سيرة خير جمعية أخرجت للناس
بقلم: نور الدين رزيق-
بتاريخ (2021.5.5) تمر تسعون عاما على تأسيس “خير جمعية أخرجت للناس في الجزائر”، إنها “جمعية العلماء المسلمين الجزائريين”، وإليكم هذا العرض الموجز الكامل المتكامل إذ ينقل إليك أهم محطات سيّرة هذه الجمعية العريقة ،صانعة الشخصية الجزائرية.
وقد لخصت هذه المحطات التاريخية فيما يلي مستعينا بما كتبه الأستاذ جدواني عليه رحمة الله:
– الفكرة: ولدت في المدينة المنورة، أثناء لقاء الشيخ عبد الحميد بن باديس بالشيخ الإبراهيمي، عام 1913، وهو يؤدي فريضة الحج.
–ابن باديس يبدأ الدعوة بالتدريس في مسجد الأربعين شريفا، بقسنطينة، عال 1914
– التفكير في الجمعية، بدأ حين فكر الشيخ ابن باديس في تكوين جمعية تحمل اسم “جمعية الإخاء العلمي” عام 1924م.
– النواة الأولى للجمعية: سنة 1928، وكانت تضم الطلبة العائدين من جامع الزيتونة بتونس، والمشرق العربي، ومن بين هؤلاء: الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، والشيخ الطيب العقبي، والشيخ مبارك الميلي، والشيخ العربي التبسي، والشيخ السعيد الزاهري، والشيخ محمد خير الدين (وجميعهم في دار البقاء الآن).
تأسيس جمعية العلماء المسلمين يوم 5 ماي 1931.
من اللطائف الربانية أن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين تأسست في الجزائر، وفقا للحديث النبوي الشريف الذي رواه أبو داوود، والحاكم، والترميذي –عليهم رحمة الله- عن أبي هريرة –رضي الله عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها..
ومبدؤها الآية الكريمة رقم 11 من سورة الرعد: { إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} وهو الشعار الذي حمله دعاة النهضة الإسلامية: جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده.
وفي التجديد مبدؤها الآية نفسها.. وكان تأسيس الجمعية ردا على الاحتفال الضخم الذي أقامته فرنسا بمناسبة مرور قرن كامل على احتلالها للجزائر (5 جويلية 1830-5 جويلية 1930) وقد حضر هذه الاحتفالات رئيس الجمهورية الفرنسية نفسه، وكان مقدرا لها أن تستمر ستة أشهر، ورصدت لها الأموال الطائلة.
وقد باتت تعتقد أن الجزائر أصبحت: فرنسية، وطنا وأمة، وأنها تتكون من ثلاث عمالات تابعة لفرنسا (وهران- الجزائر قسنطينة) وأن لغتها الرسمية هي اللغة الفرنسية، وأن دينها هو الدين المسيحي الذي كان دين المستعمرات الرومانية التي كانت خاضعة للإمبراطورية الرومانية قبل الفتح الإسلامي.
شعار الجمعية:
وأعلنت الجمعية شعارها الخالد، صرخة مدوية في وجه الباطل الاستعماري، شعارا يتمثل في الثلاثية المتكاملة: “الإسلام ديننا- والعربية لغتنا- والجزائر وطننا” وبذلك أفسدت على الاستعمار مخططه الذي يعتمد على محاور ثلاثة:
محو الإسلام من الجزائر.
محو اللغة العربية.
محو الأمة الجزائرية برمتها، وإنكار وجود أمة، أو دولة جزائرية، كانت في يوم من الأيام تطعم شعب فرنسا الجائع (الثورات والانتفاضات من عهد الأمير عبد القادر والمقراني إلى الحداد كلها ثورات يغذيها الإسلام).
وقد اتخذت الجمعية لتجسيد هذا الشعار الثلاثي الكلمات: المسجد الحر، والمدرسة الحرة، والنادي، والصحيفة، والكشافة الإسلامية التي تنشئ البراعم الجزائرية على حب الوطن، والتمسك بالمبادئ الإسلامية.
وتكونت جماعة من العلماء برئاسة الشيخ عبد الحميد بن باديس، تشرف وتسير، وتنفذ البرامج.
وأنشأت المدارس الحرة لتعليم اللغة العربية، والتربية الإسلامية لتنشئة جيل من البنين والبنات متشبعا بالروح الإيمانية والوطنية، فهم عماد الجيل الصاعد الذي سيحمل المشعل في المستقبل القريب.. ووصلت المدارس إلى نحو من ثلاثمائة (300) مدرسة حرة.
* إلقاء دروس الوعظ والإرشاد لعامة المسلمين في المساجد الحرة، والجولان في أنحاء الوطن لتبليغ رسالة الإصلاح لجميع الناس، وكذلك لرواد بيوت الله التي بنتها من تبرعات هذه الأمة رغم الفاقة، ووصلت المساجد التي بنتها الجمعية إلى حوالي مائة (100) مسجد.
