أمة في رمة
بقلم: محمد الهادي الحسني-
وصف الله- عز وجل- إبراهيم الخليل- عليه السلام- بأنه “كان أمة”، وشهد الله- سبحانه وتعالى- لخليله بأنه “وفّى”، وهو وصف جامع لكل ما يقوم به المؤمن من مأمورات، وما يجب عليه اجتنابه من منهيات.
ووصف الإمام الإبراهيمي أخاه الإمام ابن باديس بأنه “كان أمة في رمة”. وشهد الجزائريون بأن إمامهم، الذي عاهد الله- عز وجل- وعاهدهم على أن يعيش للإسلام وللجزائر، قد “وفى” بعهده كاملا غير منقوص، ما جعل الشيخ الشهيد العربي التبسي يقول ما معناه: إذا كان ابن باديس جسّد الجزائريين، فليجتهد الجزائريون في أن يجسدوا ابن باديس.
فتح الإمام ابن باديس عينيه، فرأى مجتمعين مختلفين، أحدهما مجتمع جزائري سليم العقيدة، عربي الانتماء، ولكنه مجتمع متخلف في جميع المجالات..
والآخر، مجتمع أوروبي نصراني العقيدة، مع أقلية تدين باليهودية. وهذا المجتمع “متقدم” علميا، واقتصاديا.
لاشك في أن الإمام تساءل عن هذا التنافر الجنسي، والديني، واللغوي، وعن سبب “تقدم” المجتمع الأوروبي- اليهود”- وتخلف المجتمع الجزائري.. وهو التساؤل الذي طرحه كثير من المسلمين، وصاغه شكيب أرسلان، في كتابه المشهور: “لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟”.
لاشك أيضا في أن ابن باديس سمع وقرأ ما يزعمه الغربيون من كون هذا التخلف الجزائري، والإسلامي عموما هو “حتمية” جغرافية، أو عرقية، أو لغوية، أو دينية”، وأن هذه “الحتمية” لا فكاك منها. ولهذا، فلا خروج من هذا التخلف، وأن هذه المجتمعات غير الأوروبية ومنها العربية والإسلامية “خلقت للعبودية”، وقد صاغ الشاعر العراقي، معروف الرصافي، ما قاله الغربيون من كون الإسلام هو سبب تخلف المسلمين بقوله:
يقولون في الإسلام ظلما بأنه
يصد ذويه عن طريق التقدم
ثم يناقشهم بأن مقولتهم غير صحيحة، لأنه لا يعقل أن يكون الإسلام الذي سبق أن أنتج حضارة متقدمة في جميع المجالات هو نفسه مصدر هذا التأخر، فقال:
فإن كان ذا حقا فكيف تقدمت
أوائله في عهده المتقدم
ثم يضع يده على علّة العلل، وداء الأدواء في هذا التخلف، وهو “الجهل”، فقال:
وإن كان ذنب المسلم اليوم جهله
فماذا عن الإسلام من جهل مسلم؟
قدر الله- عز وجل- أن يجمع بين هذا الشاب- الإمام- والشاب- الإمام محمد البشير الإبراهيمي، في أطيب بقعة ضم ثراها أعظم الأعظم الطاهرات، وهي أعظم محمد بن عبد الله- عليه الصلاة والسلام- وكان ذلك في أوائل العقد الثالث من القرن العشرين. وبعد أن تذاكر الشابان- الإمامان في أمر دينهما، ووطنهما، وشعبهما تعاهدا، وعاهدا الله في تلك البقعة المباركة، على أن يكون قابل أيامهما مكرسا لإيقاظ الضمير الجمعي لشعبهما، ويذكر إلى العاقلين منه، وينبها الغافلين، ويهزا الجامدين، ويفضحا الخائنين..
كانت الوسيلة التي اتفقا على استعمالها هي “العلم”، ومصدر العلم- بأوسع معانيه- هو “القرآن الكريم”، وهو ما أمر الله- عز وجل- رسوله- عليه الصلاة والسلام- أن يجاهد به، قبل أن يأمره بالجهاد المسلح، وذلك في وقوله تعالى: “وجاهدهم به”.
لقد “أفسد” الله- عز وجل- عمل فرنسا الفاسد المفسد في الجزائر بهذا الرجل الصالح المصلح، ومن آمن معه بـ “الإسلام ديننا- العربية لغتنا- الجزائر وطننا”، وهو ما سمّوه “المقومات التي لا تكون الجزائر جزائر إلا بها”، وما نسميه اليوم “الثوابت الوطنية”.
لقد آثر ابن باديس- وصحبه الكرام- مصلحة دينهم، وشرف وطنهم، ومجد شعبهم على أنفسهم، ولم “يتاجر” بذلك، وإنما كان صادق العهد، مخلص العمل، فأحبه الله- وأمر ملائكته أن ينادوا بحبه في الملإ الأعلى، وفي أكثر شعبه، فكان من “الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا”. ولم تستطع فرنسا أن تحقق ما خططه كبار شياطينها من عسكريين، وسياسيين، ومفكرين، ومستشرقين، ورجال دين.. وعندما جاءه اليقين، قال العارفون به، ومريدوه، على لسان بلبلهم الصداح، محمد العيد آل خليفة:
نم هانئا فالشعب بعدك راشد
يختطّ نهجك في الهدى ويسير
لا تخش ضيعة ما تركت لنا سدى
فالوارثون لما تركت كثير
ولهذا، عندما نطق الرصاص، وجرى القصاص، وأسمع الشعب الجبار فرنسا الصامد أنه قرر أن يطوي صفحتها في الجزائر، بل في “إمبراطوريتها” الفاسدة المفسدة، قال مسئولو “أمنها” في أحد تقاريرهم لسنة 1958: “إن ابن باديس هو المسئول عن “حوادث 8 ماي 1945 وأول نوفمبر 1954، رغم أن الإمام قد غيبه القادر قبل هذين الحادثين بخمسة أعوام عن أولهما، وأربعة عشر عاما عن ثانيهما..
وإذا كانت فرنسا قد أطلقت أسماء بعض الجزائريين على شوارع أو ساحات في فرنسا، فإنني أجزم بأنها لن تسمي شارعا أو ساحة أو معلما باسم الإمام عبد الحميد بن باديس.
رحمك الله- أيها الإمام الهمام، وجعل اسمك للخلود، وروحك للخلد والجنان، وأسماء شانئيك للنسيان، وأجسام أعدائك للنيران.