مذهب الإبراهيمي في الكتابة
بقلم: أ.د. عبد الملك مرتاض –
لم يكن محمد البشير الإبراهيميّ يكتب ما يكتب بمعزل عن تمثُّل أسُسٍ وضعَها لتُفرِّدَ طريقته في الكتابة الأدبيّة، و يُمتّزَ أسلوبَه في نسْج اللّغة؛ فكان يمضي عليها في زَخْرفَة القول، وتَحْلِيَةِ الكَلام، فلم يكن يكاد يتجَانَفُ عنها فتيلاً. ولعلّ ذلك أن يبدُوَ من خلال أسلوبه في الكتابة الذي لم يكن يتغيّر أو يتبدّل مهما تكن الموضوعاتُ المعالَجة، والقضايا المتناوَلة؛ فسواءٌ عليه أكان يكتب عن قضايا اجتماعيّةٍ، أم سياسيّة، أم أدبيّة، فإنّ مستوى اللّغة ظلّ لديه هو هو، كما أنّ طريقة النسج باللّغة الرّفيعة ظلّتْ هي هي؛ حتّى إنّ الخبير بالأسلوبيّات يدرك بسهولة إذا قرأ نصّا غير معْزُوٍّ إليه، أنّه لمحمد البشير الإبراهيمي، لا لِسَوائه من الكتّاب. وأكبر أَمَارةٍ على عظمة المنزلة الأدبيّة لكاتب من الكتّاب، أنّه حين يغتدي معروفاً بأسلوبه بين الناس فتراهم يقولون: هذا أسلوب فلان، أو شبيه بأسلوبه، إذا حاكاه مُحَاكٍ في الكتابة، كشأن أبي عثمان الجاحظ، وبديع الزمان الهمذاني، وابن الخطيب الأندلسيّ، وسَوائِهم من عماليق البيان العربيّ الآسِر.
لذلك نقرأ في » البصائر «الثانية كثيراً من المقالات، غيرَ معزُوَّةٍ لأيّ كاتب، فنعرف أنّها كانت لمحمد البشير الإبراهيمي، ولو لم يوقّعها باسمه؛ لأنّ نسْج اللّغة المتفرّدَ هو الذي كان يدلّنا على انتمائها إليه، ولو دُسّتْ لِكاتب آخرَ، على سبيل المغالَطة أو على سبيل التّمويه، لكنّا قضَيْنا، حتماً، بأنّها ما كانت إلاّ من بناتِ عُذْره. وإنّما ندرك ذلك من طبيعة كرائمِ اللّغة المنتقاة، ومن سحْر النسج الأسلوبيّ المستنير بشدّة الحركة، ورِفْعة اللّغة، وجمال الإيقاع، وتقابُل الجمل متسلسلةً منسابةً كالماء الزّلال، الصادر من الينبوع الثّرثار، لدى عرْض الألفاظ وتركيبها...
ونحن نعتقد أنّ الإبراهيميّ، بما أُتيح لذاكرته من عُلُوقٍ مُدْهِشٍ بغريب العربيّة وألفاظها البعيدة عن التناوُل اليوميّ، لم يكن يصطنع في كتابته من تَالِكَ اللّغةِ المخزونةِ في ذاكرته العجيبة إلاّ نسبةً ضَئيلة قد لا تُجاوزُ الرُّبع ممّا يختزن؛ وذلك لإدراكه بأنّه لو استعملها كلَّها، كما كانت عالقةً بحافظته، اَملَ كان فهِمَ عنه كتابتَه إلاّ قليلٌ من المتلقّين، حتّى لا يقالَ عنه: لِمَ لا تكتُبُ ما يُفْهم؟...
ويثْبُتُ هذا الافتراضُ حين نستخلص من نصّ كتبه الإبراهيميّ، عن كثرة محفوظه من الشعر الجاهليّ عرَضاً، وهو في سنّ الثانية والعشرين. فلقد ذكر الشيخ أنّه التقى بالعلاّمة الشنقيطي، والشيخ عبد العزيز الرشيد الكويتيّ بالمدينة المنوّرة، فظلّوا شهراً وكنّا « : كاملاً بها لا يفترقون إلاّ للنوم، قائلاً للأُلْفة التي انعقدتْ بيننا، نتجاذب أطراف الحديث من مسابقات في حفْظ الشعر ولنتمثّلْ رجُلاً يسابق أحمد أمين .»... الجاهليّ الشنقيطيَّ في حفظ الشعر الجاهليّ وهو في ريْعان الشباب!...