* الكتابة في الصحف والمجلات، لتوعية طبقات الشعب على اختلاف مشاربهم، وميولاتهم.
* إنشاء النوادي العربية للاجتماعات الدورية وإلقاء الخطب والمحاضرات وعلى رأسها نادي الترقي الذي يشهد ميلاد جمعية العلماء وقد وصلت النوادي قرابة مائتي ناد (200).
* إنشاء فرق الكشافة الإسلامية الجزائرية للشباب في كافة أنحاء البلاد.
وهكذا؛ فإن ابن باديس علم أصحابه أولا العقيدة والإسلام ثم سلحهم بالسيوف وأدوات القتال كما هو الشأن في أول الدعوة التي استمرت 13 عاما، ثم انقلبت إلى القتال في أول لقاء بين الشرك والإيمان في غزوة بدر.
الوعي سبب انتصار الثورات:
لقد أدرك ابن باديس وصحبه الكرام أهمية الوعي في الانتصار أو الانكسار فركزوا على أهمية عنصر الوعي في إنجاح الثورات.
لقد عرفت الجزائر مقاومات وانتفاضات لمواجهة الاحتلال الفرنسي وأهم تلك المقاومات وأطولها عهدا مقاومة الأمير عبد القادر التي استغرقت 17عاما (1830-1847)، وأيضا مقاومة أحمد باي في الشرق الجزائري وما تلاهما من مقاومات طوال القرن 19عشر، ولكنها كلها لم تُكلل بالنصر المبين والسر في ذلك أن أية مقاومة لكي تنتصر يجب أن تتوفر فيها عناصر ثلاث:
رُشد القيادة.
نضج الشعب
الظروف الخارجية والعملية.
والمتأمل في المقاومات الجزائرية التي قامت طوال القرن التاسع عشر يرى أنه توفر لها العنصر الأول فقط، أي عنصر… القيادة الراشدة، أما العنصران الباقيان فلم يتوفرا والدليل على ذلك أن الشرق الجزائري لم يتحرك إلا بعد سبع سنوات حينما سقطت مدينة قسنطينة تحت مدافع وسنابك الخيل عام 1837، وأبيحت للعسكر الفرنسي يفعلون فيها ما يشاءون!
– إضافة إلى سلبيات أخرى، كتلك التي أفتى بها بعض ضعاف النفوس ضد شرعية جهاد الأمير عبد القادر، وأن الاحتلال قضاء وقدر، فلنسلم بالقضاء والقدر!!
لقد استقطب هدف الحصول على الاستقلال كل جهود الجمعية منذ تأسيسها… فهذا رئيسها الشيخ عبد الحميد بن باديس، يكتب في الشهاب الصادرة بتاريخ 1936 مقالاً يقول فيه:
«إن الاستقلال حق طبيعي لكل أمة من أمم الدنيا، وقد استقلت أمم دوننا في القوة، والعلم، والمنعة، والحضارة» والذي يدرس بعناية نشيد “شعب الجزائري مسلم” الذي يتغنى به شبابنا حتى اليوم في كل المناسبات، والذي ألقاه بمناسبة المولد النبوي الشريف عام 1937، سيجد فيه صرخة علنية في مجال الدعوة إلى الكفاح المسلح، حيث يقول:
وأذق نفوس الظالمين * السم يمزج بالرهب
واقلع جذور الخائنين * فمنهم كل العطب
واهزز نفوس الجامدين * فربما حيي الخشب
هذا نظام حياتنا * بالنور خط وباللهب
فالظالمون: هم المستعمرون
والرهب: مأخوذ من الآية الكريمة رقم 60 من سورة الأنفال:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ}
والعطب: إشارة إلى الحديث النبوي الشريف الذي رواه البخاري:” مثل القائم على حدود الله، والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فآذوهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا، ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا”.
