ذكريات جزائرية: البشير الإبراهيمي
بقلم: علي الطنطاوي -
أستعير هذا العنوان من الأستاذ أكرم زعيتر، فقد كتب تحته ذكرياته الجزائرية، وأنا لي أيضاً ذكريات جزائرية، ولكن شتّان ما بينهما، وكم بين من ينفق من كيس مملوء بالذهب ومن كان مثل المتنبّي: «أمواله المواعيد»!
وأنا لا أحسده ولكن أغبطه على أنه يرجع إلى يوميّات كُتبت في حينها، يستند إليها ويعتمد عليها، واعتمادي على ذاكرة تَعِدُ ولا تفي وتُستودَع ولا تؤدّي، وهو مع علية القوم الذين يشتركون في تأليف الرواية ووضع حوارها، وأنا مع المتفرّجين بها (بها لا عليها). كلانا يصف مرحلة سفر واحدة، ولكنه في غرفة القيادة وأنا بين الركّاب.
أنا لم أزُر الجزائر، ولكن ربطني بها فوق رابطة الإسلام ورابطة العروبة أساتذةٌ لنا منها، كالشيخ المبارك، والأستاذ علي الجزائري الذي كان إماماً في لغة الفرنسيين يرجعون هم فيها إليه، وكنّا ندعوه «السيد علي»، وأستاذ الأساتذة أحمد جودة الهاشمي، والفاضل الذي كان أستاذه يوماً وصار مدير مدرستنا: محمد علي الجزائري، ومن قبلهم مربّي الشام وأحد بُناة نهضتها الشيخ طاهر الجزائري، والشيخ البشير الإبراهيمي الذي طالت صحبتي إياه، في دمشق عندما كان يزورها (وما أكثر ما كان يزورها) وفي عمان مرات، وفي القدس وفي بغداد. وطالما خطبت في الحفلات التي كان يخطب فيها، وهو عالم طلق اللسان ناصع البيان، يتدفّق الكلام من فيه تدفّقاً بلا لحن ولا زلل.
وقد كنّا يوماً معاً في سيارة واحدة من القدس إلى دمشق، وكنت إلى جنب السائق حيث تعوّدت أن أركب دائماً (حتى إني إن ركبت داخل السيارة توهّمت أنه دار رأسي وضاق نفَسي). وكنّا نتحدّث، فتعبَت رقبتي من الالتفات إليه لأنني لم أكُن أتلو بيتاً من الشعر إلاّ قال: إنه لفلان الشاعر من قصيدة كذا، وسرد عليّ القصيدة كلها أو جلّها.
فقلت: كيف حفظت هذا كله؟ قال: وأخبرك بأعجب منه، فهل تحبّ أن تسمع؟ قلت: نعم. فراح يقرأ عليّ مقالات لي كاملة ممّا نُشر في «الرسالة» أو مقاطع كثيرة منها، ما كنت أنا نفسي أحفظها. قلت: يا سيدي، الشعر فهمت لماذا تحفظه، فلماذا حفظت مقالاتي وما هي من روائع القول ولا من نماذج الأدب؟ قال: ما تعمّدت حفظها، ولكني لا أقرأ شيئاً أحبّه وأطرب له إلاّ علق بنفسي فحفظته.
فأظهرت (صادقاً) العجب منه والإعجاب به، وأضمرت في نفسي حقيقة استحيَيت أن أجهر بها، هي أنه مرّ عليّ دهر كنت أنا فيه كما قال. وأنا لا أزال أحفظ مقاطع كثيرة ممّا كتب المنفلوطي والرافعي والزيات والبشري وكرد علي وأمثالهم من أئمة البيان، مع صعوبة حفظ النثر وتفَلّته من الأذهان. أمّا ما أحفظ من الشعر فكثير كثير، وإن لم يبقَ منه إلاّ القليل، على أن هذا القليل الذي بقي في ذهني كثير والحمد لله.