دور وتأثير علماء الجمعية لمدينة تبسة في ثورة أول نوفمبر: الشيخ الحبيب فارس التبسي
بقلم: البدر فارس-
يعد تاريخ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ناصع البياض بسير عُظمائها وقوادها وعلمائها، الذين تركوا بصبتهم واضحة على ما قدموه إلى الإسلام والمسلمين.
ومن بين الخدمات الجليلة التي قدمتها لدينها ووطنها وشعبها، والذي ما زال تاريخنا الإسلامي العريق المجيد يتحدث عنها في بطون الكُتب بكل فخرٍ واعتزازٍ؛ دورها الرئيسي والفعَّال في انتصار الجزائر واسترداد سيادة ترابها وأراضيها. فقد كان لها الدور والأثر الكبيريْن في مُجريات ووقائع وأحداث ثورة التحرير الجزائرية المُباركة، التي اندلعت شرارتها في الأول من نوفمبر 1954م؛ فبفضل عُظمائها وعُلمائها الذين شاركوا في هذه الثورة المُقدسة استطاعت توجيه وإرشاد الجنود والشباب الذين يَزخر بهم تاريخ المقاومة والثورة التحريرية إلى الطريق المستقيم لِتُنير أمامهم مَعالم دَربِ النضال والجهاد الذي شقّه ملايين الشهداء الأبرار بِدمائهم الزكية، وعَبّدوه بِأجسادهم الطاهرة لِيكون مَعبرًا للجزائر ولشعبها إلى الحُرية والاستقلال.
فأردنا بهذه المقالة المُتواضعة أن نُزيح بعض الغبار عن سيرة وجهاد وكفاح هؤلاء العلماء، الذين شككَ الكثير في جهادهم أثناء هذه الثورة ومواقفهم منها؛ لِتستلهم الأجيال القادمة بطولاتهم وصولاتهم، ولِتكون نبراسًا لنا في طريق المجد والصعود نحو قيادة العالم مرة أخرى كما قاده المجاهدون الأبرار في العصور الزاهرة الزاهية من العصور الذهبية للأُمة الإسلامية أيام الأبطال الميامين، مثل: “خالد بن الوليد”، و”عقبة بن نافع”، و”طارق بن زياد”، و”صلاح الدين الأيوبي”.
ومن هؤلاء العلماء البارزين الذين كان لهم الدور الإيجابي والمُساهمة الفعّالة في تفعيل وانتشار وانتصار ثورة التحرير الجزائرية الكبرى، اخترنا لكم منهم ثلاثة؛ أنجبتهم مدينة “تبسة” في عصرها الحديث. هذه المدينة التي لُقبت في عصرها هذا بِبوابة الشرق، ورئة العروبة، وأريج الحضارات. وهؤلاء العلماء الأبطال هُم: الشيخ الإمام العلَّامة العربي التبسي، والشيخ الإمام العلَّامة الحبيب فارس التبسي، والشيخ العلَّامة إبراهيم مزهودي التبسي، وسنتطرق في هذا العدد إلى سيرة وجهاد وكفاح الشيخ الحبيب فارس التبسي.
مولده ونشأته وتعلمه
هو الحبيب بن محمد بن سلطان فارس التبسي، وأمه هي السيدة مريم بنت صالح خالدي التبسي، المولود بقرية بحيرة الأرنب جنوب ولاية تبسة سنة 1337هـ الموافق لسنة 1919م، وهو من قبيلة “الـنَّمَامْشَة” الأمازيغية الشهيرة، ومن عشيرة “الزّْرَادْمَة” المعروفة بتاريخها البُطولي المجيد والجهادي المُقاوم للوجود الاستعماري الفرنسي. وكان الأخ الأصغر لستة من الذكور، والأخ ما قبل الأصغر لخمس إناث، ولد في أسرةٍ فلاحية اكتوت بقهر السياسة الاستعمارية، وأسرة محافظة محبة للعلم وخاصة ما تعلق الأمرُ بحمل كتاب الله في الصدور والدعوة إليه والـتّـفقُّه فيه والدعوة إلى الله عز وجل، وقد عرفت هذه الأسرة بالكرم والجود الذي كانت وما زالت عليه إلى يوم يرث الله الأرض ومن عليها إن شاء الله.