هذا، ولقد أشارت إلى ذلك جريدة المقاومة الجزائرية لسان حال جيش التحرير وجبهة التحرير في عددها الثاني الذي صدر في 15 نوفمبر سنة 1956م، في ركن: صفحات خالدة من تاريخ الإسلام، بعنوان: “بين بدر 624، وفاتح نوفمبر 1954″ مقارنة بين ما كانت عليه حال الجزائر قبل اندلاع الثورة المباركة في عام 1954، وحال المسلمين الأولين في مكة والمدينة، قبل معركة بدر الخالدة التي انتصر فيها الحق وزهق الباطل، فقد كانت الأمة الجزائرية قد اجتازت المراحل الإعدادية اللازمة للكفاح الدامي الناجح، فقد كان أعدها من الناحية الاجتماعية والفكرية والدينية، الثائر الأول العظيم المرحوم الشيخ عبد الحميد ابن باديس، وصحابته المخلصون، بواسطة المدارس، والنوادي، والمساجد الحرة. وأعدها من الناحية السياسية القومية الأحزاب الوطنية بشتى الوسائل، ومختلف الأساليب. أما الشيخ محمد البشير الإبراهيمي فيقول في 2 أوت 1947، بهذا الخصوص ما يلي:
لا تستطيع هيئة من الهيئات العاملة لخير الجزائر أن تتعلق بغبار جمعية العلماء في هذا المضمار، أو تدعي أن لها يدا مثل يدها في توجيه الأمة الجزائرية للصالحات، وتربيتها التربية العقلية والروحية المثمرة.. وتصحيح نظرتها للحياة، ووَزْنها للرجال.. وكل ما تم منها فهو من صنع يدها، لا فضل فيه لأحد سواها، وأول يد بيضاء لها في هذا الباب: تحرير العقول من الأوهام والضلالات في الدين والدنيا. وإن تحرير العقول لأساس لتحرير الأبدان، وأصل له، ومحال أن يتحرر بدن يحمل عقلا عبدا” ويقول عميد المؤرخين الجزائريين الدكتور أبو القاسم سعد الله في هذا المضمار أيضا: “والحق أنه لا توجد منظمة وطنية تركت بصماتها على الحياة الجزائرية، وأثرت على عقليتها تأثيرا واضحا مثلما فعلت جمعية العلماء… وإذا كانت المنظمات الأخرى -بما في ذلك الأحزاب السياسية- قد خاطبت فئة معينة فقط، أو انحصرت في أبرز المدن فحسب، فإن خطاب جمعية العلماء، كان قد وصل أفقيا وعموديا إلى مختلف الطبقات الاجتماعية، أينما كانت: ريفية أو مدنية، ومن ثم فقد هزت المجتمع الجزائري هزا عنيفا.. وفي ظرف قصير –نسبيا- استطاعت جمعية العلماء أن تصبح منظمة جماهيرية لها أتباع وأنصار في كل جزء من الوطن، ولها معلمون في كل قرية ومدينة.. كما استطاعت أن توحد البلاد فكريا وروحيا بعد أن مزقها الاستعمار تمزيقا..
إنّ جمعية العلماء اهتمت بالإنسان فجعلته هو الهدف في كلّ تحركاتها، خاطبت عقله بالعلم والإصلاح والوطنية، وخاطبت عاطفته بالدين، والخطابة والتاريخ.. فكانت الجمعية من الناحية الفكرية –على الأقل- عبارة عن “دولة داخل دولة”
موقف الجمعية من ثورة 1954 ومساندتها:
1)- بلاغ من جمعية العلماء يوم 18 جوان 1954 ترفض فيه الإصلاحات، وتدعوا الشعب إلى التكاتف والوحدة لحل القضية الجزائرية حلا عادلا شاملا.
2)- بيان من مكتب الجمعية بالقاهرة، وبتوقيع الشيخ الفضيل الورتلاني مدير المكتب، وتحت عنوان: إلى الثائرين الأبطال يوم 2 نوفمبر 1954.
3)- بعدها بأيام: يصدر الشيخ الفضيل الورتلاني باسم الجمعية بيانا ثانيا عن ثلاث صرخات.
4)يوم 15 نوفمبر 1954 يصدر باسم الشيخ البشير الإبراهيمي بيان تاريخي تحت عنوان: “نداء إلى الشعب الجزائري المجاهد”: نعيذكم بالله أن تتراجعوا.. بتوقيع رئيس الجمعية ونائبيه.
5)- ميثاق جبهة تحرير الجزائر 4 فيفري 1955 ترفض فيه إصلاحات فرنسا.
6)- ميثاق جبهة تحرير الجزائر 17 فيفري 1955 وبه توقيعات كثير من زعماء الجزائر، أو لها توقيع الشيخ الإبراهيمي، وآخرها توقيع بن بلة..
7)- نداء إلى الضمير الفرنسي 25 فيفري 1955 وقعه 300 معلم من مدارس جمعية العلماء.
8)- نداء إلى الشعب الجزائري، 11 مارس 1955 وقعه 300 معلم من مدارس الجمعية.
9)- بلاغ من جمعية العلماء المسلمين، بتاريخ 7 جانفي 1956 حيث قطعت فيه الطريق على العدو ومسالة التفاوض.
شهداء جمعية العلماء:
على رأسهم الشيخ العربي التبسي رئيس جمعية العلماء.
الشهيد: محمد العدوي، من أساتذة المعهد.
الشهيد: أحمد رضا حوحو، سكرتير المعهد.
الربيع أبو شامة
ولم يذكر تاريخ الثورة أن واحدا من العلماء خان الجزائر، أو رفع البندقية في وجه الجزائريين…
وكثير من ضباط جيش التحرير كانوا من تلاميذ جمعية العلماء.
والذي لا يعرفه الكثيرون أن البطل عميروش كان عضوا فاعلا في شعبة باديس الخامسة عشر، التابعة لجمعية العلماء.
وأن مصطفى بن بولعيد كان مسؤولا عن شعب جمعية العلماء في منطقة الأوراس كلها..
رحم الله علماء الإصلاح في يوم تأسيس جمعيتهم العريقة صانعة الاجيال ولا زالت في الارض الجزائر المحروسة.