لمحات من إسهامات الإمام ابن باديس في الفقه وأصوله

أ.د. مسعود فلوسي -

خلال الخمس والسبعين سنة التي أعقبت وفاة الإمام عبد الحميد ابن باديس رحمه الله، لم يتوقف الكتاب والباحثون عن دراسة تراث الإمام وتحليله واستجلاء مختلف جوانبه، وذلك أكبر دليل على ثراء الشخصية الباديسية وغناها وتنوع مجالات نبوغها وريادتها.

وقد سبق لي أن كتبت عن الإمام ابن باديس في مناسبات مختلفة، ومن جوانب متعددة، كما كتب غيري من الباحثين والكتاب مؤلفات وأبحاثا ومقالات تَنِدُّ عن العَدِّ والحصر. واليوم، ونحن نُحْيِي ذكرى مرور خمسة وسبعين عاما على وفاته رحمه الله، أستجيب لطلب إدارة جريدة "البصائر" بالكتابة عن إسهامات الإمام في الفقه الإسلامي وأصوله؛ إبرازا لهذا الجانب من شخصيته، وتعريفا للقراء بما تركه من تراث في هذا المجال الهام من مجالات المعرفة الإسلامية.

من بواكير الدراسات  في الموضوع

بداية أقرر أن هذا الجانب من شخصية الإمام رحمه الله حظي باهتمام عدد من الأساتذة والباحثين، كما كان الحال بالنسبة لغيره من جوانب شخصيته، ولعل أول من اهتم بالموضوع هو أستاذنا الدكتور عمار طالبي الذي تولى إخراج أمالي الإمام ابن باديس في أصول الفقه، في كتاب بعنوان (مبادئ الأصول)، والذي أصدرت طبعتَه الثانية المؤسسةُ الوطنية للكتاب سنة 1988م، في ست وخمسين صفحة، وصدرت منه طبعة جديدة منقحة عن دار ثالة في الجزائر العاصمة، سنة 2006، بعنوان (خلاصة في علم الأصول للإمام عبد الحميد بن باديس) وفي آخره (إملاء للإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس في مصطلح الحديث). ثم تلاه الأستاذ محمد الحسن فضلاء رحمه الله أحد تلاميذ الإمام، حيث أخرج آيات وأحاديث الأحكام التي انتخبها الإمام وأملاها على تلاميذه في كتاب بعنوان (أصول الفقه من آيات وأحاديث الأحكام)، صدر في طبعته الأولى عن دار البعث في قسنطينة سنة 1405هـ، 1985م، في أربع وستين صفحة.

أما الكتابة الدراسية التحليلية في الموضوع، فلعل أول من سبق إليها هو الدكتور عبد اللطيف عبادة، الذي كتب بحثا من حوالي ثلاثين صفحة بعنوان (الاجتهاد عند الشيخ عبد الحميد ابن باديس)، ألقاه في ملتقى الفكر الإسلامي السابع عشر الذي عُقِدَ بمدينة قسنطينة في شوال 1403هـ، يوليو 1983م، وصدر في الجزء الرابع من الكتاب الذي جمع أعمال الملتقى، ثم أعاد نشره في العدد 86، من مجلة (الثقافة) الجزائرية، الصادر في رجب 1405هـ/ مارس، أفريل 1985م.

تلت ذلك مساهمة مجلة (الموافقات) التي كان يصدرها المعهد الوطني العالي لأصول الدين في الجزائر العاصمة، والتي خصصت ملفا كاملا امتد على حوالي خمسمائة صفحة من عددها السادس والأخير الصادر في السنة الجامعية 1418-1419هـ/ 1997-1998م، تضمن عددا من الأبحاث والدراسات لأساتذة وباحثين من مختلف جامعات الوطن، وقد تناول أربعةٌ منهم بالتحليل إسهامات الإمام ابن باديس في الفقه الإسلامي، حيث كتب الأستاذ الدكتور محمد حسين مقبول مقالا عن (فقه الإمام عبد الحميد بن باديس) من عشر صفحات، وكتب الدكتور عبد المجيد بيرم بحثا بعنوان (أصول فتاوى الشيخ عبد الحميد بن باديس ومميزاتها) في ثلاث وثلاثين صفحة، أما الدكتور محمد عيسى فقد حرر بحثا من أربعين صفحة، بعنوان (خصائص الفقه الباديسي ومعالم المدرسة الفقهية الباديسية في ضوء آثار الإمام ابن باديس)، بينما تناول الدكتور مسعود فلوسي بالعرض والتحليل (البُعد المقاصدي في منهج التغيير عند الإمام عبد الحميد بن باديس) في ثمان وعشرين صفحة.