وفي قريته حفظ القرآن الكريم في أحضان العائلة على يد شيخ القرية، وأخذ المبادئ الأولية للعلوم العربية والدينية، ثم انتقل إلى القطر التونسي الشقيق وتحديدًا إلى زاوية سيدي مصطفى بن عزوز الجريدي النفطي الرحماني بمدينة نفطة بالجنوب التونسي، حيث درس المرحلة الابتدائية هناك وكان نشطًا ومجتهدًا ومُتفوقًا في دراسته، لأن حفظه للقرآن الكريم جعله سباقًا في اكتساب الثقافات والعلوم الأخرى.
ولما أكمل تعليمه بالزاوية واستوى زكَّاهُ شيوخه للالتحاق بجامع الزيتونة العريق، فالتحق به في بداية الثلاثينات من القرن الماضي ودرس به سبع سنوات، وتحصل منه على شهادة التحصيل العالية في العلوم العربية والدينية، ومن الشيوخ الذين كان لهم الأثر الكبير على الشيخ الحبيب فارس، الشيخ الفاضل عبد العزيز الثعالبي، الذي تتلمذ على يديه في جامع الزيتونة.
وأثناء تواجده بتونس العاصمة كان الشيخ عضوًا نشطًا في جمعية الطلبة الجزائريين في تونس، حيث ساهم بصفة مباشرة في التعريف بقضية الجزائر العادلة، وتوعية الناس لفهمها فهمًا صحيحًا، والمُطالبة بحرية واستقلال الجزائر؛ فكان يُساهم مُساهمةً فعَّالة في تنظيم المسيرات وتشجيعها، والدعوة إلى الإضرابات وغيرها من النشاطات السياسية المحظورة أمام الاستعمار الفرنسي.
وفي أثناء إحدى المُظاهرات التي شارك فيها الشيخ تضامنًا مع إخوانه التونسيين ضد المستعمر الفرنسي، أُلقي عليه القبض وأودعوه السجن، حيث مكث فيه قُرابة الستة أشهر.
مهامه ونشاطاته ووظائفه بعد عودته من تونس
وعند انتهاء الشيخ من دراسته في جامع الزيتونة رجع إلى الجزائر وقرر الانضمام إلى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين كعضو فيها، وأصبحت له منذئذٍ صلة روحية وأخوية وجهادية بحركة الإصلاح الإسلامي والإصلاحيين، وبخاصة رجال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وعلى رأسهم الشيخ الإمام عبد الحميد بن باديس والشيخ العربي التبسي.
بعد انضمام الشيخ الحبيب فارس إلى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، اتصل به الشيخ الفاضل العربي التبسي ودعاه ليعمل مدرسًا بمدرسة التهذيب بمدينة تبسة، فاشتغل مدرسًا بالمدرسة.
في سنة 1947م تمَّ افتتاح معهد عبد الحميد بن باديس بقسنطينة، وأُسندت إدارته إلى الشيخ العربي التبسي رحمه الله تعالى، الذي كان آنذاك الرجل الثاني في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. وكان هذا المعهد عبارة عن ثانوية تسع حوالي 1500 طالب مع “دار الطلبة” التي هي إقامة للطلبة الوافدين إليه للدراسة من سائر أنحاء الوطن، وكان التنسيق بين إدارته وإدارة جامع الزيتونة بتونس في إطار توحيد المناهج الدراسية وانتداب الأساتذة، والتعاون العلمي والثقافي المتبادل بين البلدين الشقيقيْن والاعتراف بالشهادات العلمية التي يمنحها معهد عبد الحميد بن باديس للمتخرجين منه.
ولهذه الأسباب كلها، فكَّر الشيخ الحبيب فارس أن يبني مدرسة صغيرة بقرية بئر العاتر تمكن أبناء القرية وما جاورها من الدراسة والتعليم. وبعد التنسيق مع أعضاء إدارة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وعلى رأسهم الشيخ العربي التبسي، قرَّر الشيخ الحبيب فارس تأسيس جمعية دينية بقرية بئر العاتر بمساعدة جماعة من الإخوة الذين كانوا يقيمون بالقرية. وبنى هو وأصحابُه قسميْن ملتصقيْن بمسجد القرية الذي يُسمّى اليوم المسجد العتيق، ووظف لهما معلمين لتعليم أطفال القرية؛ وأصبحَ الشيخ هو المشرف العام وإمام المسجد والواعظ به. وتعد هذه المدرسة الصغيرة التي أسسها الشيخ هي أول مدرسة قرآنية وابتدائية تأسس بالمنطقة.
