الشيخ عمر دردور المجاهد الصادق والمربي الحكيم
بقلم: عبد الحميد عبدوس-
عن عمر ناهز 96 سنة انتقل العالم الرباني الشيخ عمر دردور إلى دار البقاء، فقد توفي في يوم الخميس 19مارس 2009 فوافق تاريخ وفاته ذكرى عيد النصر، ودفن بعد صلاة الجمعة في مقبرة مدينة تازولت بحضور جمع غفير من المشيعين من السلطات المحلية والمواطنين، وأبنه الدكتور عمار طالبي نائب رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين نيابة عن الشيخ عبد الرحمن شيبان رئيس الجمعية آنذاك الذي منعته ظروفه الصحية من حضور الجنازة والذي انتقل هو بدوره إلى رحمة الله في يوم الجمعة 12 أوت 2011.
كان الشيخ عمر دردور من أنجب تلاميذ رائد النهضة الجزائرية الحديثة الإمام عبد الحميد بن باديس الذي عينه في 1934 عريفا على تلامذة منطقة الأوراس. التحق الشيخ دردور في 1932 بجامع الأخضر بقسنطينة، وزامل في دراسته طلبة علم أصبحوا بعد تخرجهم علماء أجلاء في الجزائر وفي العالم الإسلامي منهم الشيوخ: أحمد حماني والفضيل الورتلاني وعمار مطاطلة ومحمد الغسيري ومحمد الأكحل شرفاء ومحمد الصالح رمضان .. مكث الشيخ دردور في الجامع الأخضر بين الدراسة والتدريس سبع سنوات، وكان أستاذه الإمام ابن باديس قد كلفه في سنة 1937 بالتدريس لطلبة مسجدي سيدي قموش وسيدي بومعزة بقسنطينة .
تعرفت على الشيخ عمردردور في سنة 2006 بمناسبة تكريم العلامة الراحل الشيخ عبد الرحمن شيبان الرئيس السابق لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين في مدينة باتنة من طرف جمعية التاريخ والتراث الأثري التي كان يترأسها آنذاك الباحث والمؤرخ الأستاذ مختار فيلالي وتضم في عضويتها عددا من المثقفين البارزين منهم المؤرخ المجاهد محمد الطاهر عزوي، فقد كنت من بين وفد جمعية العلماء الذي رافق الشيخ شيبان في هذه الرحلة الثقافية، وقد سبق لي أن سجلت انطباعاتي في جريدة البصائر عن هذه المناسبة الكريمة التي غمرنا فيها أهل باتنة الكرام بلطف ترحيبهم وفيض كرمهم ومنهم المفكر الإسلامي البروفيسور بدر الدين زواقة رئيس شعبة باتنة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين آنذاك، وقبل العودة إلى الجزائر العاصمة نزلنا ضيوفا على سراج الأوراس الشيخ عمر دردور الذي كان في أغلب فترات الزيارة مطرقا مستغرقا في صمت يزيده هيبة وحكمة، كان مضيفنا شيخا ربانيا ورعا وقورا زاهدا حسن السمت جميل الهندام، وتسابق أهل بيته ومساعدوه على إكرامنا وإجلاسنا بجانبه لأخذ بعض الصور التذكارية مع الشيخ الذي يعتبر من رموز الحركة الإصلاحية في الجزائر.
ولد عمر دردور بقرية حيدوس ببلدية ثنية العابد من دائرة أريس بولاية باتنة في 13 أكتوبر 1913، دخل الكتاب بمسقط رأسه وبدأ حفظ كتاب الله سنة 1918 على يدي والده ثم جده فختمه في عامين الختمة الأولى، وفي 1925 ختم القرآن الكريم الختمة الثالثة وعمره لا يتجاوز الـ12 سنة، وفي 1926 تعلم مبادئ علوم اللغة العربية وعلوم الشريعة في زاوية سيدي عبد الرحمن الزموري بحيدوس وفي سنة 1930 انتقل إلى زاوية سيدي علي بن عمر بطولقة بولاية بسكرة ومكث بها إلى نهاية سنة 1931، وفي 1936 أسس الشيخ عمر دردور بقرية حيدوس الشعبة الأوراسية لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين مع مجموعة من الطلبة وعلماء المنطقة، وقاموا بنشاط جبار في ميدان تأسيس الجمعيات الدينية ومدارس ونواد إصلاحية مع التعليم المسجدي لغرس روح الدين والأخوة وحب الوطن في المجتمع.