جاء بعد ذلك بعدة سنوات البحث الذي كتبه الدكتور محمد دراجي في العدد العاشر من مجلة الصراط التي تصدرها كلية العلوم الإسلامية بجامعة الجزائر، ذو القعدة 1425هـ/ ديسمبر 2004م، بعنوان (المرجعية الفقهية المالكية عند الشيخ عبد الحميد بن باديس)، في خمس وعشرين صفحة.

وفي العدد الثاني من السنة الرابعة من مجلة (رسالة المسجد) التي تصدرها وزارة الشؤون الدينية والأوقاف، والذي ظهر في ذي الحجة 1427هـ/ نوفمبر 2006م، وقفنا على مقال للدكتور السعيد رحماني بعنوان (مقاصد الشريعة الإسلامية عند ابن باديس) من عشر صفحات.

اهتمام باحثي الدراسات العليا بفقه ابن باديس

هذه البحوث والمقالات التي سبقت إلى البحث في الموضوع، كانت بمثابة أرضية أولى مهدت لرسائل جامعية أعدها طلاب الدراسات العليا للحصول على الماجستير والدكتوراه في العلوم الإسلامية من بعض الجامعات الجزائرية.

نذكر منها الرسالة التي نالت درجة الماجستير في الفقه والأصول من جامعة الأمير عبد القادر بقسنطينة سنة 2011م، وكانت بعنوان (الشيخ العلامة عبد الحميد ابن باديس - رحمه الله - وجهوده الفقهية)، والتي أعدها الطالب نصر الدين سلطاني، تحت إشراف الأستاذ الدكتور نذير حمادو، وجاءت في 250 ورقة.

ومنها كذلك الرسالة التي نالت درجة الماجستير في الكتاب والسنة من الجامعة نفسها سنة 2012م، وعنوانها (فقه الحديث عند الإمام عبد الحميد بن باديس)، وقد أعدها الباحث سيداتي ولد محمد، تحت إشراف الأستاذ الدكتور مختار انصيرة، وجاءت في 166 ورقة.

وهناك أيضا مذكرة الماجستير التي عنوانها (الفكر المقاصدي عند ابن باديس من خلال آثاره)، والتي نوقشت بكلية العلوم الاجتماعية والعلوم الإسلامية في جامعة أدرار، خلال السنة الجامعية 2008-2009م، وقد أعدها الطالب عبد الخالق قصباوي، تحت إشراف الدكتور نور الدين طوابة، وضمت 211 ورقة.

وفي الطريق رسائل أخرى في طور الإعداد يُنتظر أن ينتهي منها أصحابها وتتم مناقشتها، في بعض الجامعات الجزائرية، تعالج موضوعات ذات صلة بإسهامات الإمام ابن باديس في الفقه والأصول والمقاصد، منها رسالة ماجستير مسجلة في كلية العلوم الإسلامية بجامعة الجزائر بعنوان (الإمام عبد الحميد ابن باديس وآراؤه الفقهية)، ورسالة دكتوراه مسجلة بنفس الكلية والجامعة بعنوان (المنهج الأصولي والمقاصدي للإمام عبد الحميد بن باديس-رحمه الله-: دراسة استقرائية تحليلية)، ولعل هناك رسائل غيرها مسجلة في جامعات أخرى لم يتسن لنا الاطلاع عليها.

ابن باديس الفقيه المصلح

أرى أنه من اللازم أن نقرر؛ أن الإمام عبد الحميد ابن باديس رحمه الله كان رجل إصلاح وتغيير، سعى بكل ما أوتي من جهد وقوة لأن يغير حال المجتمع الجزائري من الضعف إلى القوة، ومن الخمول والموت إلى النهوض والحياة. ولكي يحقق هذا الهدف فقد سلك إليه السبيل الأمثل والأنجع، ألا وهو مخاطبة الأمة بدينها وإعادتها إلى مرجعيتها وربطها بأصولها الحضارية، ولابد لتحقيق ذلك من التسلح بالعلم الشرعي والإحاطة به أصولا وفروعا، وخاصة منه ما تعلق بالأحكام الشرعية التي تهم الناس في مختلف شؤون حياتهم، والتي يحرصون على معرفتها حتى يصححوا علاقتهم بالله عز وجل وصلتهم برسوله صلى الله عليه وسلم.

وقد وظف الإمام ابن باديس رصيده الواسع من العلم الشرعي، الذي حصله من حفظِه للقرآن الكريم منذ نعومة أظفاره ودراساتِه في كتب السنة الشريفة، ومن مجالسته لكبار العلماء في جامع الزيتونة بتونس، ومن قراءاته ومطالعاته الواسعة في كتب التراث الإسلامي، في عمله الإصلاحي التغييري، هذا العمل الذي بدأه بمفرده أولا بعد عودته من تونس سنة 1912م، ثم تعاون فيه مع إخوانه من العلماء بعد تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين سنة 1931م.