وكان الإبراهيمي كثيراً ما يُهيب بالكتّاب الجزائريّين أن يَشْمَخِرّوا، ولو قليلاً، بلغتهم وأساليبهم، حتّى يكونوا في مستوى أسلوب » البصائر « ولغتها، أو قل على الأصحّ: في مستوى أسلوب محمد البشير الإبراهيمي ولغته، ولكنْ هيهات! ولذلك نُلفيه يحدّد لكتاب » البصائر «مجالَين اثنين يضطربون فيهما. فمن خرج عنهما أسَفّ وتدنّى، فيقول:
« للبصائرِ طرَفان: أعلى، وهو معْرِض العربيّة الرّاقيةِ في الألفاظ والمعاني والأساليب. وهو السُّوقُ الذي تُجلبُ إليه كرائمُ اللّغة من مأْنوسٍ صيّره الاستعمال فصيحاً، وغريبٍ يصيِّره الاستعمال مأنوساً؛ وهو مَجْلَى الفصاحة والبلاغة في نمطهما العالي. وهو أيضاً النموذج الذي لو احتذاه الناشئون من أبنائنا الكتّابِ لفَحُلَتْ أساليبُهم، واستحكمتْ ملَكاتُهم، مع إتقان القواعد ووفْرة المحفوظ. ولهذا الطّرَف رجالُه المعدودون. وهو نمَط إعجابِ أدباء المشرق بهذه الجريدة »
فأسُس الكتابة الأدبيّة الراقية لدى محمد البشير الإبراهيمي تمثُل في طائفة من الأسُس، من أهمّها:
1. رُقيّ الألفاظ والمعاني والأساليب. ولا يتأتَّى هذا الرّقِيُّ في نسْج الكتابة الأدبيّة، لكاتب من الكتّاب، حتّى يكونَ ألَمَّ على محفوظٍ غزير من النّصوص الأدبيّة راقٍ؛ إذ لا يُعقل أن ينبُغَ كاتبٌ كبيرٌ وهو لا يحفَظ نصوصاً أدبيّة كبيرة. وجِمَاع الشّأن في هذه المسألة هو ما يُطلِق عليه الشيخ « معرِض العربيّة الراقية» وواضح أنّ بعض المتأدّبين اليوم قد لا يقتنعون بمصطلح » العربيّة الراقية «وهو مجرّد توهّم منهم ومُغالطة، وإقرار بالقصور؛ لأنّ كلّ اللّغات الإنسانيّة الكبيرة فيها مستوياتٌ متدرّجةٌ من التعبير. فلو أخذْنا اللّغة الفرنسيّة مثالاً في ذلك لألفينا لغةَ أناطول فرانس، وأندري جيد، وسَوائهما من عمالقة الكتّاب الفرنسيّين غيرَ لغةِ أيّ كاتبٍ صَحَفيّ فرنسيّ بسيط، أو أيّ روائيّ مبتدئ محروم. وإذن، فلا سواءٌ لغةٌ عالية سائلة تُمتْحُ من ضِئْضِئِ المعين، ولغةٌ بَكِيئةٌ تُؤْخَذُ من نهاية الساقية. فأيّ كاتب كبير إنّما يسْتميز باصطناع ألفاظٍ من اللّغة لا يصطنعها سَواؤُهُ من وجهة، وتكون هذه الألفاظ نفسُها بديعةً قشيبة عالية من وجهة أخرى، قبل أن نتحدّث عن الأفكار التي هي مطروحة في الطّريق، على حدّ مذهب أبي عثمان الجاحظ الذي عرَض في بعض كتاب » البيان والتبيين « تحدّث فيه عن كَلَفِ العامّة بصنف من الألفاظ لا تصطنعها الصفوة الصافية، مثل » البُرْمة «مكان » القِدْر» , والحنطة مكان » البُرّ «، و» الخِيار «مكان » القثّاء «، وهلمّ جرّاً...