في 19 أكتوبر 1937 زجت به السلطات الفرنسية في سجن باتنة بتهمة تحريض الجماهير على العصيان المدني، وفي 06 جانفي 1938 برأته المحكمة تحت ضغط الجماهير الغاضبة المتظاهرة حول محكمة وسجن باتنة، وقد حضر جلسة المحاكمة الإمام عبد الحميد بن باديس بنفسه والشيخ خير الدين، رفقة بعض أعيان منطقة الأوراس منهم الشيخ الطاهر مسعودان والشيخ التهامي بن فليس المدعو سي بلقاسم (والد الأستاذ علي بن فليس رئيس الحكومة الأسبق) والشيخ العوفي سي أحمد بن عثمان وجمع غفير من سكان الأوراس المتوافدين من كل أرجاء الناحية لحضور المحاكمة الجائرة .
في شهر أوت 1939 أعيد الشيخ عمر دردور إلى السجن وحكم عليه بأربعة أشهر سجنا نافذا مع غرامة مالية، وخرج من السجن في سبتمبر 1939 مع اندلاع الحرب العالمية الثانية.
كان الإمام عبد الحميد بن باديس يحث طلبته على أن يكونوا مثل زميلهم عمر دردور، وكان الشيخ عمر دردور بدوره وفيا لشيخه مقتفيا أثره في فكره وسيرته ومنهجه الإصلاحي والحياتي والنضالي، إذ فضل العمل في إنشاء المدارس والمساجد والمعاهد وتكوين الرجال وتوجيه الأجيال بدل تأليف الكتب والانزواء في أبراج التأمل والتفكير، فقضى سنوات من عمره قبل اندلاع ثورة التحرير المجيدة في التعليم المسجدي وإصلاح ذات البين وتوعية الجماهير والتوجيه الديني والإصلاحي والسياسي مع محاربة الدجل والشعوذة وتهيئة النفوس لتشرب فكرة تحرير الجزائر من نير الاحتلال الفرنسي الغاشم، بعد الحرب العالمية الثانية التحق الشيخ عمر دردور بحركة انتصار الحريات الديمقراطية وكانت له لقاءات ومشاورات مع أسد الأوراس الشهيد البطل مصطفى بن بولعيد.
مع اندلاع ثورة التحرير في 1954عمل بمنطقة تازولت في إعداد مراكز التموين والمخابئ والمستشفيات لاحتضان المجاهدين، وفي جويلية 1955 كان ينوي حضور جلسة محاكمة القائد الثوري مصطفى بن بولعيد بقسنطينة، ولكن بعد اكتشاف أمره بسبب وشاية غادر الوطن مسافرا بشهادة طبية إلى فرنسا حيث استقر في مدينة فيشي، وعمل على تطبيق برنامج جبهة التحرير الوطني في إنشاء جمعيات فدرالية لعمال المهجر في عدد من المدن الفرنسية، وفي جانفي 1956 انتقل إلى مصر واتصل برئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين العلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي الذي كان مقيما بالقاهرة، ثم التقى بأعضاء الوفد الخارجي لجبهة التحرير الوطني (احمد بن بلة، محمد خيضر، محمد بوضياف، حسين آيت احمد) وغيرهم، ليكلف بمهمة أمين المال على مستوى مكتب القاهرة، فكانت الأموال كلها تودع عنده وهو الذي يتولى توزيعها وإعطاءها لمستحقيها، فيدفع المرتبات للإطارات ويعطي المساعدات للطلبة، ثم كلف بعدة مهام في كل من مصر، سوريا، لبنان، السعودية، العراق وليبيا ثم تونس.
