حوار الطالب والمشرف بين الأمس واليوم – يحي بوعزيز وأبو القاسم سعد الله أنموذجا
بقلم: الصالح بن سالم-
وأنا أتصفح مجلة الأصالة الجزائرية التي كانت تصدر زمن الأصالة العلمية في عددها 67 الصادر سنة 1979م، واذ بمقال موقع من طرف الدكتور الراحل يحي بوعزيز ساق فيه تجربته مع البحث العلمي بالجامعة الجزائرية، ومختلف المشاكل والصعوبات التي اعترضت سبيله في اتمام اطروحته للدكتوراه، ومن المشاكل التي تحدث عنها المرحوم يحي بوعزيز هي مسألة الاشراف، فقد كان يشرف عليه صخرة علمية شامخة ألا وهو الدكتور والمؤرخ الراحل أبو القاسم سعد الله، فاذا كان الطالب هو المؤرخ يحي بوعزيز والمشرف هو شيخ المؤرخين أبو القاسم سعد الله، فماذا ننتظر من هذا الحوار الشيق بينهما:
فرغم أن الرجلان يتعارفان جيدا من قبل بحكم نشاطهما الكبير خلال الثورة التحريرية في كل من تونس ومصر، واهتمامهما المشترك حول تاريخ الجزائر الحديث والمعاصر، وانطلاقا من هذا المعطى يقول يحي بوعزيز فان أبو القاسم سعد الله كان يتوسم فيه ذلك الطالب النجيب والباحث النحرير، وكانت البداية مع اختيار الموضوع، فسعد الله اقترح على بوعزيز موضوع يستطيع التبحر فيه بحكم الانتماء الجغرافي، فيحي بوعزيز من منطقة الجعافرة ولاية برج بوعريريج وبحكم أن هذه الولاية كانت منطلقا لثورة محمد المقراني وبالضبط من مدينة مجانة، فلن يجد موضوع أقرب لنفسية يحي بوعزيز أحسن من هذا الموضوع حتى يبدع ويتحكم فيه، وبذلك فقد كان الرضى من الطرفين حول هذه النقطة، وشرع بوعزيز في العمل من خلال إعداد خطة وقائمة أولية لمصادر ومراجع البحث من مكتبات وأرشيفات الجزائر وتونس وفرنسا لكن الصدام بين الرجلين كان في مرحلة التحرير، فبعدما قدم بوعزيز الفصل الأول من بحثه في مسودة لمشرفه سعد الله كانت لحظة المواجهة بينهما تلوح في الأفق.
فأبو القاسم سعد الله راهن كثيرا على يحي بوعزيز لمعرفته السابقة واطلاعه على كتاباته في الصحافة التونسية والمصرية لكن كما يقول بوعزيز لم تكن تلك المقالات سوى كتابات صحفية انشائية خالية من المنهج العلمي وأدوات البحث للتعمق في هكذا مواضيع شاقة وصعبة، وفي المقابل فسعد الله على حد وصف يحي بوعزيز يحاسب على الفواصل والضمائر وتركيب الجمل وتكرار الأفكار ومدلول الألفاظ والضمائر العائدة وأسلوب التهميش ونوع الهوامش والتقديم والتأخير للكلمات والجمل وغير ذلك من الملاحظات الدقيقة جدا، ولسواء حظ يحي بوعزيز فقد كان هذا العمل أول أطروحة للدكتوراه يشرف عليها سعد الله سنة 1969م، وقد أبدى يحي بوعزيز امتعاضا شديدا في بداية الأمر من هذه الملاحظات - المحملة بعبارات النقد والتوبيخ من قبل مشرفه - وعرض عليه أن يتنازل عن إشرافه، والسؤال المطروح هنا كيف كان موقف أبو القاسم سعد الله من هذا الطلب ؟
لقد مر أبو القاسم سعد الله بظروف مماثلة أثناء مسيرته العلمية، وقد كان يشعر بهذه المرحلة الصعبة التي يمر بها طالبه يحي بوعزيز الذي يقبل عليه من مدينة وهران إلى العاصمة - رغم أن يحي بوعزيز ولد ونشأ وتعلم في ولاية برج بوعريريج إلا أنه اختار مدينة وهران كمستقر له في التدريس بالجامعة -، وهو ما جعله يهدأ من روعه ويستقبله في بيته بالعاصمة ويكرمه بل ويبيت عنده في كثير من المرات، ويبقى ساهرا معه لساعات طويلة في مراجعة وتحقيق وتدقيق وتعديل وتوضيح مختلف جزئيات البحث، والتي