ولو جئنا نبحث في اللّغة التي يصطنعها اليوم الإعلاميّون العرب لوجدناها أحَطَّ ما تكون نسْجاً، وأسَفَّ ما تكون ألفاظاً، إلى درجة أنّ بعض الكلمات يصطنعونها فيحسبونها من العربيّة وما هي من العربيّة في شيء، مثل قولهم: » طال «، بمعنى امتدّ إلى...، أو أتَى على... وإنّما هو» طاَوَلَ يطاوِل «وليس » طال يطال «التي لا وجود لها في العربيّة... كما أنّ كثيرا من الجرائد اليوميّة في الجزائر تكتب الثاء، مثلاً، تاءً!... ولا تلتفت إلى اسم» إنّ «فترفعه إلى ما فُوَيْقَ قُنَنِ الجبال! بل ترتكب أخطاء إملائيّةً في العناوين حتّى تعملَ بمبدأ » كذْبة المنبر بلقاء «، فتكتب ما هو بالضاد، بالظاء! واللّه المستعان على ما فرّط النّاس في مكانة العربيّة، على عهدنا هذا!... ونحن نَعجب من القائمين على هذه الجرائد كيف يتجرّءون على إيذاءِ العربيّة، والإساءة إليها، من خلال عبثِهم بقواعدها وإملائها؟... وكيف لم يفكّروا في توظيف أناس يعرفون العربيّة يصحّحون لجرائدهم اللّغة قبل القذْف بها إلى المطابع، ثمّ إلى القرّاء؟...
وإذا كان النّاس أصبحوا يتحمّسون لتأسيس جمعيّات لحقوق الإنسان، وحقوق الحيوان، وحقوق المرأة، وحقوق الطفل... فما كان أولى للغَيَارَى على العربيّة أن يؤسّسوا جمعيّة لحقوقها!...
وبحكم أنّ الإبراهيمي كان رئيس تحرير جريدة راقية، تمثّل مدرسة لغويّة وأدبيّة، فقد كان يومئ، فيما يبدو، إلى بعض هذه الكتابات الرّديئة التي كانت تَرِدُ على » البصائر «فحدّدَ مذهب هذه الجريدة العجيبة في الكتابة... فلْينظرِ النّاظرُ أين كنّا بالأمس، من شأن العربيّة الإعلاميّة، وأين صرْنا اليوم؟
والإبراهيميّ بتحديده مستوى الكتابة الراّقية، حدّد تلقائيّاً مستوى الكتابة الدّنيا، وهي كما يقول: « ما ينحطّ عن تلك المنزلة، ولا يصل إلى درجة الإسفاف. وبين الطّرَفين أوساطٌ ورُتَبٌ تعلو وتنزِل. وهي مُضْطرَبٌ واسعٌ يتقلّب فيه كتّابُنا: من سابقٍ إلى الغاية مستشرِفٍ لبلوغها، ومُقْصِرٍ عن ذلك.»
2. وقد تمثَّل الإبراهيمي اللّغةَ معرضاً قائماً في سُوق أنيقة تُعرض فيها كرائمُ الألفاظ؛ وهو بذلك يكون قد حدّد، تلقائيّاً، مواصفاتِ هذه السّوق الرّفيعةِ التي ليست كأيِّ شيءٍ من الأسواق، تُعرَض فيها أيُّ بضاعة من البضائع ا زْملُجَاة؛ بل هي سوق تُجْلب إليها كرائمُ ألفاظِ العربيّة المؤتنقة، وعقائِلُ المفردات المؤتلقة...
وقد يكون الإبراهيمي أوّلَ من أطلق صفة الكرائم على الألفاظ العربيّة الراقية، فشبّهها ببنات الأكارم والأكابر من النساء؛ فإنّما تطلق الكريمة والعقيلة على المرأة الشريفة الحسيبة. فالكريمة تطلق في العربيّة على أرقَى الشيء وأجودِه مكانةً، وأشرفِه منزلةً. واَملّ فكّر الإبراهيمي في صفة بديعة تظاهره على أن يصفَ بها ألفاظ العربيّة العالية لم يجد شيئاً غيرَ صِفَةِ » الكرائمِ «فوصَفَها بها تعظيماً من شأن اللّغة، وتشريفاً لمنزلتها؛ وذلك بحكم أنّها مفتاح المعرفة، وأنّها الأداةُ الأولى للتواصل بين الناس في المجتمعات المتحضّرة. وأنّها، بالإضافة إلى ذلك، وبالقياس إلى المسلم، هي مفتاح الإيمان بتمكينه من فهْم نصّي القرآن والحديث، وهما أرقَى وأعلى ما في نسْج العربيّة على الإطلاق... وبمنْحِ هذه الصفة الكريمة لضرْبٍ من ألفاظ اللّغة خرج عن ذلك، منها، كلُّ ما لا يمكن أن ينضويَ تحتها من الألفاظ السّوقيّة، والكلمات التي ابتذلها الاستعمال فأفقدها ما قد يكون كان في أصلها من بهاء وجمال.