ذكرى مالك بن نبي
بقلم: أ د. عمار طالبي-
أقيمت هذه الأيام ذكرى مالك بن نبي رحمه الله في عدة ندوات، وفي وسائل الإعلام مثل قناة الشروق، التي قام الأستاذ الإعلامي قادة المعروف بهدوئه وإدارته للندوات باقتدار وحنكة.
وكنت تعرضت لسمة بالغة في أعماله وهي منهجه العلمي الذي قلّ من تعرض له، وهو منهج علمي تحليلي رياضي، فكان يحلل الظواهر الاجتماعية كما يحلل الكيميائي مادة الماء مثلا، ويصوغ نتائج تحليلية صياغة رياضية في شكل معادلات أو رسوم بيانية ولذلك أعجب به طلاب الجامعة وخاصة الذين يدرسون العلوم والرياضيات، فكان في ندواته يكتب في السبورة أمامهم هذه التحليلات والمعادلات الرياضية، ومن المعلوم أن الظواهر الاجتماعية ليست كالظواهر المادية يمكن صياغتها في معادلات رياضية دقيقة، مثل معادلات الفيزياء مثلا أو الكيمياء وهو منذ طلبه العلم في باريس يهتم بالرياضيات في دراسته للهندسة الكهربائية، وكان يراجع مدير المدرسة، فيشجعه على طرحه أسئلته، ولا يتردد في مراجعته حينما يحدث له إشكال أو صعوبة ويرى أن أم المشكلات في العالم الإسلامي إنما هي مشكلة الحضارة، ولذلك عني بها، بنشأتها وتطورها في ازدهارها وفي انهيارها، وهو يفرق بين ثلاث أطوار من الحضارة: ما قبل الحضارة وطور الحضارة، وطور سقوطها، ويرى أن مرحلة ما قبل الحضارة مثل المجتمع العربي الجاهلي، فإنه كان على طبيعته وفطرته لم تشوهه مذاهب فلسفية وتيارات فكرية، ومذاهب متصارعة، ولذلك لما جاء الإسلام غيّر الإنسان بسرعة، وأصبح صاحب رسالة يحملها للناس، ويذكر المؤرخون أنه لم يسبق لدين من الأديان أن انتشر بالسرعة التي انتشر بها الإسلام في العالم، فالعربي في الجزيرة لم تتراكم عليه معوقات مذهبية حضارية، فتوجهت طاقته لهذه الرسالة الجديدة الروحية، فكانت بمثابة الجذوة الروحية التي غيرت حياته، فنهض يغير غيره من الناس، وهذا شأن الأفكار التي تغير حال الإنسان وهو بدوره يغير أحوال البشر.
وأود أن أشير إلى صيغة أوردها في كتابه «المسلم في عالم الاقتصاد» فيما يتعلق بفكرة الواجب والحق، فإن الحق يتوقف على الواجب، وبالمعنى الاقتصادي فإن الواجب هو الإنتاج، والحق هو الاستهلاك فإن انعدم الإنتاج فمن أين يتأتى الاستهلاك؟
فإذا كان الواجب أكبر من الحق، فهذه حالة جيدة، وإذا كان الواجب أقل من الحق فهذه حالة الحاجة أو العوز فهناك احتمالات ثلاثة:
في معادلة متراجحة: إنتاج + استهلاك = صفر (المسلم في عالم الاقتصاد ص106).
إن تحويل الطاقات الاجتماعية يخضع لقوانين مختلفة عن مجرد قوانين العملية الميكانيكية، فهي تخضع بالخصوص لنسق النظام الاقتصادي الذي يحتم أن يكون الإنتاج متفوقا على الاستهلاك، وإلا اتجه المجتمع إلى الإفلاس، وصاغ هذا الشرط في صيغة «جبرية» وهي «اللامتساوية»:
[الواجب (أكبر من) الحق] أي يجب أن يكون الإنتاج أكبر من الاستهلاك.
ويلاحظ أن النشاط الاجتماعي في المجتمع الإسلامي يغلب عليه التبديد، ويضعف المحصول، فهناك تبديد مفرط في طاقتنا الاجتماعية، وتبذير مسرف في وسائلنا، ويرى أن هذا يرجع إلى اللافعالية وعجز في أفكارنا.
اتصل بي أحد الإخوان لما سمع أني قلت في ندوة أن الذين حضروا صلاة الجنازة على مالك بن نبي لم يكن جمهورا كبيرا بل كان عددا قليلا من طلابه وعارفيه مقارنا مثلا بجنازة محمد البشير الإبراهيمي، لأن مالك بن نبي كان ذا صلة بالنخبة أكثر منه بالجمهور، وهذا ما تحتفظ به ذاكرتي، وقد أكون غير دقيق في عبارتي ولعل ذاكرة غيري أدق، الله أعلم.