ومن نتائج جهاد ومجهودات الشيخ الحبيب فارس في ميدان التربية والتعليم في منطقة بئر العاتر، ازدادت الوراثة الأمازيغية القوية العظيمة والإسلامية تأججًا في عُروق تلك المناطق. فالشيخ الحبيب فارس وتلاميذه هم الذين أعدوا وهيؤوا وعبؤوا قُلوب سكان هذه المناطق للثورة الجزائرية المُباركة، فصارت من قلاعها الكُبرى مع قلاع جبال الأوراس، ولولاهم لاختفت الثورة في الأوراس وشرقي الجزائر، فهم صلتها بتونس، وهم شرايينها الكُبرى التي تمدها بالقوة عن طريق الفدائيين الأبطال الذين كان يُزكِّيهم الشيخ الحبيب فارس للالتحاق بمراكز جيش التحرير في تلك المناطق.
موقفه من الاستعمار الفرنسي وثورة التحرير
أثناء فترة ما قبل اندلاع الثورة التحريرية الجزائرية الكبرى، كان الشيخ نشطا في إلقاء دروسه ومواعظه بالمسجد العتيق ببئر العاتر، كما كان له في نفس الوقتِ نشاطاتٌ تجاريّة، حيث كانت له محلات تجارية متنوعة من بيع للمواد الغذائية، والحبوب والصوف والملابس الجاهزة وغيرها… فكان هكذا نشطا في أمُورِ دُنياهُ وفي أمور أُخراه.
وبقي الشيخ في هذه الفترة على اتصال بجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وعاملا على نشر مبادئها الداعية للثورة، وإزالة الشبهات والأباطيل التي أُلصقت بالإسلام زورا وبهتانا، وقد بقي كذلك وفيًّا لمبادئ دينه، لا يخاف في الله تعالى لومة لائم، لا يميل ولا يتزحزح عن عقيدته ولا يبالي بالعراقيل والصعاب في سبيل دينه، ولا يحابي ولا يجامل، ولا يتذلل ولا يتزلف في سبيل قول الحقّ، وكان صريحًا مع الصديق والعدو، ولا يخضع في شؤون حياته إلا للحق، قدوته في ذلك الأنبياء والرسل وكل العلماء المخلصين الذين سبقوه.
ولهذا عُرِف الشيخُ الحبيب فارس بكرهه الشديد للاستعمار الفرنسي الذي يصفه الكثير من المؤرخين بأنه من أظلم وأقهر المستعمرين الذين عرفهم العصر الحديث، فكان الشيخ يدعُو إلى الثورة ضده مؤمنا بأن خروجه لا يمتد إلا من فوهة البندقية، وقد سخّر كل ما يملك من علم ومال وصحة لإيقاد فتيل الثورة، وهذا ما حصل بالفعل، ففي أول نوفمبر 1954م اندلعت الثورة التحريرية الكبرى، فكان الشيخ من السبَّاقين لتحريض الشعب على إعانة المجاهدين في كفاحهم ضد الاستعمار.
نشاطه الجهادي أثناء قيام ثورة التحرير
في بداية الثورة التحريرية الكبرى، عُيِّنَ الشيخ مُموناً للفئة المجاهدة بالناحية، وكان من يريد الالتحاق بالثورة لا يكون له ذلك إلا عن طريق الشيخ، وإلا يُكلف بعملية فدائية على سبيل التجربة والاختبار.
وقد ساعدته تجارته في تموين المجاهدين في كفاحهم ضد الاستعمار. فكان بذلك يعمل عملًا عسكريا بشكل مدني يخدم به الجهاد خدمة مباشرة.
