روح مالك بن نبي وفكر ابن خلدون
بقلم: عمار يزلي-
أحد أوجه الخلاف الكبرى التي يمكن أن يجابه بها فكر مالك بن نبي اليوم، والذي نشأ وتربى في أحضان أزمة “الاحتلال” وأزمة “الاستقلال”، والذي عايش “أوج حملة انتشار النهب الدولي والظلم الاستعماري العام على مجمل مناطق العالم العربي والإسلامي”، في إشارة هنا إلى “إرث الرجل المريض” الذي مات!! عايش عن كثب وشهد هذه “الأزمة” الاجتماعية والنفسية، بدءا من التجربة الذاتية، التي يؤكد أنها أثرت عليه وعلى فكره ورؤيته: فهو “مرضوض” على رأي الأطباء النفسانيين، متأزم لما رآه بعينه وسمعه وشهده وهو طفل يوم احتلال فرنسا لقسنطينة.
هكذا، كان هذا النتاج الثقافي الفكري الذي يسمى “بالظاهرة البنابية”، مرتبطا أصلا “بأزمة” إنتاج “المثقف والأنتلجانسيا في الجزائر”، التي أوكلت فرنسا لنفسها مهمة تكوينها وإنتاجها بغية استثمارها في “إعادة إنتاج” فكر الحداثة والعصرنة في الجزائر! هذه الفكرة التي هي أصلا محل تناقض وجدل: الحداثة الغربية التي نشأت من صلب الثورة الفرنسية والأفكار البورجوازية وترعرعت في أتون الصراع بين السانسيمونية والليبرالية من جهة، والتيار المحافظ، الاستعماري بامتياز، الذي يتناقض ضمنيا مع إيمانه بالحرية والعدالة والمساواة! هي نفسها محل أزمة داخلية: أخلاقية وقيمية، لم تتمكن آليات الفكر الغربي الاستعماري من حلها، إلا ضمن أنساق أخرى فيما بعد عندما ستحين فرصة “الاستعمار الحديث” مع الفكر الديغولي والاتجاه الليبرالي الجديد.
مالك بن نبي، هو إذن نتاج جزائري بأدوات مزدوجة، بل ومتعددة، على خلاف الكثير من نخبة الأنتلجانسيا التي أنتجها كيان الاحتلال في الجزائر، والتي تغذت من الفكر الغربي ونمت في ظل “المادية الغربية” الوضعية إن لم نقل تلك “الإلحادية”! نقصد بهم تلك الفئة النخبوية التي أنتجت محليا في سياق “المدرسة الفرنكو ـ إسلامية” أو تلك التي أنتجها “الكوليج” الفرنسي والتي وجدت ضالتها في الفكر الاشتراكي والشيوعي، فارتمت في أحضان النضال من أجل “كرامة العيش” المادي، هاربة من النار إلى الرمضاء.. (مثل كاتب ياسين، محمد ديب..)، أو تلك التي وجدت سبيل تحقيق ذاتها في الليبرالية البرجوازية (ومنهم معظم مثقفي النخبة السياسية والأدبية والفكرية والفنية)، والقليل منهم من انتهج تيارا محاورا ونقديا للفكر الغربي الرأسمالي المسيحي المادي الاشتراكي الإلحادي: مالك بن نبي كان من هؤلاء، إن لم يكن وحيدهم!
هذا إذا استثنينا من هذه المعادلة النخبة الدينية التي نشأت في أحضان النظام الكولونيالي ولكن بشكل مستقل كليا عن الهيمنة الفكرية لهذا النظام، بل على العكس من ذلك: مالك بن نبي في هذا، وهو ابن تبسة ـ قسنطينة مدينة ابن باديس والعربي التبسي.. وباقي علماء الإصلاح الديني الاجتماعي في الجزائر، كان ذلك الغصن الملقم من غصن الإصلاح و”عين أو عود” الفكر المتنور في طرف المعادلة الثانية! فهو المهندس الكهربائي، المزدوج اللغة، الذي عاش في الجزائر كما عاش في فرنسا، وخضع لتلاقح الأفكار الخلاقة، أبدع فكرة أن الدين لا يمكن أن يكون معطلا للتنمية ولا عائقا أمام التطور (الذي بشرت به الماركسية)، ولا حتى كما يقول ماكس فيبر بأن الدين قد يساعد في حركة التطور والتنمية ويمكن أن يكون محركا لها! بن نابي، على عكس ذلك، يرى أن الدين يعتبر عاملا رئيسا وحاسما فيها، وما المخطط المعروف عنده في “شروط النهضة” إلا نموذجا عن هذا الأنموذج الخلدوني الجديد في فهم ظاهرة التطور والتحول في العالم الإسلامي.