اهتمام ابن باديس بالأسرة
بقلم: د.علي الصلابي-
أولى الشيخ عناية فائقة واهتماماً كبيراً بالأسرة، الحضن الذي يتربى فيه الرجل والمرأة، واهتم بترشيد الفتيات والفتيان بكيفية الزواج الناجح، ولذلك لما كتب محمد العابد الجَلاَّلي قصته بعنوان «السعادة البتراء» ذهب فيها إلى أن الزواج بين بطلي القصة سيكون ناجحاً لأنه مبني على التعارف والحب، علق الشيخ عبد الحميد بن باديس على ذلك بمقالة في العدد الموالي من الشهاب (ج3 ـ م11) في ركن المقالات معرض اراء وأفكار، وقعه بحرف ـ ع بعنوان «الزواج أيبنى على الحب والتعارف أم على المحبة والمعرفة؟»، ذهب فيه إلى أن الزواج المأمول لا يقوم على التعارف المطلق والحب الشهواني، إنما هو الذي يقوم على الوسطية الإسلامية القائمة على المعرفة البريئة بين الخطيبين، وما ينشأ عنها من محبة بريئة.
فقال: فالزواج الإسلامي مبني على المعرفة البدنية بالرؤية، والمعرفة النفسية بالبحث عن الدين والخلق، وعلى المحبة التي تحصل بذلك، ويدل عليها رضا كل واحد منهما بصاحبه، ولم يراعَ في الزواج الإسلامي الحب الشهواني الذي يثيره الاختلاط لما في الاختلاط من تعريض الفضيلة للخطر، ولأن الحب ثورة وقتية لا تلبث أن تنطفأئ، وأخلق بالزواج المبني عليه أن تنحلّ عراه عند إنطفائه.
هما أمران، حب ثائر مبني على تعارف مخطر سريع الخمود، ومحبة هادئة مبنية على نظر عفيف وعلم الدين والخلق، تدوم بدوام الدين، وتثبت بثبات الأخلاق، أيُّ هذين أحق أن تبنى عليه الزوجية التي يقصد منها دوام التالف والتعارف والعمل لخير الأسرة والأمة والبشرية؟ لا أحد من العقلاء يتوقف في الجواب عن مثل هذا السؤال.
ـ الشفاء بنت عبد الله القرشية:
كان ابن باديس يكتب في مجلة الشهاب تحت عنوان: رجال السلف ونساؤه، ويشتمل على غرر الاثار ودرر الأخبار ينفض الغبار عن الجامدين ويكبح به جماح الجاحدين، كما كان يكتب فصلاً تحت عنوان: السنة المطهرة يحتوي أحاديث نبوية مختارة لمعالجة المشاكل الاجتماعية، فمما كتبه تحت عنوان رجال السلف ونساؤه الشفاء بنت عبد الله القرشية قال: كانت من عاقلات النساء وفضلياتهنَّ، وكانت تحسن الكتابة، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يرعاها ويفضلها ويقدمها في الرأي تقديراً لسابقتها وعقلها، ومعرفة فضائلها، وكان ربما ولاَّها شيئاً من أمر السوق في بعض الأحيان، ثم قال مستنتجاً: تتولى المرأة الكتابة وتعلِّم غيرها وتتولى تدبير أملاكها وتجارتها وما تستطيعه من عمل عام، كما تولت الشفاء أمر السوق في بعض الأحيان، ولا شك مما أهّلها لذلك عند عمر معرفتها بالكتابة.
وبهذا الأسلوب اللين الهادأئ يدعو الأستاذ عبد الحميد إلى تعليم المرأة وتوليتها المناصب في الدولة، وإذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه منحها هذا الحق منذ أربعة عشر قرناً، فمن الذي تحدثه نفسه باتِّهام الإسلام بالمحاباة وعدم المساواة. والشفاء بنت عبد الله هذه ذكرها ابن باديس أيضاً تحت عنوان السنة المطهرة، فقال: عن الشفاء بنت عبد الله قالت: دخل النبي (ص) وأنا عند حفصة، فقال لي: ألا تعلمين هذه رقية النملة كما علمتيها الكتابة، وبعد ما شرح الأستاذ هذا الحديث، بما تقتضيه قواعد العلم، ذكر أن من أحكامه وفوائده تعليم النساء الكتابة، ثم قال: وأقوى منه في الاستدلال العموميات القرآنية المتكاثرة الشاملة للرجال والنساء، فإن مذهب الجمهور وهو المذهب الحق أن الخطاب بصيغة التذكير شامل للنساء إلا لمخصص يخرجهن من نص أو إجماع أو بضرورة طبيعة لأن النساء شقائق الرجال في التكليف.