ظروف اعتقاله
ولتحركات الشيخ المستمرة ونشاطه الكبير، تَـمّـت مراقبته من طرف الاستخبارات الفرنسية، وأُلقي عليه القبض بمدينة تبسة، حيث كان يقتني السلع المُمونة لمحلاته في الظاهر، بينما هي لتموين المجاهدين. وبعد تحريات كثيرة لم تثبت فيها إدانته، لكن الاستعمار هو الاستعمار، فقد قرر المسؤولون في الجيش الفرنسي عزله عن أهله، ومن ثم وُضِع تحت الإقامة الجبرية في مدرسة الشيخ العربي التبسي بمدينة تبسة، وكان ينام في منزل الشيخ العربي ولا يخرج منه إلا لأداء صلواته في المسجد ثم الرجوع من جديد إلى المنزل، وبقي على هذا الحال حوالي الشهرين أو أكثر أو أقل -والله أعلم- ثم قرَّرت السلطة الفرنسية اعتقاله والزج به في المعتقلات والسجون وذلك في بداية 1955، وهذا بعد العذاب المرير الذي تعرض له الشيخ أثناء اعتقاله. ولأهمية اعتقال الشيخ من طرف القوات الفرنسية، تمّ نقلُـهُ على متن «هيليكوبتر» إلى كثيرٍ من المعتقلات. وبعد ذلك قرّرت السّلطة الفِرنسيّـة حرقَ منزله ومُصادرة كُل تجارته وأمواله وتشريد عائلتهِ. وتُـعَـدُّ عائلةُ الشيخ من أوائل العائلات الجزائريـة التي عانت من ويلاتِ الاستعمار الفرنسي الظالم الهمجي الوحشي المُستبد من اضطهادٍ وترهيبٍ وتعذيب وإحراق وتشريد وتفريق وتنكيل منذُ بداية الثورة التحريرية المُباركة حتى نهايتها.
لقد كانت عائلة الشيخ في مُقدمة العائلات الجزائريّــة التي ضَحَّت بالغالي والـنـّفيس، وضحّت تضحيات جِسَـام في سبيل إعلاء كلمة الله عزّ وجلَّ، وفي سبيل كرامة وعزّة الجزائر، فضحُّـوا ووهبُوا ما عندهُم من أجلها، ولذلك عزّت وعلَـت.
مهامه ووظائفه بعد الاستقلال
أثناء تواجد الشيخ بالمعتقلات على مدى سبع سنوات، ذاق فيها صنوفًا وألوانًا شتى من العذاب، ولكن إرادة الله عجّلت باستقلال الجزائر، وخرج الشيخ من المعتقل يوم 20مارس1962م، وعاد إلى تبسة واستقر بها. وفي بداية الاستقلال كان الشيخ من الأوائل الذين كُلفوا كمسؤولين على منطقة تبسة سياسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا.
ففي بداية الأمر حاول شيوخ جمعية علماء المسلمين الجزائريين إقناع الشيخ بمزاولة القضاء الشرعي بمحكمة تبسة، لكنه رفض ذلك لقناعته وإيمانه بأن إصلاح السلطة القضائية لا يتم إلا بإصلاح السلطة العليا للدولة، ولذا فضّل رئاسة قسمة حزب جبهة التحرير الوطني بتبسة في بداية الاستقلال، معتقدًا أنَّ هذا الحزب سيحاول تطبيق الشريعة الإسلامية، والنهوض بالأمة الجزائرية من كبوتها إلى ما فيه ازدهارها وتقدمها.
وهكذا اندفع الشيخ لبناء وتشييد الجزائر بصدق، لكنه اصطدم بالاتجاه الاشتراكي للدولة الذي انتهجته السلطة الجزائرية في عهد الرئيس أحمد بن بلة، وظهر ذلك جليًّا عندما شارك الشيخ في انعقاد مؤتمر حزب جبهة التحرير الوطني في 16 أفريل 1964م بالجزائر العاصمة، حيث ظهرت خلافات حادة بين المشاركين في هذا المؤتمر، وخاصة فيما يتعلق بالهوية الجزائرية: هل الجزائر عربية إسلامية؟ أم اشتراكية علمانية؟ ولهذه الأسباب، قدّم الشيخُ فيما بعد استقالته من الحزب عندما أيقن بأن الأمور تسير على غير ما يريد.
وقد عُرض على الشيخ وظائف كثيرة كمفت بوزارة الشؤون الدينية بالجزائر العاصمة، ولكنه رفض ذلك، وعرض عليه كذلك منصب أستاذ بالتعليم الثانوي بإحدى المدن الجزائرية لكنه رفض كذلك هذا المنصب، وفضَّل الالتحاق بالمسجد العتيق بالمدينة كإمام، مفضلا الدعوة إلى الله عز وجل عن طريق الدروس المكثَّفة التي كان يحضرها جمع كبير من محبي العلم طيلة أكثر من ربع قرن دون انقطاع. فبالرغم من المناصب السامية العديدة التي عرضت عليه، إلا أنه أبى وفضل الدعوة إلى الله عزّ وجلّ والإمامة لما يرى فيها من جدوى وفائدة للأمة التي خرجت من ليل الاستعمار الحالك وهي مُثخنة بأمراض لا حصر لها.
