المصلح الشيخ إبراهيم بن عمر بيّوض.. عَلمٌ ومنارة
بقلم: لمباركية نوّار-
الشيخ إبراهيم بن عمر بيوض ومن أدراك من هو الشيخ إبراهيم بن عمر بيوض!؟.
يفضي بنا النظر الممعن في جوانب من مسيرة حياة الشيخ إبراهيم بن عمر بيوض القراري (21 أبريل 1899 ـ 14 يناير 1981م)، يفضي إلى اكتشاف كُنه تجربة ثرية في العمل الإصلاحي الديني والتربوي والاجتماعي والأخلاقي. ويدرك المعاين بعين ممحّصة وحدقة ثاقبة لمنجزاته مدى ضيق الهوة الفاصلة عنده بين التنظير والفعل، وتنفتح أمام عقله حالة شعورية خارقة ومبهرة وفياضة بمعاني التفوّق والارتقاء.
لو يعاد توزيع علامات التقويم على رجالات الإصلاح في الأزمنة المتأخرة وفق معايير تقوم على الإنصاف، وتحسن الوزن والتقدير، وتحتكم إلى الموضوعية، وتنفر من المحاباة، وتستحضر الظروف البيئية العصية ونتوءات الطريق المنتصبة كالمسامير الحادة، لكتب للشيخ إبراهيم بيوض سيد الإصلاح بالجنوب الجزائري أن يفوز برتبة متقدمة وذات مقام راق وعال بين صفوة مصلحي عالمنا العربي الإسلامي بجناحيه المشرقي والمغربي.
بنى الشيخ إبراهيم بيوض أبراج وصوامع وقلاع حركته الإصلاحية المباركة على أسس متماسكة وأعمدة متينة وجدر صلبة، وسار بها جنبا إلى جنب بعقل متنبه في ركب الإصلاح الذي عمّ أرض الجزائر، وتردد صوت صداه في أرجائها، وواكبه مواكبة الفاعل المستنير من دون أن يفرط في خصوصية مجتمعه التي جعل منها ملاطا لتقوية البنيان وتراص لبناته وإبقائه مشدود الأركان وممتدا في الزمان.
لا يكتب الجهاد جهادا إلا إذا واجه العوارض والشدائد وألحق بها الهزائم، وصمد أمام النوازل المزعجة صمود الجبال الراسيات، وأضعفها وأرجعها القهقرى في صبر وثبات وإن طالت منازلتها. ولما كان الشيخ إبراهيم بيوض وصحبه المخلصين من شريحة المجاهدين المتجلدين، فإن الإصلاح الذي رهنوا أنفسهم له لم يكن مجرد ترميم أو تلميع لوضع موروث للبلوغ به درجة مرضية من التحسين. وإنما كان معركة شرسة ضد زمرة التقليديين المتمسكين بأعرافهم المعوجة والمتشبثين بنظرتهم البشعة إلى الحياة في حاضرها ومستقبلها، ورفضهم لأدنى رجة أو أصغر خلخلة تغييرية صوب المرتقى الوجودي الذي ينافي الغرق في الماضوية ويرفض الولوج إلى ساحة التجديد. ولا ننسى وجود استعمار ماكر وخبيث يتحسس بمِجساته مفعول ونتائج كل فكرة قبل سريانها بين الناس، فيسارع إلى توقيفها ومعارضة أصحابها إن رأى فيها معاكسة لمخططه، ولا يسمح لها بأن تنمو بعيدا عن أهدافه المسمومة.
بعد أن مسح الشيخ إبراهيم بيوض يديه من تراب قبر شيخه الحاج عمر بن يحي سنة 1921م الذي توفي عن عمر ناهز ثلاث وستين سنة بعد إصابته بجائحة التيفوس، غاظه أن تتوقف المسيرة النهضوية الواعدة لمؤدبه النصوح الذي ربط مشواره فيها بمشاوير من سبقوه من طلائعي الإصلاح في تلك الربوع حتى وإن تميزت بالتلكؤ والسير الأعرج أحيانا، وبالتباطؤ والتثاقل أحيانا أخرى، وكان هو نفسه أولى ثمراتها الزكية الناضجة. فنفض مذرويه، وشمر على ساعديه، وأخفض كتفه لحمل الأمانة التي بقيت بين يدي أبناء جيله كوديعة يصعب التخلي عنها أو التفريط فيها. وألزم نفسه، رغم صغر سنه وبكل ما يملك بين جنبيه من ذكاء متوقد وإرادة قوية وحماسة شبانية، أن يتقدم الصفوف مصمما على إكمال الطريق، والعبور بعملية الإصلاح من اليباب إلى الخصوبة، ومن الارتخاء إلى الصلابة. واستطاع أن يجمع كلمة إخوانه الواقفين حوله، وأن يمضي بهم من شفة الوجوم والجثوم إلى ضفة الوثب والحركية النشطة، وأن يجرهم من من التردد إلى الإقدام.