وقد أجرى الإمام عمله الإصلاحي على مقتضى قواعد الشريعة ومبادئها المحكمة، وتوخى منه تحقيق مقاصد الشارع الحكيم التي لا تخرج عن جلب المصالح ودرء المفاسد في مختلف شؤون الحياة الدينية والدنيوية.

ابن باديس الفقيه المعلم

كان أبرز مجال استخدم فيه ابن باديس الفقه، هو التعليم، حيث كان يلقي على تلاميذه في الجامع الخضر دروسا في الفقه الإسلامي وأصوله، يحرص من خلالها على تعليمهم نصوص الكتاب والسنة المتعلقة بالأحكام العملية، ويشرح لهم معانيها الظاهرة ويشير إلى بعض المعاني المستترة وسبل إدراكها، فقد كان رحمه الله، كما يذكر الأستاذ محمد الحسن فضلاء عليه رحمة الله، "يربي أبناءه وطلبته على القرآن والسنة، ويربط اهتماماتهم بهما، ويغذيهم بأمثلة من واقع الحياة وصورها، ويعلمهم كيف يضعون أصابعهم على الداء والدواء بما يستمده لهم من أسرارهما، ويدربهم على المقارنة والاستدلال، ويدخل بهم في متاهات كتب الفروع، ويخرج بهم وقد شدها وثيقا بالأصول.. كان يدرس في الفقه (مختصر الشيخ خليل) و(أقرب المسالك) و(الرسالة) لابن أبي زيد القيرواني وغيرها من كتب الفروع حقا، ولكنه لا يكتفي بظاهرها وتوضيح مسالكها، وتقرير أحكامها فحسب، بل يعود بها إلى الأصل ليربطها به، حتى يحرر طلبته من ربقة التقليد الأعمى، فتتحرر نفوسهم، وتستمد الأحكام من الأصل الذي لا شائبة له".

وفي خلال هذه الدروس ألقى عليهم أماليه في (أصول الفقه)، والتي لخص فيها بدقة وإيجاز زبدة علم الأصول والقواعد اللازم الإحاطة بها لتكوين الملكة الفقهية. فعلى الرغم من الإيجاز الذي طبع هذه الأمالي إلا أنها تضمنت جل المباحث الأصولية المعروفة، من تعريف العلم، ومباحث الحكم الشرعي بقسميه التكليفي والوضعي، ومباحث الأدلة النصية والاجتهادية، وقواعد الدلالات والبيان، إضافة إلى مباحث الاجتهاد والتقليد. وقد حرص الإمام رحمه الله على تقديم قواعد علم أصول الفقه لتلاميذه مجردة عن تشعباتها والجدل الذي دار بشأنها، وكان يحيلهم لمعرفة تطبيقاتها في مختلف أبواب الفقه إلى كتاب (مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول) للإمام الشريف التلمساني، ليطلعوا من خلاله على كيفية تطبيق الفقهاء لهذه القواعد على المسائل المختلفة، وتنوع مناهجهم في ذلك، حتى ينشأوا مدركين للتنوع المنهجي في البحث الفقهي، ويقدروا المذاهب الفقهية حق قدرها، وأن وجودها واختلافها في بعض المسائل أمر طبيعي.

وقد شرح هذه الأمالي الشيخ الدكتور محمد علي فركوس، وأصدر في ذلك كتابا بعنوان (الفتح المأمول شرح مبادئ الأصول). كما نظمها الأستاذ محمد بن محفوظ بن المختار فال الشنقيطي وأخرجها في كتاب بعنوان (جواهر الدرر في نظم مبادئ أصول ابن باديس الأبر).

كما ألقى الإمام ابن باديس على تلاميذه في تلك الدروس أيضا أمالي جمعت أهم النصوص الشرعية من الكتاب والسنة التي تضمنت أحكاما فقهية، وهي ما يسمى بآيات وأحاديث الأحكام. وقد قصد رحمه الله من تلك الأمالي ربط الطلبة بمصادر الشريعة مباشرة، وتكوين الملكة الفقهية الاجتهادية في أذهانهم، حتى ينشؤوا ميالين إلى الاعتماد على الأدلة بعيدين عن الاكتفاء بالتقليد والتعصب المذهبي غير المستند إلى دليل.