وبمرور الشهور والسنوات اكتسب الشيخ نمطًا ورونقًا خاصًا به، فأصبح هو المُلهم، والمُربي الحصيف، والمُوجه الحكيم لأهالي المدينة، حيثُ كان يلتقي بهم في كثير من الأوقات في جلساتٍ مُفعمة بالنفحات الإيمانية في رِحاب العلم والدين.
وانعكست هذه الجلسات الإيمانية انعكاسًا إيجابيًا على كل الأطراف، حتى على مظهر الشيخ الخارجي، فالشيخ كان وضيء الوجه، بهي الطلعة، طويل القامة، عريض المنكبين، مُمتلئ البُنية، لا سمين ولا نحيف، اشتدت بشرته بياضًا، ترتاح العين لرؤيته، وتأنس النفس للُقياه، ويسعد القلب لرفقته.
فإذا رأيته ماشيًّا رأيتَ عظيمًا شامخًا مُتبخترًا، يتصنع له مشية، هي له وحده، يخترعها بين الشموخ والتبختر. وإذا رأيته جالسًا، رأيتَ عظيمًا مهيبًا مُتنزهًا، يعلوه الوقار والهيبة، يشغله التفكر والتأمل كشأن كل العظماء. وبالرغم من هيبته، كان الشيخ كثير التواضع، شديد الحياء، لكنه كان إذا اشتدَّ الأمر وجدته يغدو كأنَّه اللَّيثُ عاديًّا، فهو يشبه نصل السيف رونقًا وبهاءً، ويُماثله حِدةً ومضاءً.
أول من أعطى طابعًا مميّزا لدروس الجمعة على المستوى القطر الجزائري
يُعدُّ الشيخ الإمام العلامة الحبيب فارس أول من أعطى طابعاً مُميّزًا لدروس الجمعة على المستوى القطر الجزائري، حيث ميَّزها عن باقي الدروس بدقة تحضيرها وأهمية أفكارها، هذه الدروس التي كان يدرسها الشيخ في الأوقات التي تفصل بين الأذان الأول والأذان الثاني من صلاة الجمعة. ولعلَّ الكثير لا يعلم أن مسجد العتيق الكائن بوسط مدينة تبسة هو أول مسجد جامع أسس على التراب الجزائري، فقد بُني بعد الفتح الإسلامي على أنقاض دار الإمارة الرومانية، وجدّدَ بناؤه والي قسنطينة صالح باي سنة 1213هـ الموافق لـ 1798م كما تشير اللوحة الرخامية.
مواقفه من السُّلطة في بداية الاستقلال
من المواقف الشجاعة للشيخ الحبيب فارس من السلطة في بداية الاستقلال، موقفه الصارم الذي اتخذه إزاء الرئيس السابق أحمد بن بلة وأعوانه، عندما حاولوا اتهام الشيخ العلامة محمد البشير الإبراهيمي بالتدخل في شؤون السلطة وعرقلة التوجه الاشتراكي للدولة. فقد أفسدَ الشيخ الحبيب فارس مع مجموعة شيوخ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين خطة الرئيس السابق أحمد بن بلة وتوفيق المدني (رحمه الله) لإعداد وإعلان رد على نداء الشيخ محمد البشير الإبراهيمي الذي انتقد فيه التوجه الاشتراكي للدولة الجزائرية تحت عنوان: “يا مسلمي العالم أنقذوا الجزائر”.
وكذلك من المواقف الشجاعة للشيخ الحبيب فارس من السلطة في بداية الاستقلال، موقفه الشجاع الذي اتخذه أيضا إزاء الرئيس السابق أحمد بن بلة، عندما اعتقل هذا الأخير الشيخ الفاضل إبراهيم مزهودي، فكان الموقف الذي اتخذه الشيخ الحبيب فارس من الأسباب التي جعلت الرئيس السابق يقوم بإطلاق سراح الشيخ إبراهيم مزهودي.