هكذا يرى ابن باديس لزاماً علينا نشر العلم بين أبنائنا وبناتنا على أساس ديننا وقوميتنا، إذ العلم تراث البشرية جمعاء. ومعلوم أن العلم الذي هو يتعلق بالكونيات، فالمرأة إذن على ما ذهب إليه عبد الحميد بن باديس، لها أن تتعلم من العلوم ما تشاء، فلها أن تزاحم النسور في السماء والحيتان في الماء ما دامت متمسكة بدينها، وذلك ما يدعوها إليه الإسلام.
ـ وقف إمام خيالي:
قال ابن باديس: ألقيت محاضرة في هذا الموضوع بنادي الترقي بالعاصمة في شهر ربيع الأول. وفيما يلي أكتبها على ما بقي في ذهني، كنت ألقيتها ارتجالاً وإذا شذ عني شيء فلا يكون إلا قليلاً.
كنت وأنا قادم للعاصمة من مضيق «حصن الماء» ؛ أحوم على موضوع أختاره للمحاضرة التي اقترحها عليَّ أعضاء النادي المحترمون، فوقع فكري على المرأة وحالتها وواجباتها وحقوقها وبينما أنا أفكر فيها وأجمع أطراف الحديث في شأنها ؛ إذ أنا برجل مسلم جزائري ببرنوسه وقنورة وقف أمامي ـ لم يقف أمام حسي ولكن وقف أمام خيالي ـ وأخذ ذلك الرجل يخاطبني بشدة وعنجهية ويقول:
أنتم تفكرون في تعليم المرأة فلمن تعلمونها؟ لي أنا.
الرجل الجاهل: ليقعنَّ لها ما يقع للعالم الضعيف المغلوب من الجاهل القوي الغالب. ومن يعلمها؟ أنا الجاهل، كيف أترك نفسي وأعلمها؟
أنتم تفكرون في نزع حجابها وخلطها بالمجتمعات، ألا تخافون عليها غيرتي؟ فلأقاتلنَّ عليها ألا تخافون إغارتي؟ فلأضايقهنَّ ولترينَّ مني كل أنواع التعدي والأذى.
إذا أردتم التفكير الصحيح والإصلاح المنتج، ففكروا فيَّ قبلها، فأنا ابوها وزوجها ووليها ومصدر خيرها وشرها.
وإذا أردتم إصلاحها الحقيق فارفعوا حجاب الجهل عن عقلها قبل أن ترفعوا حجاب الستر عن وجهها، فإن حجاب الجهل هو الذي أخرها، وأما حجاب الستر فإنه ما ضرها في زمان تقدمها، فقد بلغت بنات بغداد وبنات قرطبة وبنات بجاية مكاناً عالياً في العلم وهنَّ متحجبات، فليت شعري ما الذي يدعوكم اليوم إلى الكلام في كشف الوجوه قبل كل شيء.
إن إبراز ما تتسم به مواقف ابن باديس وكتاباته في موضوع المرأة، هو: الحكمة والاعتدال والرصانة في الطرح والمناقشة في تشخيص الداء ووصف الدواء، مما يميز منهجه العام في جميع مواقفه وأعماله، فهو يحافظ في معظم الأحوال على موضوعيته ووسطيته، فكان في هذا الموضوع كعهده في غيره وسطاً بين الإفراط والتفريط، إفراط المستلبين وتفريط الجامدين، فكان بذلك من بين أبرز المفكرين وكتاب تيار الاعتدال والوسطية والروح العلمية في العالم العربي الإسلامي.
من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج2)