مالك بن نبي يجيب عن هذا السؤال؟!
بقلم: محمد سليم قلالة-
كثيرا ما نسمع اليوم مقارناتٍ بيننا وبين الدول الغربية المتقدّمة ماديا، خاصة في الأوساط الشابة، في مجال التنظيم والحريات والمرافق والتعليم والصحة والنظافة والبيئة وما إلى ذلك. وغالبا ما تفضي مثل هذه المقارنات إلى مزيد من اليأس والإحباط، وتدفع أحيانا حتى إلى السير في طريق الانتحار…
وأنت سائر، تَسمع مَن يصف مشهدا لرئيس وزراء هناك في طابور ينتظر دوره، أو وزير يتنقل عبر دراجته الهوائية أو قطار في اليابان لا يتأخر سوى دقيقة واحدة في السنة، ناهيك عن المقارنة بين شوارعنا وشوارعهم، أحياءنا وأحياءهم… الخ. وحصيلة مجال المقارنة دائما وبالضرورة سالبة جنوبا موجبة شمالا… مُنشِئَة لمزيد من الإحباط في أنفسنا وأحيانا مُؤجِّجَة لعوامل الثورة بداخلنا حتى نكاد ننفجر.
هل هذه المقارنات صحيحة ومقبولة؟
لم أجد أفضل من مالك بن نبي رحمه الله يجيب عن هذا السؤال.
في محاضرة ألقاها على هامش مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة سنة 1968 (منشورة على اليوتوب)، تناول هذه المسألةَ بعمق فيلسوفُ الحضارة المتمكّن، وقدّم لنا الجواب الذي علينا إعادة قراءته ولو بعد أكثر من 50 سنة.
كانت المناسبة أثناء تعليقه عن كتاب صدر أنذاك للكاتب “ماكسيم روندنسون” عن العرب والغرب، إذ يقول إن هذا الكِتاب رغم المعلومات الكثيرة التي احتواها إلا أنه يبقى قائما على حجج سفسطائية هدفها التشكيك في مدى إمكانية بناء الإسلام للحضارة، ويسعى لترسيخ عقدة النقص والركود لدى المسلمين. ينطلق “ماكسيم روندنسون” من مقدمة صحيحة تقول إن كل مسلم يعتقد أن الإسلام أفضل الأديان، ومقدمة وسطى تقول إن المسلم يرى المجتمع الإسلامي متخلفا اليوم، ليوصِل العقلَ المسلم ضمنيا إلى حالة من الشك في كون دينه هو أفضل الأديان ما دام أوصله إلى هذا الحال. وهي مقارنة يقول مالك بن نبي تُعبِّر عن “الجهل في أفظع صوره بقوانين التاريخ وعلم الاجتماع”. وذلك لسبب رئيس أهمله الكاتب له علاقة بنسيان حقيقة جذرية في التاريخ وعلم الاجتماع، وهي أن لكل حضارة دورة حضارية و”أن هذه الدورة الحضارية لها قانون يفرض عليه ألاَّ يقارِن بين حضارتين وبين مجتمعين ليسا في نفس النقطة في دورتهما الخاصة”، إما “نُقارن بين حضارتين في أوجهما أو في انحطاطهما”؛ أي لا يمكننا أن نقارن بين حال الغرب اليوم الذي هو في أوجِّه وبين العالم الإسلامي الذي هو في طور نهضوي في أحسن الأحوال. ويضرب مثالا على ذلك بخطأ المقارنة بين طفل صغير عمره ست سنوات ورجل في عنفوان شبابه، أو القول لماذا لا يستطيع الأول حمل نفس الأثقال التي يحملها الثاني، ذلك أن المقارنة الصحيحة تستلزم النظر لحالهما عندما كانا في نفس العمر.
لعل هذا التنبيه الفكري والحضاري يساعدنا اليوم لتجاوز حالة اليأس والقنوط التي يعيشها شبابنا على وجه الخصوص، لاسيما وأن أساليب التأثير على العقل المسلم، لزرع عقدة النقص واليأس بداخله، لم تعد الكتابَ الورقي بتأثيره المحدود كما في عهد “روندنسون”، بل انتقلت إلى وسائل جديدة تحملها شبكات التواصل الاجتماعي صوتا وصورة نادرا ما نُدرك الغاية منها.
فلِنتوقف عن المقارنات غير العلمية، والسفسطائية والدعائية، ولننظر إلى مجتمعاتنا كما هي ضمن دورتها الحضارية الخاصة، ولنسعَ إلى تطويرها… إن من بين أسباب تفشي منطق اليأس هو مثل هذه المقارنات المنافية لقوانين التاريخ وعلم الاجتماع والفقه السنني بشكل عام. علينا تجاوزها واستبدالها بالتفكير العلمي القائم على الأخذ بالأسباب من أجل الانتقال إلى مستوى أعلى في دورتنا الحضارية الخاصة. “وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ” صدق الله العظيم.