وفي قصّة أخرى يروي لنا السيد “يزيد غربي”، أنَّ الشيخ الحبيب فارس روى له إحدى الطرائف عن أحد السياسيين الجزائريين في بداية الاستقلال تتعلق بالسياسي “محمد الشريف مساعدية” -رحمه الله-، حيث زار هذا الأخير مدينة تبسة قبل انقلاب 1965م بِمدة واتَّصلَ بالشيخ وطلب منه مُآزرة الرئيس بن بلة وحثّ المواطنين التبسيين على مُساندة حُكم الرئيس بن بلة. وأثناء الاضطرابات التي وقعت بمدينة تبسة بعد انقلاب 1965م، رجع السيد محمد الشريف مساعدية من جديد إلى تبسة واتصل بالشيخ وطلب منه مؤازرة الرئيس الجديد هواري بومدين وحثّ المواطنين التبسيين على مُساندة حُكم الرئيس بومدين. فكان ردّ الشيخ مُعاكسًا لتطلعات وأُمنيات محمد الشريف مساعدية، حيث كان ردُّ الشيخ كالتالي: “بالأمس تطلبُ مني مُآزرة بن بلة، واليوم تطلبُ مني مُساندة بومدين، كيف يكون ذلك؟! وفي أيِّ صفٍّ أنتَ؟!”. فتفاجأ السيد محمد الشريف مساعدية برد الشيخ، ولم يُعلِّق على هذا الرد وطأطأ رأسهُ وغادر المكان في هدوء.
هكذا كان الشيخ الحبيب فارس… كعادته لا يخاف في الله لومة لائم، ولا يُبالي بالعراقيل والصعاب في سبيل دينه، ولا يُجامل ولا يتزلف في سبيل قول الحق.
فها هو الأستاذ “عبد المجيد شابو” يذكر لنا أحد المواقف التي شهدها وسمعها عن الشيخ في بداية السبعينات من القرن الماضي قائلًا على لسانه: “أثناء إحدى خُطب الشيخ الحبيب فارس رحمه الله، التي كان يرتجلها بالمسجد العتيق بمدينة تبسة وهذا سنة 1970م، كان ينتقد فيها السُّلطة آنذاك بكلماته التي يطلقها كالسهام فتُصيب العدو، أذكرها حرفيًّا، قال: لا شَكَّ أنَّ هنا أمامي بعض -الطواريس- حضروا ليس حُبًّا فيَّ، أو لأداء الفريضة، وإنما حضروا لنقل ما أقوله، لهذا أرجوهم أنْ ينقلوا انتقاداتي بكل أمانةٍ ليتأكد الآخرون بأنَّ -الحبيب فارس- لا يسكُت أمام غطرسة الشيوعين والمُلحدين”.
حادثة عيد الأضحى
في سنة 1975م قرر الشيخ أداء فريضة الحج، فسافر إلى الأماكن المقدسة مع وفد مُتكون من الأقرباء والأصدقاء، وهناك قضى شهرًا حافلًا بالنشاط، فقد كان يلقي دروسًا للوفد الذي رافقه ولحجاج آخرين التقاهم عند أدائه فريضة الحج. وكان يعِظُهم بمواعظه الحسنة، وينصحهم بنصائحه الرشيدة، ويرشدهم بإرشاداته السديدة. وفي سنة 1977 وبمناسبة حلول عيد الأضحى المبارك، اختلفت الأقطار الإسلامية حول توقيت صلاة العيد، فأُقيمت في السعودية وبعض أقطار الخليج يوم الأربعاء وبعض الأقطار الأخرى كمصر يوم الخميس وأُريد لها أن تُقامَ يوم الجمعة “في اليوم الثالث لعيد الأضحى المبارك” في بعض الأقطار ومنها الجزائر!!
فوقف الشيخ الحبيب فارس وقفةَ العالم الربّاني، وقال لا يمكن أن تتباين رؤية الهلال ثلاثة أيام ولا يمكن أن يكون أول ذي الحجة في قطر إسلامي اليوم وفي آخر غدا وفي ثالث بعد غد…
ورفض أن تُقام صلاة العيد متأخرة عن موعدها بيومين، وأمر مُصليه بعدم إقامة صلاة العيد في اليوم المزعوم من طرف السلطة. وتابعه كثير من شباب الصحوة الذين يحبونه ويعتبرونه قدوة لهم ومرجع إفتاء ومصدر ثقة لدينهم وعبادتهم.
وبعد هذه الحادثة (حادثة عيد الأضحى) وعندما كان رد فعل السُّـلـطة إداريا بالتوقيف وتجميد الـرّاتب والمحاصرة والتضييق ذاع صيتُ الشيخ الحبيب وصارت تُـشـدّ له الـرِّحالُ من كلّ أرجاء الوطن، وذاع صيتُ الشيخ حتّى خارج حُدود الوطن.
