جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
بقلم: د. علي الصلابي-
يقول المفكر الاجتماعي الإسلامي محمد المبارك الذي تابع باهتمام الحركة الإصلاحية في الجزائر وفي فرنسا: إن جمعية العلماء قد أحيت الجزائر، وبعثت فيها عروبتها التي كادت أن تغيب، وإسلامها الذي كاد يقضى عليه. ولو أن حركات التحرر السياسي في الجزائر سارت بطريق آخر وعلى منهج بعض الهيئات التي أنشئت في جو التأثر بالثقافة الفرنسية ؛ لكانت الجزائر اليوم قطراً فرنسياً، ولو أنه مستقل استقلالاً ذاتياً، لكنه استقلال يمحو ذاتيتها ويزيل عنها إسلامها وعربيتها.
إن من الوفاء للتاريخ ومن الوفاء لأصحاب الفضل والسابقة أن نضع جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في القمة من تاريخ الجزائر الحديث.
كان الاستعمار الفرنسي حريصاً على نزع الطابع الإسلامي من الجزائر وإضفاء الطابع المسيحي عليه منذ الأيام الأولى للاحتلال، فقد أعطى القائد روفيقو أوامره الصارمة لتحويل أجمل مسجد في مدينة الجزائر إلى كاتدرائية وقد سارعت قواته إلى تنفيذ هذا المخطط، فحاصرت المسجد بتاريخ 18 ديسمبر 1832م وهو غاص بالمصلين فنزلت عليهم ضرباً بالفؤوس والرماح فاستشهد منهم أربعة الاف مسلم جزائري كانوا مرابطين بالمسجد، وتحول المسجد إلى كاتدرائية وقد عرف مسجد صالح باي وهو أجمل مسجد بقسنطينة مصير جامع كتشاوة إذ حوله المحتلون إلى كنيسة، وقد جلب لها القس سوشيه منبراً كان آية في النقش العربي من أحد المساجد، وعلى درجات هذا المنبر قام سكرتير الحاكم العام بيجو خطيباً فقال: إن أيام الإسلام الأخيرة قد حلت، ولن تمضي مدة عشرين سنة حتى لا يبقى في الجزائر من إله سوى المسيح، وها هو العمل الإلهي قد بدأ في اللحظة هذه إذا ما خامرنا الشك في بقاء هذا التراب في حضن فرنسا، فلا ريب على الأقل في كون الإسلام قد خسره، إن الرجوع الشامل إلى الله سيكون العلامة التي أتيقن بأن فرنسا ستحتفظ بالجزائر، وأن العرب لن يصبحوا رعايا لفرنسا إلا عندما يصيرون نصارى.
إن الاستعمار قد عمل ما في وسعه لتحويل الشعب الجزائري عن هويته الأصلية معتمداً على الجندي والطبيب والمعلم والراهب.
يقول الشيخ محمد البشير الإبراهيمي في معرض الرد على مزاعم الوالي الفرنسي المشهور «نيجلان» الذي يمن على الجزائر أن فرنسا قد أمدتها بعناصر التمدن الأربعة المذكورة:
ـ جاءت فرنسا إلى الجزائر بالراهب الاستعماري لتفسد به على المسلمين دينهم وتفتنهم به عن عقائدهم، وتشككهم بتثليثه في توحيدهم، وتضارّ في ألسنتهم كلمة الهادي بكلمة الفادي، ذلك كله بعد أن أمدته بالعون وضمنت له الحرية وكفرت به هناك لتؤمن به هنا.
ـ وجاءت بالمعلم الاستعماري ليفسد على أبناء المسلمين عقولهم ويلقي الاضطراب في أفكارهم، ويستنزلهم عن لغتهم وادابهم، ويشوّه لهم تاريخهم، ويقلّل سلفهم في أعينهم، ويزهدهم في دينهم ونبيهم، ويعلمهم ـ بعد ذلك تعليماً ناقصاً هو شرٌّ من الجهل.
وجاءت بالطبيب الاستعماري ليحافظ على صحة أبنائها قبل كل شيء بآية أنه لا يكون إلا حيث يكون الأوروبيون، لا في المداثر التي يسكنها الألوف من المسلمين وحدهم ولا في القبائل المتجاورة التي تعد عشرات الألوف منهم. أما هذا الطبيب الاستعماري بالنسبة إلى المسلمين فكأنما جاء ليداوي علة بعلل، ويقتل جرثومة بخلق جراثيم، ويجرب معلوماته فيهم كما يجربها في الأرانب، ثم يعيش على أمراضهم التي مكّن لها الاستعمار بالفقر والجهل.
إن الاستعمار القائم على الجندي والمعلم والطبيب والراهب هيكل حيواني يمشي على أربع، وإن الاستعمار قد قضى بواسطة هؤلاء الأربعة على عشرة ملايين من البشر، فرمى مواهبهم بالتعطيل فما أشأم الاستعمار!.
