الأثر الاجتماعي للعبادات والمواسم الدينية عند ابن باديس
بقلم: د. علي الصلابي-
إن الإسلام أولى اهتماماً بالغاً بالعبادات الإسلامية والمواسم الدينية، لما لها من فاعلية في التأصيل لهذه الظاهرة، وإبراز فاعليتها في تعضيد قوة الفرد، وانتظام أمر المجتمع، وتوثيق عرى الأخوة بين جميع أفراده، وذلك من خلال ما تغرس في نفوس الأفراد وحياة الجماعة من معاني التالف والمحبة والطهر، وما تزرع في ضمير الجماعة من قيم التازر والإتحاد، فتحدث ابن باديس في هذا الإطار عن الزكاة كعامل من أهم عوامل التكافل الاجتماعي الذي يفرض على أفراد المجتمع التعاضد والتعاطف فيما بينهم، مما يجعل من واجبات الجماعة كفالة أصحاب الحاجة من معوزين ومعوقين، وفقراء ومساكين وأيتام وأرامل وأيامى، ويضمن المجتمع لهؤلاء جميعاً ما تدعو إليه الحاجة، من أمور حياتهم الخاصة، من تعليم وإيواء وعطف ومواساة، وما إلى ذلك من ضرورات الحياة الكريمة مما تستوجبه رابطة الأخوة.
فالمسلم الذي يشعر بأخوة الإسلام شعوراً صحيحاً ويعتقدها اعتقاداً صادقاً ؛ هو الذي يشاطر المسلمين في سرائهم وضرائهم ويشركهم معه فيما عنده من خير.
ولم يقتصر في معالجته لهذه الظاهرة والتنوية باثارها الاجتماعية والإنسانية على حدود الوطن الصغير، وإنما بصره على امتداد دار الإسلام والعروبة مهتبلاً مناسبة إحياء أحد المواسم الدينية ـ ليلة الإسراء والمعراج ـ فدعا إلى مشاطرة الإخوة الفلسطينيين في القدس الشريف الامهم ومواساتهم فيما يلقون من إرهاب وظلم على أيدي الإسرائيليين الظالمين، ومد يد العون والإغاثة لهم بالدعاء وبالعطاء، فقد: رُمِّلت الالاف من نسائهم ويُتِّم مثلها من أبنائهم، وضاع عجزتهم ومرضاهم فأكلتهم الفاقة وأنهكتهم الأوصاب وأحاط بهم البلاء من كل جانب.. فلنبادر للقيام بالواجب علينا نحو إخواننا نذكرهم بالدعاء وبرفع البلاء والعطاء لتحصيل القوت والدواء.
وفي هذا الإطار يغتنم فرصة حديثه عن موسم الحج بحثّ الحجاج الجزائريين على الإحسان إلى إخوانهم سكان البقاع المقدسة بما يخفف عنهم ما يعانون من جهد ومشقة واحتياج.
وأما الصلاة، فمن اثارها أنها تعلمنا ـ بأوقاتها المحدودة وبوقوف المصلين فيها صفوفاً منتظمة متراصة النظام والدقة واحترام الوقت، كما تمكن في نفوسنا لعوامل التعارف والألفة والاتحاد بما يعود على أمورنا بالانضباط وعلى أعمالنا بالاطراد.
فهكذا ينبغي للمسلم أن يقسم أوقاته على أعماله ويعمرها كلها بالخير، وكما ربط الله صلاته بالأوقات وهي من أمور دينه، كذلك يربط هو بالأوقات جميع أمور دنياه.
وأما الصوم فيحرر روح الصائم من سلطان المادة، ويرقى بها إلى افاق سامية وكمالات علوية: فيحرر روحهم من سلطان الشهرة وسلطان المادة ويسمو بنا إلى عالم علوي ملكي من الطهر والكمال.
كما يقوي الصوم إرادة الفرد ويعوده الصبر والثبات ويرجع على صحته بالتحسن، ويقوي إحساس الغني بمعاناة الفقير، بما يحمله على التعاطف معه والإحسان إليه.
وأما ما يعود من ذاك على الأمة فيظهر في مدى فاعلية تلك الشعيرة في توطيد عرى الأواصر بين الأمة وبين دينها من جهة، والرفع من جهة ثانية من قدرتها على تحصين مقوماتها الشخصية، والتصدي لما يستهدفها من عوامل الاستلاب والتذويب، وتعزيز إمكاناتها الجهادية للتغلب عما يحول بينها وبين أهدافها من مخاطر وأطماع: إن الظهور بمثل هذه المظاهر الدينية لمماً يزيد في إحكام الرباط الملي وتوثيقه، وإن الشعب كلما كان قوياً دؤوباً على القيام بمقدساته، كان قوياً على مقاومة العوامل الهدامة.