مساهمته في بُروز الصحوة الإسلامية للشباب المسلم
كانت حياة الشيخ حافلةً بالجدّ والعمل المثمر في رحاب العلم والدعوة إلى الله عز وجل، وقد ساهم في بروز تلك الصحوة الإسلامية للشباب المسلم منذ بداية الثمانينات من القرن الماضي بتدريسه ووعظه ونصائحه التي لا تنقطع، وتشجيعه للشباب والوقوف إلى جانبه كلما دعت الحاجة إلى ذلك، فكان لهم نعم المستشار والناصح الأمين، مساعدًا لهم على حل ما يعرض لهم من مشاكل اجتماعية ودعوية. وكان الشيخ يجهد نفسه ويُوظف علمه لإيصال أفكاره وخاصة في ما يتعلق بالعلم والدعوة إليه إلى الشباب المسلم. فكان يلتقي بهم في المساجد وحتى في منزله ويحثهم على الاستمساك بدينهم الإسلامي الحنيف وبعقيدتهم، والدعوة إلى الله عز وجل مهما كانت الظروف والحواجز والعراقيل. وكان ينصحهم دائما بالابتعاد عن العصبية والقبلية، اللتان يرى فيهما من الآفات الضارة بمستقبل الدعوة إلى الله عز وجل.
ولا أبالغ فأقول أن الشيخ الحبيب فارس، هو ذلك العالم الذي كان له التأثير الأكبر على الشباب المسلم ببلدته وما جاورها مقارنة بتأثير باقي العلماء الجزائريين في بلدتهم، وخاصة في الفترة الممتدة من السبعينات إلى بداية التسعينات من القرن الماضي.
حادثة الصلح بين الإقليميين والعالميين
كما قلنا سابقًا، فإنّه في بداية الثمانينات من القرن الماضي، ظهرت صحوةٌ إسلامية للشباب المسلم على الصعيد الوطني، وكانت لهذه الصحوة إيجابياتها وسلبياتها، ومن إيجابياتها هو انتشار الدعوة الإسلامية انتشارًا واسعًا بين أفراد الأمة وذلك بسبب الحريات التي كانت تتمتع بها هاته الأفراد في عهد رئاسة الرئيس السابق الشاذلي بن جديد للجزائر.
ومن السلبيات لهاته الصحوة الإسلامية للشباب المسلم، هو الصراع الذي حصل في الثمانينات من القرن الماضي، بين الشباب المسلم من أجل الزعامة وفرض السيطرة والتحكم في إدارة هذه الحركة الشبانية الإسلامية.
فقد ظهرت في تلك الآونة جماعتان من الإخوة المسلمين على الصعيد الوطني، وهي الجماعة الإقليمية والجماعة العالمية، وظهر معهما الصراع من أجل قيادة الحركة الشبانية الإسلامية.
ومن الشخصيات البارزة في الوطن الجزائري التي تدخلت لإنهاء هذا الصراع بين الجماعتين الشيخ الحبيب فارس.
في أواخر الثمانينات من القرن الماضي، ظهرت على الساحة الوطنية مظاهر عدّة من الفساد الاجتماعي والثقافي والاقتصادي وحتى السياسي لا نظير لها قبل ذلك، الذي لا يَسُرُّ لا حبيبًا ولا عدوًّا، مما أدى إلى تذمر الشيخ منها، فحاول محاربتها بكل الطرق والوسائل، ولا يفوّت فرصة تتاح له إلا وذكرها، وانتقد بشدة المسؤولين الذين بيدهم تسيير شؤون البلاد وبمقدرتهم إزالة هذه المظاهر من المفاسد.
ورغم تقدم الشيخ في السن إلا أنه كان ذا ثقافةٍ واسعة عالية عامة، فهو بحرٌ محيط بـجُلّ القضايا الدينية، التاريخية، الأدبية، الاجتماعية والسياسية، ولا تمل من الإصغاء إليه في أي موضوع يطرقه، ولعلَّ الكثير لا يعرف بأن للشيخ الحبيب فارس نظرات خاصة في الدراسات القرآنية والتفسير. ويظهر ذلك جليًّا في مختلف تفسيراته للآيات القرآنية، وله آراءٌ خاصة في أسباب النزول والإرادة الإلهية وغيرها، وكان يدعو إلى إعمال الفكر الشخصي في فهم الآيات القرآنية وعدم الاكتفاء بما قاله السابقون. أما منهجه في الفتوى فهو يعتمد على اجتهاداته الشخصية، حيث كان يُرجّحُ في بعض القضايا مذهبًا على مذهب آخر يراه مناسبًا للسائل، ولم يكن متعصبًا لمذهب فقهي مُعيّن.