تلك كانت إرادة المستعمرين ومطامعهم منذ أن وطئت اقدامهم أرضنا الطيبة، وهي جعل الجزائر فرنسية تراباً وسكاناً، ولكن القرآن الكريم وتعاليمه الرشيدة وقيمه الخالدة ومقاصده الرفيعة، وتعلق الشعب الجزائري به كان أعظم من فرنسا ومحاولاتها، كما عبّر ذلك أكمل تعبير أحد سدنة الاستعمار في عهده الأخير «روبير لاكوست» الوزير الفرنسي المكلف بإدارة الجزائر تعليقاً على الحادثة التي أوردها الأستاذ عبد الله ناصح علوان: إذ يقول:
من أجل القضاء على القرآن في نفوس شباب الجزائر قامت فرنسا بتجربة عملية، قامت بانتقاء عشر فتيات مسلمات جزائريات، أدخلتهن الحكومة الفرنسية في المدارس الفرنسية، وألبستهن الثياب الفرنسية، ولقنتهن الثقافة الفرنسية، وعلمتهن اللغة الفرنسية فأصبحن كالفرنسيات تماماً، وبعد أحد عشر عاماً من الجهود هيأت لهن حفلة تخريج رائعة دعي إليهن الوزراء والمفكرون والصحفيون، ولما ابتدأت الحفلة ؛ فوجأئ الجميع بالفتيات الجزائريات يدخلن بلباسهن الإسلامي الجزائري فثارت الصحف الفرنسية وتساءلت: ماذا فعلت فرنسا في الجزائر إذن بعد مرور مائة وثمانية وعشرين عاماً (1958م).
فأجاب لاكوست: وماذا أصنع إذا كان القرآن أقوى من فرنسا؟
نعم إن القرآن الكريم المنهج الرباني أقوى من فرنسا ومن كل عدوان وشرّ في الأرض، إذا وجد من يحسن فهمه والعمل به في كل عصر ومصر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ولذا اعتمد عليه الشيخ ابن باديس في حركته التجديدية الساعية نحو التحرير والاستقلال، وقد استطاع ابن باديس تحويل جهوده الفردية إلى عمل منظم على مستوى القطر الجزائري، جمع فيه علماء البلاد في جمعية علماء المسلمين، والتي ساهمت مساهمة عظيمة في توعية الشعب ورفع الجهل عنه، ودعم الثورة ضد الاحتلال بكل ما تملك من أدوات وأفكار ووسائل، إن أول مسمار دق في نعش الاستعمار وأول لبنة وضعت في جدار الاستقلال بعد عهود المقاومة الشعبية المسلحة كانت بانتصاب الشيخ ابن باديس لتدريس القرآن والسنة وعلومهما بقسنطينة منذ سنة 1913م، وصدق رسول الله (ص) القائل: تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة نبيه.
كما سبق الإشارة إلى ذلك ـ وذلك مصداقاً لقولته المشهورة: أنا أحارب الاستعمار لأني أعلّم وأهذّب فمتى انتشر التعليم والتهذيب في أرض أجدبت على الاستعمار وشعر في النهاية بسوء المصير.
ويقول ابن باديس: إن الحياة تنبعث من المدارس فيجب أن تكون المدارس أول ما نهتم به ونسعى لتحقيقه، وكل من يعارض في تأسيسها فقد عارض في حياة الأمة ونهضتها.
نعم إن ابن باديس ليس فقط محارباً للاستعمار بل إن الاستعمار ليرى فيه وفي حركته أعظم خطر على سيادة فرنسا على الجزائر، لقد نشرت جريدة البصائر مقالاً عن تقييم الفكر الفرنسي الاستعماري لابن باديس وحركته ـ جمعية العلماء ـ فيما كتبته الجريدة الفرنسية « صدى باريس » بترجمة مجلة الصباح التونسية بعنوان «عرب الجزائر» جاء فيه:.. إن الحركة التي يقوم بها العلماء المسلمون في الجزائر أكثر خطراً من جميع الحركات التي قامت حتى الان، لأن العلماء المسلمين يرمون من وراء حركتهم هذه إلى هدفين كبيرين الأول سياسي والثاني ديني.
والعلماء المسلمون المثقفون هم العالمون بأمور الدين الإسلامي وفلسفته، والواقفون على أسرار معتقداته، فهم لا يسعون إلى إدماج الجزائر بفرنسا، بل يفتشون في القرآن نفسه عن مبادئ استقلالهم السياسي.
أسس هؤلاء العلماء في عام 1931م، أي بعد انعقاد المؤتمر الإسلامي في القدس اجتماعاً عظيماً، وشكلوا على إثره جمعية كبيرة انتشرت في قليل من الزمن انتشاراً سريعاً، ولا تزال هذه الجمعية تنمو نمواً مطرداً يوماً بعد يوم، رأس الشيخ ابن باديس هذه الجمعية، وكانت له اليد الطولى في تأسيسها، وهو رجل سياسي ومتدين يمت بنسبه إلى أسرة عريقة في قسنطينة، وضليع جداً في العلوم الدينية وله نفوذ كبير في الجزائر، ويتظاهر أنه لا يعرف اللغة الفرنسية مع أنه يتقنها كل الإتقان.
وإن هذا التصور للمفكرين المدنيين الفرنسيين لخطورة ابن باديس ـ صاحب الشهاب وحركته على الاستعمار ـ لهو عين تصور العسكريين الفرنسيين أنفسهم، من ذلك ما كتبه المرحوم السيد محمود عبدون إذ يقول: بينما أنا أيام الحرب العالمية الثانية بالجنوب التونسي، قريباً من خط مارث، الذي أقامته فرنسا في الحدود التونسية الليبية، وبما أنني من حراس بعض المكاتب، قررت يوماً أن أطلع على وثائق الضابط المكلف بالتموين، فعثرت على وثيقة رسمية «جد سرية» تصنف الشخصيات السياسية الجزائرية الأكثر خطورة على السيادة الفرنسية، ولكم كانت دهشتي عظيمة إذ وجدت ابن باديس على رأس القائمة متبوعاً بمصالي وبحزب الشعب.
من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج2)