادك الله شهـرة و رواجــا *** و ظهورا على جميع الأعـادي
و اعتصاما به و نصرا عزيزا *** مـع دوام البقـا ليـوم التنـاد
كما كتب فيها محمد بن شونان مقال بعنوان ""اعتداء على الأديان و الأنفس و الأموال بالجلفة""، وبالعموم فقد أبرزت مجمل المقالات التي كتبها أبناء المنطقة الواقع التعليمي و الثقافي والاجتماعي بل وحتى السياسة الاحتلالية المنتهجة ضد ابناء المنطقة.
د- زيارات قيادات الجمعية إلى المنطقة :
تعتبر الزيارات التي قادت رجال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين إلى المنطقة من أكثر المحطات التي سمحت لأبناء المنطقة بالتعرّف على الأفكار الإصلاحية التجديدية التي تهدف إليها الجمعية .
وكان من أبرز تلك الزيارات مجيء الشيخ عبد الحميد بن باديس إلى المنطقة وذلك سنة 1931 و سنة 1932 بعد عام من تأسيس جمعية العلماء المسلمين وقد استقبله في هذه الزيارة كبار أعيان وعلماء المنطقة و كان على رأس منظمي الاستقبال كل من حرّان عبد الرحمان المهاني و يونس لكحل، وكعادة الإمام أنه لا يدخل مدينة إلا ويبدأ بمسجدها حيث انتقل بالمسجد العتيق بحي البرج وقد شرح سورة العصر وتكلم عن الوحدانية وشرح الأهداف الكبرى التي تهدف إليها جمعية العلماء وقد استقبل أثناء هذه الزيارة من قبل حران عبد الرحمان و أحمد بن العقون.
وبالإضافة إلى هذه الزيارة كانت هناك زيارات أخرى لعلماء الإصلاح منها زيارة الشيخ أبو اليقظان والذي قصد الشيخ عبد القادر بن براهيم المسعدي وذلك في بداية التلاتينات وكان له أثناء الزيارة لقاءات مع أبناء المنطقة وتحدث عن ضرورة إصلاح الأنفس والمجتمع وإلى جانبه كانت زيارة الشيخ بيوض إلى المنطقة وذلك في الأربعينيات من القرن الماضي وألقى محاضرة لأبناء المنطقة وكان شعاره فيها ( ما جمعته يد الله لن تفرقه يد الشيطان ) وقد ذكر لي شيخ زاوية عين اقلال بالقرب من مدينة بحبح بأن الشيخ محمد البشير الإبراهيمي قد زار تلك المنطقة سنة 1948م و استقبل في الزاوية وإنه لحد الآن توجد دار بالزاوية يطلق عليها دار الشيخ البشير.
02 ـ النشاط الإصلاحي للجمعية بالمنطقة :
إن النشاط الإصلاحي للجمعية اعتمد في أساسه على جانبين مهمين وهما النشاط الدعوى والنشاط التعليمي
أ-النشاط الدعوي: أما النشاط الأول فكان أبرز من قام به هو الشيخ الإمام عبد القادر بن إبراهيم المسعدي الذي أسس في مسعد مجلس علم وتربية كان يعمل فيه جاهدا على تغيير الكثير من المفاهيم ورواسب الجهل التي انتابت العقول وكان يؤكد دائما أن جوهر الإصلاح يبدأ من النفس ويمتد إلى المجتمع .
و قد كان لمشاركة الشيخ عبد القادر بن إبراهيم في أشغال الجمعية العامة لجمعية العلماء المنعقدة في العاصمة بداية نوفمبر 1934 بناء على الدعوة الموجهة إليه بتاريخ 17/10/1934، دفعا قويا في تأسيس شعبة الجمعية بمنطقة الجلفة، و التي تكونت من عدد من أبناء المنطقة الذين كانوا ضمن مكتبها الإداري و على رأسهم الشيخ محمد شونان و ذلك سنة 1934 ، ومن بينهم أيضا ، حران عبد الرحمان، النعاس قاضي، بولرباح العيفاوي، بن معطار احمد خريف، حروز قدور، قويدر شويحة، حميدة بن علي، موسى قرّش، ناعم محمد بن الشامخ، بلعربي عمر، بوسعيد بن البشير، وعدلي احمد الصحراوي .
و في مدينة الجلفة أسس النادي الإسلامي للإصلاح وكان مقره بحي البرج وقد ركز في نشاطه الدعوي على المبادئ التي ذكرناها سابقا و الذي درّس فيه الشيخ عبد القادر بن ابراهيم و تلميذه الشيخ محمد الرايس قبل أن يذهب في رحلته العلمية إلى الزيتونة ولم ينس هو و الشيخ عبد القادر بن إبراهيم في هذا النشاط الإشارة إلى الاستعمار وفضحه وتأليب المجتمع عليه مما جلب حقد المحتلين حيث تعرضوا لهما بالسجن والتعذيب عدة مرات وكانوا يصفون الشيخ عبد القادر المسعدي بأبشع الأوصاف .