ارتكز البرنامج الإصلاحي للشيخ إبراهيم بيوض على العقلانية والتدرج والانفتاح والأخذ بالمستجدات في جوانبها الصالحة والنافعة. وانطلق يروّض طموحه ويغذيه شيئا فشيئا بعد كل خطوة يخطوها ويكتب لها النجاح. ولم يعلق المرامي المأمولة التي رسمها بين عينيه على أهداف خيالية أو تعجيزية لن يستطيع لها طلبا أو وصولا أو لحاقا. وأخضع مشروعه للإمكانات والوسائل المتجمعة بين يديه حتى لا يصاب بالخيبة والخسران والإخفاق وهي مقدمات كل نكوص وهزيمة.
كان الشيخ إبراهيم بيوض رجلا راقيا في نخبويته نظرا لحصيلته العلمية والثقافية الواسعة، وسعة إلمامه وحدة فهمه للواقع المعيش. ومع ذلك، لم يوجه عمله الإصلاحي توجيها نخبويا محصورا، وإنما سار به سيرا أفقيا ملامسا لكل الطبقات الاجتماعية رفيعها ووضيعها، مثقفها والمستلقي في أميته حتى لا تكون الغلال مزجاة، ولا يكون الجني محدودا.
تواضع الشيخ بيوض أمام كل أبناء مجتمعه، وقادهم قيادة هينة وبرفق، وأشعل في قلب كل واحد منهم مخزون الطاقة الكامنة فيه بقدر ما يتحمله حتى لا يكون سببا في تنفيرهم أو دفعهم للانسحاب من القافلة. ولم يبن فواصل أو يحفر فوالق بينه وبينهم، وأرخى أذنيه، وهو صاحب الصدر الواسع، لسماع آرائهم والإصغاء إلى أنين كل مكلوم أو مظلوم أو متوجع. وكان يستقبل كل ما يصدر منهم من غير ضجر أو تذمر، ويجعل من قضية كل واحد يأتيه باكيا نائحا قضيته التي يلاحقها حتى حلها. وقد سمعت أن أحد ملازميه من أقران مسيرته المظفرة، وهو الشيخ الملقب باسم: “لقمان الحكيم”، والد الدكتور البحاثة في المخطوطات عمر لقمان سليمان بوعصبانة الذي غادرنا منذ أيام قريبة، كان مشدوها من صبر الشيخ إبراهيم بيوض أمام كثرة الشكاوى التي تصله يوميا وبلا انقطاع، حتى قال يوما: (عجبا وألف عجب لعقل وقلب هذا الرجل… فأنّى له أن يتابع كل القضايا والمشكلات إذا كان كل واحد من أبناء مجتمعه لا يرتاح له بال، ولا يهدأ له روع إذا ضاع أو تاه حماره أو أتانه في البراري أو في الجنانات إلا إذا ألقى الخبر في أذن الشيخ بيوض !!؟).
للمسجد في مدائن وادي مزاب مكانته المرموقة. وإن شوهد أن بناءه يستقر في ذروة الربوة أو الهضبة التي تتسلقها مساكن البلدة، وتذهب في صعود متدرج ومنتظم حتى ملامسته، فإن الشيخ إبراهيم بيوض جسد الشق الإجرائي لهذه الرمزية المادية البارزة، ووظفها في الجمع والتوجيه، وفي القيادة والإعلام حتى أصبحت الكلمة التي تصدر من المسجد نافذة ومؤثرة، ولا يمكن أن تقابل بالإعراض والمعارضة والاختراق والخلاف. وما تزال هذه النظرة الاعتبارية مؤثرة إلى يومنا هذا. ومن يتجرأ على مخالفتها أو معاكستها يكون قد شق عصا الطاعة عن الجماعة، ولا يلومن إلا نفسه من عواقب العقاب النفسي الجماعي الذي يسلط عليه.
