ذكريات جزائرية: الأمير عبد القادر وأبنائه
بقلم: علي الطنطاوي -
وممّا حبّبني بالجزائر أن جدّنا الذي قدم الشام من مصر سنة 1250هـ كان من جماعة الأمير عبد القادر، وكان مربّياً لأولاده، وكان مفتياً عنده يأخذ راتبه منه، فلما مات الأمير قبله بمدّة يسيرة أبى أن يتسلم الراتب الذي جعلَته له الدولة، وطفق يبيع من كتبه ما يعيش بثمنه حتى توفّاه الله.
وما نقله الأستاذ أكرم من حديث العقيد عطاف الجزائري عن الرئيس شكري بك كنّا نسمعه من الثوّار أيام الثورة السورية سنة 1925، وكنّا طُلاّباً في الثانوية.
ولقد سمعت من عمّي الشيخ عبد القادر الطنطاوي من قديم خبراً ما حقّقته ولا توثّقت منه، هو أن أصل أسرتنا من الجزائر. ولعلّ ما عندنا من الحِدّة يشير إلى ذلك، وقد كان جدنا الشيخ محمد الطندتائي (وطندتا هو الاسم القديم لطنطا) يذكر الجزائريين مرة أمام الأمير ويثني على خلائقهم وسلائقهم، واستثنى واحدة. فصرخ به الأمير وقد اعتراه غضب مفاجئ فقال: "وِشْ هيّه؟ " قال جدّنا باسماً: "هذه هيه".
يعني هذه الحدّة التي عُرف بها الجزائريون والتونسيون، والتي ورد في خبر لم يصحّ أنها تعتري خيار أمّة محمد عليه الصلاة والسلام. ومن كان حديد المزاج (يثور بسرعة وتهدأ ثورته بسرعة) لا يكون ماكراً ولا حاقداً ولا يكون في قلبه غِلّ على أحد، لأنه يوفي كل واحد حسابه من ساعته فلا يبقى له عند أحد دَين يحقد عليه به.
وكان للأمير أحفاد في دمشق أدركت منهم اثنين وانعقدَت المودّة بيني وبينهما، وإن كنت في سنّ أولادهما: الأمير طاهر الذي كان له مجلس أسبوعي يحضره كما يحضر أمثالَه (وكان لهذا المجلس أمثال في دمشق) أكابرُ الوجهاء وأفاضلُ العلماء. والأمير طاهر هو والد الصديق الأمير جعفر الذي لبث أمداً طويلاً أمين المجمع العلمي العربي في الشام.
والثاني هو الأمير سعيد الذي كانت صلتي به أوثق، وكنت أزوره في داره في زقاق النقيب ويتفضّل فيزورني في داري في الجبل. وفي زقاق النقيب كانت دار الأمير عبد القادر الجزائري التي صارت بعدُ الكلّية الشرعية، ودرّست فيها، ثم اشتراها السيد مكي الكتاني.
صحبت الأمير سعيداً في السفر والحضر وعاشرته معاشرة عرفته فيها من قرب. والأمير سعيد هو الذي أعلن قيام الحكومة العربية في الشام سنة 1918، يوم كنت تلميذاً في آخر المدرسة الابتدائية وأول المدرسة التالية، وبقي يأمل أن تقوى الدعوة إلى الملَكية في الشام وأن يكون هو الملك عليها. وعرف ذلك ناسٌ هم في البشر كالطُفَيليات في الحشرات والنباتات: تعيش على غيرها، تمتصّ من الحيّ دمَه ومن النبات نسغَه وتتسلّق على ساق الشجرة لأنها حُرمت الساق الذي تقوم عليه، وأخذوا منه جليل الأموال، وأغراه بعضهم فجاء بالنقّاش والمصوّرين فجعل من داره نموذجاً مصغراً للحمراء في غرناطة.
ثم أنشأ على سفح الجبل في دمّر (وهي أقرب مصايف دمشق إليها) أنشأ قصراً عجيباً: له أدراج ملتوية تصعد من الجانبَين تلتقي وتفترق، وكلّما التقت قامت بِركة مزخرَفة فيها نوافير عجيبة. ومن أعظم مآثر العرب براعتهم في الصناعات وفي النوافير خاصة، وفي الساعات. أمّا الكلام عن الساعات وما أبدعوا فيها فله مكان غير هذا المكان، وأمّا النوافير فأضرب لها مثلاً واحداً: دخلت على عهدي بالدراسة في دار العلوم سنة 1928 متحف الفنون الإسلامية في ميدان باب الخلق في القاهرة، فرأيت هذه النوافير، فقال لي قيّم المتحف: إذا قعدت على هذا الكرسي ترى عجباً. فقعدت ففتح الصنبور، فإذا الماء من حولي كأنه قبّة متّصلة مبنيّة من الزجاج، تتكسّر عليها الأنوار فتضيء كأنها جوهرة كبيرة، وأنا فيها لا تصيبني قطرة من الماء!
لقد أضاعت هذه الزخارفُ وأضاع تمنّي المُلك ثروةَ الأمير، فبيع القصر وصار حيناً مقهى. كما ضاع في الحمراء سلطان المسلمين في الأندلس حين بعنا حقائق المجد بنقوش وزخارف تُبهِج الأبصار، ولكنها لا تحمي الذمار ولا تدفع الأعداء عن الديار.
وممّا يتصل بحديث الأمير وحديث الجزائر أن وفداً عربياً فيه من العراق الشيخ أمجد الزهاوي وجماعة، وفيه من لبنان الرجل الذي أنشأ «النَّجّادة» المسلمة ليقابل بها الكتائب النصرانية (وقد نسيت اسمه وهو مشهور)، مرّ هذا الوفد في دمشق في طريقه إلى مصر لمقابلة جمال عبد الناصر وحثّه على نصرة الجزائر في جهادها، وكان ذلك قبل أن تستقلّ الجزائر، فانتخبوا اثنين من الشام ليكونا فيه هما الأمير سعيد وأنا.
وقد ذهبنا إلى مصر وقابلنا جمال عبد الناصر مقابلة طويلة في دار صغيرة لم أعُد أعرف أين هي. وقد استولى علينا بما توهّمناه صراحة كاملة في الحديث، وإخلاصاً نادراً لله وللإسلام، وشبه سذاجة فيه. ورجعنا نثني عليه ونرى فيه المثل الكامل للحاكم المرجوّ، ثم تبيّن أننا الذين كانوا السذّج المخدوعين، وأنه لعب بنا وضحك علينا ولفّنا بلسانه المعسول. وأُخِذت لنا معه صورة تذكارية هي عندي، ولكنها اختفت الآن بين أوراقي.
* * *