وعمل ابن باديس على أن يسمو بشخصية الفرد، ويحصّن كيان المجتمع في حديثه عن المواسم الدينية «عيد الفطر» و«عيد الأضحى» و«الإسراء والمعراج» و«المولد النبوي الشريف».
وقد قال في هذه الذكرى العظيمة الخالدة أكثر من عمل شعراً ونثراً، ومن شعره، تحية المولد الكريم، والقومية والإنسانية.
ومما جاء في قصيدته الأولى قوله مخاطباً جمهور الحفل الذي يحيي المولد النبوي الشريف:
أحييت مولد من به حي الأنام على الحقب
بالعلم والآداب والأخلاق في نشء عجب
نشء على الإسلام أسس بنائه السامي انتصب
نشء بحــــــــب محــــمد غذاه أشيـــــــــــــاخ نجب
فيه اقتدى في سيره وإليه بالحق انتسب
أما نثره فيتمثل في جملة من الخطب قالها في هذه الذكرى، وقد أطل فيها إطلالة هادفة على الواقع تصويراً، ونهوضاً به، وقد أولى في هذا الباب عناية كبيرة بتوجيه الأمة وحثها على الإفادة من ذكرى ميلاد رسولها العظيم محمد (ص) بما يعمق روحها بالشعور بالتطلع والرقي والكمال ويقوي في نفسها العزم على اهتبال هذه الفرصة للإقبال على تجديد حياتها:
فلنجعل يوم ولادته من كل عام يوماً نعزم فيه على تجديدنا تجديداً روحياً وعقلياً وأخلاقياً وعملياً وتاريخياً، تجديداً إسلامياً محمدياً في جميع ذلك، لنولد في عامنا ولادة جديدة، وهكذا نجدد ونتجدد في كل ذكرى مولد.
ونخلص من هذه الوقفة عندما جاء في آثار الإمام من نتاج في العبادات الدينية والمواسم الإسلامية إلى التأكيد عما في ذلك من بيان أثر تلك العبادات والمواسم في السمو بالسلوك الفردي والاجتماعي إيجاباً وسلباً ويتجلى ذلك بشكل خاص فيما يجب أن يطبع أخلاق الفرد من طهر وكمال، وفيما ينعكس على أوضاع المجتمع من رقي وانسجام.
إن ابن باديس ـ رحمه الله ـ كان يرى:
ـ أن الأخلاق الفاضلة ركن ركين في تزكية النفس وتقويم السلوك، وترقية المجتمع والنهوض به، وأما المفاسد فتنحط بشخصية الفرد وتضعف من قدرة المجتمع على العطاء الراشد والمساهمة الفاعلة في مسيرة الحضارة الإسلامية.
ـ لم يتناول ابن باديس الأخلاق من منظور فلسفي على اعتبار أنها قواعد نظرية مجردة، وإنما كان تناوله لها بصفتها قيمة اجتماعية سلوكية ترتكز أساساً على هداية القرآن والسنة النبوية الشريفة وهدى السلف الصالح، ويتجلى ذلك في الميدان تحلياً بالفضائل وتخلياً عن الرذائل ؛ بما يزكو بالنفس ويحدّ من نزواتها ويسمو بالسلوك ويرقى به إلى معارج الرقي والكمال الإنساني.
ـ يرتكز حديث ابن باديس عن الأخلاق على الدعوة المباشرة إلى التحلي بالفضيلة والتخلي عن الرذيلة من دون الشعور بالحاجة إلى شيء من التدليل على أهمية ذلك في حياة الأمة، لاعتقاده أنها تدرك ذلك من موروثها الديني والاجتماعي، بالرغم مما ترسف فيه من جهل وجمود وتقليد.
ـ لم يوقف ابن باديس على موضوع الأخلاق باباً مستقلاً بها في تراثه، يديره على تحليل اثارها إيجاباً وسلباً في حياة الفرد والمجتمع، وإنما كان يعالج ذلك من خلال نظرات مبثوثة في مواطن كثيرة من نتاجه في ثنايا مقالة أو في صلب خطبة، أو في معرض تفسير آية أو شرح حديث، فكان وهو يتحدث في هذه الأشكال عما يتحدث لا يفوته أن يقف وقفة هنا وأخرى هناك يحث على التجمل بهذا الخلق أو التخلي ضده.
وإن إدراك ابن باديس لهذه الأهمية التي تتمتع بها الأخلاق الحميدة في حياة الإنسان من نحو وحرصه من نحو ثان على السمو بالسلوك الفردي والاجتماعي.
إن هذا وذاك دفعا به على أن يولي عناية خاصة بعنصرين اثنين من عناصر المجتمع، وهما المرأة والشباب لما لهما دون غيرهما من الفئات الاجتماعية الأخرى من مكانة فاعلة مؤثرة في حياة الأمة، وقد خصهما بهذه المكانة بشيء من اهتمامه، إبرازاً لدورهما في المجتمع وحرصاً على النهوض بهما تربية وتعليماً وتوجيهاً.
من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج2)