وينبغي الإشارة إلى أن هذا النشاط قد تم في سنوات الثلاثينيات وكان يجلب إليه أبناء المنطقة في دروس منتظمة بالنادي الإسلامي، هذا النادي الذي فرح الشيخ محمد الرايس بتأسيسه أيما فرح ، فأطربه ذلك شعرا حيث قال :
يا سائق العربات سوق اجهاد *** مهلا خطيب باسعاف و ابتعاد
بالله ان دمت في امن و عافية *** يمم ربى الجلفة الغراء يا حادي
عرج على فتية بها ذوي كرم *** ابلغ اليهم سلام الوافي الصادي
و انزل بناديهم الميمون فهو لنا *** رمز لإحياء امة الضـــاد
ب-النشاط التعليمي : إن النشاط التعليمي لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين ارتقى ارتقاء كبيرا وكان رائدا في الجزائر بحيث ترك تلك الأساليب القديمة وأصبح مواكبا للعصر سواء من حيث البرامج أو الأساليب والنظم التعليمية والكتب المدرسية والتفتيش والإدارة التعليمية وكان هذا من أعظم مفاخر الجمعية وكان محور القرآن هو ركيزته الأساسية في التعليم وقد قال فيه الإمام ابن باديس:" إننا نربي – والحمد لله – تلامذتنا على القرآن وتوجه نفوسهم إلى القرآن من أول يوم وفي كل يوم، وغايتنا التي ستحقق أن يكون القرآن منهم رجالا كرجال سلفهم وعلى هؤلاء الرجال القرآنيين تعلق هذه الأمة أمالها وفي سبيل تكوينهم تلتقي جهودنا وجهودهم " .
وعموما فإن الإصلاح التعليمي كما ذكرنا في بداية هذا الموضوع كان يعتمد على العلوم الدينية من تفسير وحديث وفقه وأصول وأخلاق والعلوم اللسانية من قواعد ولغة وآداب والعلوم الخادمة للدين من تاريخ وحساب وغيرها...
وأهم ما امتازت به الجمعية من نشاطها التعليمي هو توحيد وتعميم برنامجها التعليمي عبر كامل مدارسها المنتشرة في ربوع الوطن وكان من بين هذه المدارس التي كان لها دور تعليمي كبير هي مدرسة الإخلاص بمدينة الجلفة هذه المدرسة التي كان تأسيسها مطلبا من جميع أبناء المنطقة باختلاف مشاربهم وقد جاء هذا المطلب بعد تشرب أبناء المنطقة للفكر الإصلاحي التجديدي عبر النشاط الدعوي الذي ذكرناه سابقا وبعد أن أيقنوا أنه من الضروري تأسيس نشاط تعليمي عربي بعيدا عن التعليم المدرسي الفرنسي، وقد أنشئت سنة 1938، ويذكر أنه بعد تأسيسها بعث الشيخ محمد شونان برسالة أطلع فيها رئيس الجمعية الشيخ عبد الحميد ابن باديس بالتطورات الحركية في المنطقة و العراقيل المعترضة لذلك فردّ عليه الشيخ عبد الحميد بن باديس برسالة مؤرخة بيوم 22 جويلية 1938 جاء فيها: ( الاخ الكريم محمد شونان حفظه الله وأيده وعليك السلام ورحمة الله وبركاته وبعد . فقد جاء كتابكم وعرفت موقفكم الصادق الثابت الشريف أمام من يحاول صد الناس عن تعلم دينهم وأود أن تأذنوا لي في نشره بالبصائر ليكون عبرة وسيحث إخوانكم على الاقتداء بكم ..أشير عليكم أولا بطلب رخصة التعليم لمن تثقون به حسب القوانين فإذا منعتم من الرخصة فعلّموا واستعدوا للمحاكمة ؟أرجوا أن تكاتبوني بما يجد . والله يتولاكم بحفظه وتأييده . والسلام من أخيكم عبد الحميد بن باديس ) .