وفاته
في سنواته الأخيرة تعرض الشيخ لمرض عضال أفقده الكثير من نشاطه الحيوي والإصلاحي والدعوي.
ففي سنة 1992م اتضح بأن الشيخ مصابٌ بسرطان البروستات، وأصبحت صحته تتدهور يوما بعد يوم، وبدأت رحـلةُ الآلام والمتاعب تؤُمُّ الشيخَ، وازدادت حدتها وقسوتها في أواخر 1993م. وأنا شخصيًّا أتذكر سماع أنين الشيخ وهو يتألم من أوجاع وآلام هذا المرض الخبيث وهو مُلقَى على سريره مستغيثًا بالله عز وجل قائلا: “ياالله …ياالله…ياالله…”.
وخلال الثلاثة الأشهر الأخيرة من حياته، مكث الشيخ بمستشفى مدينة تبسة في غيبوبة شبه كامـلة، وفي أيامه الأخيرة طلب منّا الشيخ نقله إلى مصحة التوفيق بتونس العاصمة، ونحن أولاده لبيّنا له هذا الطلب، وكنا لا ندري أنه آخر طلب يطلبه منا الشيخ في حياته، وقُمنا بنقله إلى المصحة المذكورة بتونس العاصمة، ولكن الأساتذة الأطباء هناك نصحُونا بإرجاعه إلى أرض الوطن، لأن حالته ميؤوسٌ منها، وتشيء مشيئة الله أن يتوفى الشيخ على الأراضي التونسية وهو عائد إلى أرض الوطن مساء الأربعاء 22 مارس 1994م الموافق لـ 8 شوال 1414هـ.
وبعد وفاته، قررت العائلة الكبيرة دفنه بمدينة بئر العاتر، ولقد عارض هذا القرار الكثيرُ من أهالي مدينة تبسة، واستحبُّوا أن يُدفن الشيخ بمدينتهم.
وبقلوب مؤمنة بقضاء الله وقدره، وفي جو مهيب من الخشوع والتأثر شُيِّعت جنازةُ الشيخ العلَّامة الحبيب فارس في موكب عظيم هزَّ أحاسيس المشيّعين، ودُفن بمدينة بئر العاتر بحضور وفود كثيرة أتت من كل الجهات وذلك يوم الخميس 23 مارس 1994م الموافق لـ 9 شوال1414ه.
وبعد سبع سنوات من وفاة الشيخ قررت السلطة الجزائرية تسمية المركز الثقافي الإسلامي بمدينة تبسة باسمه، وذلك عرفانًا له لما قدم من خدمات جليلة لدينه ووطنه وشعبه، وتمَّ تدشين هذا المركز من طرف وزير الشؤون الدينية السيد أبو عبد الله غلام الله بتاريخ 4 صفر 1422هـ الموافق لـ28 أفريل 2001م. ولقد سُمي أيضًا أحد المساجد الجديدة بالمدينة باسمه تخليدًا لأعمالهِ الجليلة في حقلِ بناءِ بيوت الله وترميمها، ولقد سُمي كذلك أحد الأحياء الجديدة بالمدينة باسمه تخليدا لروحه الزكية.
والشيخ الإمام العلامة الحبيب فارس على الرغم من كل الأعداء الذين عادوه وحاولوا تشويه سمعته والتقليل من شأنه، إمامٌ بمعنى الكلمة -رغم أنف الجميع- أغنى الفقه، ونفعَ الناس، وأقامَ السُّنة وردَّ البِدع، فهو مُجدد الدين في مدينته وفي عصره… وسيظل بنصاعة سيرته، وصلابة مواقفه، عَلمًا من أعلام الفقه الإسلامي، ودعوة مُستمرة إلى التجديد أخطأ أم أصاب…!!
فهو فارسٌ من فرسان الفكر الإسلامي، وستظل المنارات الشامخة فيه مُضيئة على الرغم من كل شيء، تُقدم للأُمَّة الإسلامية، بل تُقدم للإنسانية جمعاء جيلًا بعد جيل عطاءً خالدًا من شُعاع المعرفة، والقوة، وجسارة الكلمة الصادقة الأبية الفاضلة…!!
فاللهم أحيي في خواطر أبنائنا مثله العالي واجعل رضوانك عليه ثواب ما بذل وما قدم، وجزى الله شيخنا الحبيب فارس عن الإسلام خير الجزاء، وجعل اسمه للخلود وروحه للخلد، آمين والحمد لله رب العالمين.