وفاء… بعد 40 عاما من الوفاة (الشيخ بيوض إبراهيم بن عمر)
بقلم: عمارة مصطفى-
قبل أن ألج في الكتابة، وقبل أن أخوض في تحرير هذه الكلمات… استذكرت حديثا صحيحا من أشهر ما روى الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: ﴿إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له﴾ رواه مسلم.
والذي يتحدث عن مرحلة ما بعد فناء الإنسان الذي يمس جسده، والتي جعلها الله بيده، وقدّر لها أجلا مسمى، وأوكل لها من هو أهل لها وهو ملك الموت عليه السلام، إلاّ أن الفناء الرّوحي أبقاه بيد الإنسان… فإن شاء أفناه بفناء جسده، وإن شاء أبقاه ما دامت السماوات والأرض، إلى ما شاء الله تعالى، بأمور سخرها الله تعالى سببا لذلك وذكرها النّبي -صلى الله عليه وسلم – في الحديث المذكور.
شيخنا الفاضل الذي تجرّأت على الكتابة عنه مع من تجرّأ، وهذا البحر الذي سولت لي نفسي أن أعبث برمال شاطئه مع من عبث… لكنه ليس بتجرؤ ولا عبث يمسّ من قيمته… بل خوف من أن نقصر ولا نوفّي لهم حق ما ستخطّه يميني..
إنّه العلّامة والعالم والمفسّر والفقيه والمجتهد والإمام… وما أكثرها عندنا… ولكنها عند الله واحدة… وهي التّقي، وما تلكم الاجتهادات التي وُصف بها سوى سبل لبلوغ الهدف الأسمى وهو التقوى ليكون من زمرتهم ويتقبلهم الله تعالى عنده ويرضى عنهم، إنّه الشيخ: بيوض إبراهيم بن عمر (21 أفريل 1899م… 14 جانفي 1981م).
إمامنا الفاضل الذي مرّ على فنائه الجسدي 40 عاما (14 جانفي 1981م.. 14 جانفي 2021م)، والذي لا يزال بروحه يصول ويجول في العقول وفي القلوب وفي القصور وفي… إذ لا تخلو مكتبة إلا وقد حملت رفوفها شيئا من نسائم ولطائف ما باح به للقراطيس، وأكاد أقول: حتى البيوت قد نالها شرف من فضله العميم، فأغلب الأجيال التي تعاقبت نجدها قد تتلمذت على يده، أو على من تتلمذ عنده، أو في معهده أو المعاهد التي رأت النور بفضله وبفضل تلامذته ورؤيته.
– ليس المقام مقام كلام أو مديح أو شكر أو ذكر فضائل أو غير ذلك.
– ولا حتى لذكر تعريف عنه وأسماء وحوادث وتواريخ مرتبطة به.
– ولست أخط هذه الكلمات لأبين حقيقة رؤيته وفحوى رسالته وما نتج منها من معاهد ومدارس ومؤسسات تربوية وعلمية… وما النور الذي رأته مؤسستنا مؤسسة المنار سوى بصيص نور وسنًا وامتداد لقبسه وشعاع فكره.
– لست هنا لأذكر علمه الغزير ومؤلفاته ورسائله التي تزخر بها مكتباتنا وبيوتنا والتي تم ترجمة بعضها وبثها في وسائل التواصل الاجتماعي وفي عالم النت عموما ليطّلع عليها الخلق للمعرفة والتعارف… والاعتراف.
– كذلك لست ممن يملك الخبرة حتى أؤرّخ لأعماله البطولية التي خاضها في أعتى جبهتين: جبهة الجهل بالإصلاح، وجبهة الاستدمار الفرنسي بالمقاومة، واللتين بذل فيهما النفس والنفيس، كما لاقى في سبيل ذلك الويلات التي لو عددناها وتحرّينا عنها لوجدنا أن أبسطها يمكن أن تقرّب له حفر المنايا ليقع فيها لولا حفظ الله تعالى وحمايته وأثر برّه وصلاحه ، فكان من بعض نتائج حربه أن فصل بين الحق والباطل بالعلم وأبطل فصل جنوب الجزائر عن شمالها.
– كما لست بالعارفين كذلك والذين قد يتمكنون من حصر وتقييم إنجازاته التاريخية والتي توّجها بالتفسير الواضح الفصيح الرّائع لأعظم الكلام، وهو تفسيره لكتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والذي أنجزه في مدّة قد تتجاوز العشرين عاما بـ 7 سنوات كلها ولله الحمد سمان تعمّها الخيرات.
– بل الموقف موقف تفسير وبأوضح الأدلة العلمية والعقلية لحقائق ذلكم الحديث الذي تمت الإشارة إليه في بداية هذا المقال وتحقيقا لآيه تعالى ولمحكم تنزيله في قوله :﴿مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ [سورة الأحزاب:23]. وكذلك قوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾[فصّلت:33].وأختمها بقوله تعالى:
﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت:69].
فقد أتى بجوامع الكلم باجتهاده، فقد ترك العلم النافع بمؤلفاته، والصدقة الجارية بمشاريعه، والولد الصالح برّا بوالديه، وعونا لأبناء المسلمين على برّهم… فحاز بذلك على العمر الثاني: والذّكر للميّت عمر ثان…
فكان خير الخلف لخير السّلف، وكان خير السلف لمن ابتغى القدوة الحسنة… وللرسول -صلى الله عليه وسلم – القدوة الأمثل.
وكان ممن آمن بمقولة، ولو لم تكن قرآنا يُتلى… أو حديثا يُروى… وهي:
زرعوا فأكلنا.. ونزرع فيأكل غيرنا..
لله درّك يا ابن عمر -رضي الله عنك وأرضاك -، وجعل روحك في علّيين، مع النبيئين والصّدّيقين والشهداء والصّالحين.. وحسن أولئك رفيقا، فإن أصبت في كلمتي فمن الله تعالى وتوفيقه.. وإن أسأت الأدب.. فسأذكّركم بقولي أن ما أفعله قد أعدّه عبثا في رمال شاطئ بحره الواسع… وعبثا أحاول معرفة غوره وأسراره.