و ينبغي الإشارة إلى أن الدار التي أسست فيها مدرسة الإخلاص كانت ملكا للسيد (العيد بن القندوز) وأتفق بعض أعيان هذه المنطقة لشراء هذه الدار حتى تكون مقرا لمدرسة الإخلاص التعليمية و قد كان من المساهمين فيها الحاج "كاس محمد البخيتي" والحاج "بلقاسم بن قحضاب" والحاج "محمد بن مسايس المدعو (بلهادي)" والحاج "يونس خليل" المدعو( لكحل ) وقد جمعوا التبرعات لشراء هذه الدار سواء هنا في مدينة الجلفة أو خارج المنطقة و نعني هنا من أهل المنطقة في العاصمة، ومباشرة بعد شراء هذه الدار بادر رجال المنطقة في بنائها وقد ساهموا بالمال والجهد ومن أبرزهم الشيخ محمد بن شونان الداعم لنشاط الجمعية بمدينة الجلفة وقد كان في اتصالات مستمرة مع الشيخ محمد البشير الإبراهيمي الذي كان منفيا بمدينة آفلوا وكذلك دروازي الحاج بن فايد وعمران النعاس والقحاضبية والمداني بن مسايس و براهيمي عبد الله الذي كان وكيلا شرعيا بالمحكمة، وكذلك محمد بن ربيح و محمد بن حورية وغيرهم وبعد تهيئة هذا المقر فتحت المدرسة أمام أبناء المنطقة لأول مرة في تعليم عربي حر وكان بمثابة انتصار حقيقي وبداية نهضة لها ما بعدها، وسارت وفق المنهج التعليمي الذي أسسته جمعية العلماء ومن أبرز من ساهم في نشاطها التعليمي الشيخ عبد القادر بن ابراهيم و محمد الرايس الذي كان مشرفا عاما على المدرسة، والشيخ لخضر بن القويني لبقع والشيخ بن شريك عبد الرحمن .
وكانت هذه المدرسة مفتوحة على البنين و البنات في دوام ثابت و دائم، كان المساء فيها مفتوحا على التلاميذ الذين يدرسون في المدارس الفرنسية وكانوا يعرفون بالتلاميذ الليليين لأنهم يدرسون في المساء حيث كانوا يركزون على دروس الأخلاق والدين والتاريخ واللغة العربية. ومن أبرز المعلمين الذين كانوا يدرسون من خارج الجلفة في سنوات نهاية الخمسينات الشيخ محمد بلاحي من باتنة والشيخ محمد بوطي من قسنطينة والشيخ أحمد مرزوقي من بجاية .وبعد الاستقلال درٌس فيها معلمون من بني مزاب .
وقد بقيت هذه المدرسة في نشاطها التعليمي وفق منهج جمعية العلماء حتى التحقت رسميا بوزارة التربية في أكتوبر 1964 وكانت أول مدرسة نظامية عربية بعد الاستقلال في المنطقة.
03 –الثمار الإصلاحية لجمعية العلماء بالمنطقة :
لقد كان للفكر الإصلاحي لجمعية العلماء دور كبير في تفتح العقول و إدراكها لضرورة الخروج من تلك الظلمات التي فرضها الاحتلال على المنطقة، وبدأ أبناء المنطقة يحسون بشخصيتهم التي تميزهم وإدراكهم بأن الاحتلال عقبة كأداء أمام كل تطور أو انعتاق لذلك كان لهذا الفكر الإصلاحي دور كبير في تهيئة أبناء المنطقة للمشاركة في ثورة التحرير الكبرى، وكان من أبرز هؤلاء نجد الشهيد حاشي عبد الرحمن وابن خالته بلقاسم مقواس وكذلك الإخوة دروازي (الشامخ و أمحمد) والشيخ نعيم النعيمي وغيرهم .
كما ساهمت مدرسة الإخلاص في الكثير من الإنجازات منها :
- إعادتها لمكانة اللغة العربية في نفوس أبناء المنطقة.
- ساهمت في بناء الشخصية و الهوية الأصلية لأبناء المنطقة
- شكلت وعيا وطنيا و قوميا
- خرج الكثير من تلامذتها كأساس في بناء الدولة الجزائرية بعد الاستقلال حيث أن جل من تخرج من مدرسة الإخلاص أصبحوا مدرسين و مفتشين و إطارات في الدولة.
من كل ما سبق رأينا كيف أن الاحتلال عمل من أجل أن يغرق الشعب في ظلمات العبودية والجهل والفقر، وكيف أن جمعية العلماء أعلنت التحدي بالوقوف الند للند للاحتلال رغم قلة الحيلة وذلك لإخراج الشعب من ظلمة الجهل إلى نور العلم ومن العبودية للاحتلال إلى التحرر والعبودية لله وحده، وإنه بات يقينا لكل من عاش الاحتلال أو درسه بصدق هيهات أن يصفح عن الاحتلال، وقد ذكر ذلك الشيخ محمد البشير الإبراهيمي أمام الوفود العربية بباريس سنة 1952 : هيهات أن نصفح عن باريس أو نصافحها بعد أن جنينا المر من ثمراتها، وهيهات أن يسميها دار العلم من لم ير منها إلا الظلم، وهيهات أن يدعوها عاصمة النور من لم تغشه منها إلا الظلمات وهيهات أن يلقبها دار المساواة من لم تعامله إلا بالإجحاف.
الأستاذ : مصطفى داودي/أستاذ التاريخ بجامعة زيان عاشور –الجلفة–