في سنة 1960 نزل بتونس للعلاج، وسهر على تعليم أفواج المجاهدين الذين يفدون على مراكز (سيدي اسماعيل) قرب باجه، ومكث بهذا المركز إلى استرجاع السيادة الوطنية في 1962. بعد عودته إلى أرض الوطن شرع في بناء المعهد الإسلامي بباتنة الذي يعد بمثابة اللبنة الأساسية والنواة الأولى لبناء المعاهد الإسلامية في الجزائر وقدوة لباقي ولايات الوطن، وفتح فروع له في كل من بريكة وأريس وبقية مناطق الأوراس هذا المعهد الرائد أنجز بدعم من وزير الشؤون الدينية والأوقاف آنذاك العلامة أحمد توفيق المدني.. كان الشيخ عمر دردور من مؤسسي التعليم الأصلي في الجزائر وكان سببا في إقناع الرئيس الراحل هواري بومدين في اعتماد معاهد التعليم الأصلي، بعد زيارته إلى باتنة في سنة 1969. هذا التعليم الأصلي الذي رسمه المفكر الراحل مولود قاسم بعد توليه سنة 1970 لوزارة الأوقاف التي أصبحت تسمى بطلب منه (وزارة التعليم الأصلي والشؤون الدينية) كما أقنع الرئيس بومدين بإصدار مرسوم إحداث شهادة بكالوريا للتعليم الأصلي في13 ماي 1971. ولذلك شعر الشيخ دردور بالإنزعاج والأسى عندما أقدم الرئيس هواري بومدين في سنة 1977 على إلغاء نظام التعليم الأصلي حيث أقنعه الباحث الاجتماعي مصطفى الأشرف الذي تولى وزارة التربية في سنة 1976 بعدم جدوى وجود نظام التعليم الأصلي لأنه من غير المعقول أن يسير نظام التعليم في الجزائر برأسين ونظامين تربويين، يقول الزميل الصحفي سعدي بزيان أن الشيخ عمر دردور طلب بعد قرار الإلغاء مقابلة الرئيس بومدين واستفسره عن سبب إلغاء التعليم الأصلي الذي تخرج منه آلاف الطلبة الجزائريين المتفوقين في التخصصات الأدبية والعلمية، ولكن الرئيس بومدين طلب من الشيخ دردور التحاور مع مصطفى الأشرف في هذا الأمر. لم يكن الشك يساور الشيخ دردور في مدى صدق وطنية الرئيس بومدين وأصالة ثقافته العربية الإسلامية، ولكنه شعر أن ضغوطا ما جعلت الرئيس بومدين يأخذ قراره متحيزا إلى من كانوا يطلقون على أنفسهم اسم (التيار التقدمي)، وما زال بعض الحداثيين المستلبين فكريا والمنسخلين لغويا والمغتربين حضاريا إلى حد اليوم يحملون مؤسسي التعليم الأصلي وبصفة أخص المفكر الراحل مولود قاسم مسؤولية تأجيج الصراع الثقافي في الجزائر وتوطين الأصولية والتطرف الديني بسبب ترسيم التعليم الأصلي في المدرسة الجزائرية.
وبعد رحيل الرئيس بومدين في سنة 1978 واصل الشيخ عمر دردور ـ عليه رحمة الله ـ عمله في تأسيس المعاهد الإسلامية وقام في سنة 1981 بتأسيس المعهد الإسلامي لتكوين االإطارات الدينية في سيدي عقبة، ببسكرة وعين أول مدير له، وبقي على رأس إدارته إلى سنة 1989 مع قيامه بمهمة التفتيش على مستوى الولاية وبعد سنة 2000 أسس مسجدا وزاوية بقرية الحمزة ببلدية وادي الطاقة بباتنة من ماله الخاص، فكان من الرجال الذين قال فيهم المولى تبارك وتعالى {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 23].