سرعان ما انطلق الشيخ إبراهيم بيوض في التعليم الذي يعتبر عماد كل عمل إصلاحي متخذا من داره الضيقة فضاء يجتمع فيه مريدوه من المتعلمين. ولم يفكر في البحث عن مكان أرحب يرتاحون فيه إلا بعد أن تزايد عدد المترددين على خلوته وتضاعف. وحينئذ، انتقل إلى التعليم الحلقي الكثيف نسبيا في المسجد الذي لم يكن على نفس الهيئة التي نراها عليه اليوم من حيث مساحته وسعته وحتى نمط بنائه. ولما كان تفكيره يواكب الزمن الذي يعيش فيه، قام بإنشاء مدرسة عصرية حرّة سنة 1925م، سمّاها: “معهد الحياة”. وكم يحمل هذا الاسم المختار من دلالات ومعان؟؟. وما أن ذاعت سمعة هذه المدرسة الفتية، حتى تتقاطر عليها طلبة العلم من بقية مدائن وادي مزاب ومن القرى القريبة منها. وغدت بلدة القرارة المؤنسة عاصمة للإصلاح في الجنوب الجزائري. ومايزال هذا المعهد محافظا على سمو مكانته بعد أن طوى مايزيد عن قرن ميلادي من صفحة الزمن. ومن رحاب أقسامه العامرة تخرّجت أفواج طلائعية من رجالات الإصلاح الذين تصدوا للقيام برسالة التربية والتعليم في بقية مدائن وادي مزاب ذات التاريخ الأثيل.
يزاوج التعليم في معهد الحياة بين العلوم الدينية والعلوم الدنيوية بغرض تشكيل شخصية المتعلم تشكيلا متوازنا، وإبعادها عن الانسلاخ والذوبان والانحراف نحو الإغراءات. ولا تنغلق مضامين مناهج مواده أمام كل جديد يحمل فائدة تكوينية تثري مكتسبات طلابه، وتوسع من معارفهم المحصلة، وتزودهم بما يحتاجونه في حياتهم وفي معاملاتهم.
جلس الشيخ إبراهيم بيوض، رحمه الله، في مسجد القرارة العتيق يفسر كتاب الله منذ سنة 1921م مستعينا بتفاسير من سبقوه. ولكن انتظامه في تفسيره بدأه في شهر ماي 1935م بشكل متسلسل ومتلاحق بدءا من سورة “البقرة”، ولم ينقطع عنه إلا إذا منعه عارض طارئ، وختمه بسورة “الناس” في يوم الجمعة الثالث والعشرين ماي 1980م. وما يؤسف له هو أن الشطر الأول من تفسيره ضاع وإن بقيت أجزاء قليلة منه مسجلة في كنانيش بعض طلبته المواظبين. وكان سبب الضياع هو فقدان أجهزة التسجيل الصوتي وقتذاك وافتقار بلدته القرارة إلى الكهرباء التي لم يوهج مصابيح بيوتات قاطنيها إلا في سنة 1959م. وبفضل الجهود المضنية لصاحب الفضل عيسى بن محمد الشيخ بلحاج، أفرغت أشرطة التسجيل المنطوقة على الورق، وظهر التفسير المبتور في ثمانية وعشرين كتابا بحجوم متفاوتة، وتحت عنوان: “في رحاب القرآن”.
لم ينقطع صوت الشيخ إبراهيم بيوض عن مسجد القرارة بعد رحيله، وما يزال يصدح كل يوم جمعة قبل الصلاة برقته ورنته الناعمة وعذوبته التي تأنس بها الأذان وتستلذها طبلاتها وببحته الخفيفة التي لم تعكر صفاءه، والتي لا يتوقف عن مطاردها، بين الحين والحين، بسعالات إرادية يدغدغ بها حنجرته لإزالتها. وما يزال رواد المسجد حتى من الأجيال المتأخرة التي لم تتعرف إليه تصغي إليه في انتباه، وتتابعه بلا تمتمة أو ضجيج. وأما من عاصره من الأحياء فأخالهم يستمعون إليه وهم يستحضرون رهبته وهيبته مع كل حرف ينطقه أو جملة يتلفظ بها. وفي دروسه التفسيرية، ومن أجل أن يبلغ إلى شريحة واسعة من المتلقين، فإنه يتعمد أن يخلط في حديثه اللغة الفصحى باللسان الدارج مع قليل من اللهجة المحلية.
رحم الله المصلح الكبير الشيخ إبراهيم بن عمر بيوض برحماته الفياضة، وجزاه خيرا عن جهاده في سبيل الجزائر الذي يصعب تجريحه من طرف كل شانئ أو مبغض.