الفتوى الباديسية

المجال الثاني الذي تجلى فيه فقه ابن باديس، هو مجال الفتوى، فالإمام رحمه الله في إطار عمله الإصلاحي التغييري الذي تولاه باعتباره عالما عاملا، كان يتلقى الكثير من الأسئلة التي كانت تأتيه من مناطق مختلفة من الوطن، فيتولى الإجابة عنها وبيان حكم الشرع فيها، وينشر فتاويه في ركن خاص من مجلته الشهيرة (الشهاب)، وهذه الفتاوى كانت مصطبغة بطابع الواقع الذي كانت تعيشه الجزائر خلال النصف الأول من القرن العشرين، والذي كان يتميز بالممارسات الاستدمارية الرامية إلى إحكام القبضة على الجزائر والجزائريين من جهة، ومن جهة أخرى كان يتميز بتفشي الجهل والأمية وغياب الوعي في الأوساط الشعبية الجزائرية.

وقد جاءت فتاوى الإمام ابن باديس رحمه الله معالجة لهذا الواقع من خلال الكتاب والسنة وقواعد الشريعة، مستهدفة إصلاح الأوضاع وتغيير الذهنيات وإشاعة الوعي الصحيح بأحكام الشرع، بعيدا عن الخرافات والأباطيل والبدع التي كان الاستدمار دائبا على التمكين لها بواسطة أذنابه من رجال الطرق الصوفية المنحرفة.

وقد قدم أخونا الدكتور عبد المجيد بيرم في بحثه السابق الذكر عرضا مفصلا لأصول فتاوى الإمام ابن باديس، حيث أكد أنها تستند إلى الكتاب والسنة وعمل السلف الصالح وإجماع علماء الأمة والقياس الصحيح ومراعاة مقاصد الشارع الحكيم. كما تحدث عن خصائص ومميزات تلك الفتاوى، فبين ـ بالأمثلة والشواهد ـ أن منهج الإمام في الفتوى تميز بالوسطية بعيدا عن تنطع المغالين والمتشددين ومتجافيا عن تساهل المتساهلين، وبالإنصاف لأهل العلم، وبالحرص على النصح والبيان، كما أن فتاويه كانت تصدر في غاية من الوضوح والدقة، إضافة إلى الجرأة والصراحة في إعلان الحق، ومراعاة أحوال المستفتين وظروف الواقع.

ابن باديس فقيه المقاصد

أشرت فيما سبق إلى بحثي الذي صدر في مجلة الموافقات بعنوان (البعد المقاصدي في منهج التغيير عند الإمام ابن باديس)، هذا البحث أعدت النظر فيه بعد ذلك ووسعته حتى بلغ ستين صفحة، وجعلته الفصل الثالث من كتابي (الإمام عبد الحميد بن باديس لمحات من حياته وأعماله وجوانب من فكره وجهاده) الذي صدر عن دار قرطبة في الجزائر سنة 2006م، في هذا الفصل أبرزت الفقه العميق للمقاصد عند الإمام رحمه الله، وأكدت بالشواهد أن الإمام كان على معرفة وإدراك شامل لمقاصد الشريعة نظريا، ومعرفة دقيقة بكيفية تفعيلها في مختلف مجالات التعامل مع الواقع عمليا، وقد راعى هذه المقاصد وسار على وفقها في كل تحركاته، تعليما ودعوة وإفتاء وكتابة ومواقف. مما كان له أبلغ الأثر فيما حققه من نتائج باهرة على مستوى الواقع العملي للمجتمع الجزائري.

وكما سبق أن أشرت فقد قام الباحث عبد الخالق قصباوي بتناول الموضوع بمزيد من الدراسة والتحليل، فأنجز فيه رسالة علمية نال بها درجة الماجستير في العلوم الإسلامية من جامعة أدرار سنة 2009م.

أخيرا نقول: إن مقالا في جريدة لا يمكنه أن يحيط بموضوع واسع متشعب كهذا، ولذلك نكتفي بالإحالة إلى البحوث والدراسات التي سبق ذكرها في بداية هذا المقال، لكننا نؤكد في الأخير أن فقه ابن باديس كان فقها واقعيا بأتم ما تدل عليه هذه الكلمة من معان، فالرجل كان يعالج الواقع الصعب بصفة مباشرة، ويسعى إلى تغييره بكل ما أوتي من جهد وقوة، ولم يكن له من سلاح في ذلك سوى علمه وتقواه وصدقه في العمل والإنجاز، وتمسكه بمحكمات الشرع وقواعده وراعاته لمقاصده وغاياته. وقد آتت جهوده أكلها، ولم يغادر الدنيا حتى أراه الله بعض آثار تلك الجهود في واقع الأمة الجزائرية، والتي تكللت ـ بعد وفاته رحمه الله بسنوات قليلة ـ بالثورة على المستدمر الفرنسي وأعوانه، لتنتهي بالتحرر من ربقته والتخلص من تسلطه.

رحم الله الإمام ابن باديس وأسكنه فسيح جناته، وألهمنا السير على نهجه ومبادئه.

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.