كانت بمثابة الجرعة التي زودت الطالب بكثير من الصبر والأمل والحلم في نفس الوقت لإكمال مشوار بحثه، ولما وصل يحي بوعزيز للمرحلة الأخيرة وهي تقديم العمل للمشرف حتى يبدي له آخر ملاحظاته قبل تقديمه للطبع، كان أبو القاسم سعد الله حازما مع هذه القضية حيث اطلع على الأطروحة أكثر من ثلاثة مرات وأصر على أن لا تقدم للطبع حتى يرى جميع الملاحظات التي أبداها على العمل كيف لا والأطروحة ستقدم للجنة يتقدمها المؤرخ الكبير عبد الجليل التميمي، وهو الذي يعمل على بايلك الشرق وأحمد باي وبذلك فموضوع البحث قريب من هذا المجال زمانا ومكانا، وأثناء المناقشة اكتشف الطالب يحي بوعزيز الوجه الآخر لمشرفه أبو القاسم سعد الله، وذلك من خلال الدفاع المستميت عن طالبه سواء أثناء العرض أو حتى بعد العرض حينما اشتد النقاش والخلاف بين قامتين كبيرتين في البحث التاريخي بل ويمثلان مدرستين في التاريخ المغاربي الحديث ألا وهما المشرف أبو القاسم سعد الله والمناقش عبد الجليل التميمي حول الدرجة التي ستمنح للطالب.
عندما نطلع على هكذا حوار بين طالب أصبح باحث كبير له ما يزيد عن مائة عمل في التاريخ الحديث، ومشرف غطى بأعماله على شمس المعرفة التاريخية بالجزائر إلى يوم كان معلوما، وتتأمل في حوار الطالب والمشرف اليوم... وهنا أتوقف حتى لا تتلطخ الأسطر الذهبية التي كتبتها عن علاقة سعد الله بيحي بوعزيز.
وأسرد قصة أخرى رواها لي أستاذي الفاضل الدكتور بونابي الطاهر حدثت له مع القامة الكبيرة في التاريخ الوسيط الراحل موسى لقبال، ففي مرحلة التحضير لرسالة الماجيستير ورغم أن مشرفه كان الدكتور المحترم عبد العزيز فيلالي، فقد كان الطاهر بونابي لا يجد حرج في استشارة أستاذه موسى لقبال بجامعة الجزائر، ولأجل ذلك ضرب له موعد لمناقشة بعض الأمور المنهجية والمعرفية، ففي الصباح الباكر خرج أستاذنا سي الطاهر من قريتنا الفاضلة عين تاغروت التي تبعد عن العاصمة بأكثر من 250 كلم، وتتصورون معي هذه الرحلة الشاقة في تسعينات القرن الماضي خلال المرحلة الصعبة التي كانت تمر بها الجزائر.
وبعد مشوار دام أكثر من خمسة ساعات وصل الأستاذ بونابي أخيرا إلى قسم التاريخ، وقد فرح كثيرا لما شاهد من بعيد أستاذه موسى لقبال عبر بوابة زجاجية، وأسرع نحوه مبتسما ظانا منه بأن مراده قد اقترب، ولما تقدم منه أكثر نظر لقبال إلى ساعته وأشار بيده لذلك الطالب المسكين الذي كان يحمل أوراق وقلم ومحفظة رثة من غبار الطريق الطويل، وهنا علم الأستاذ بونابي بأنه تأخر قليلا عن موعد اللقاء - قد يتبادر في ذهن بعض القراء عدد الساعات التي تأخر عنها الأستاذ بونابي، في الحقيقة لا تتعدى 10 دقائق - وتصوروا معي جيدا هذا الموقف تقدم الأستاذ بونابي أكثر وتقدم معه المرحوم لقبال للبوابة التي كانت بينهما وأغلقها في وجهه وخاطبه بلهجة جزائرية دارجة معبرة ( في المرة القادمة أسرج خيلك جيدا )، وانصرف وترك سي الطاهر مذهولا وعقله يستعيد شريط الرحلة الشاقة التي قطعها من عين تاغروت إلى الجزائر العاصمة وهي تذهب أدراج الرياح، ورغم أن أستاذنا اغتاظ من هذا الموقف في تلك اللحظة لكنه أدرك جيدا قيمة تلك الدقائق عند هؤلاء الرجال لما أصبح أستاذ ومشرف فيما بعد.
هذه الأسطر المشرقة حول علاقة الطالب بمشرفه تجعلنا نعيد حساباتنا حول هذه القضية الشائكة بأبعادها الأخلاقية والدينية والدنيوية.