دور جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في الثورة الجزائرية 1954-1962
بقلم: د. فركوس صالح-
لا شك أن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بقيادة الإمام العلامة عبد الحميد بن باديس(1) رحمه الله، قد أدت دورا عظيما في تاريخ الأمة الجزائرية، منذ تأسيسها عام 1931. كما حافظت على مقومات الشخصية الجزائرية خلال الاحتلال الفرنسي للجزائر، ولكن التساؤل الكبير الذي لا يزال يطرح نفسه إلى اليوم: إلى أي حد كانت مساهمتها فعالة في الثورة الجزائرية؟
أولا: نشأة جمعية علماء المسلمين:
جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في 5 ماي 1391 م بالجزائر العاصمة وانتخب الشيخ عبد الحميد بن باديس رئيسا لها، وتولى المناصب الهامة نخبة من العلماء المصلحين، بعد أن اعترفت بها الحكومة الفرنسية. لقد كان هدف الجمعية كما بينه رئيسها ابن باديس عام 1935 م يتلخص فيما يلي: القرآن إمامنا، والسنة سبيلنا، والسلف الصالح قدوتنا في خدمة الإسلام والمسلمين. وإيصال الخير لجميع سكان الجزائر غايتنا(2).
كانت جمعية العلماء المسلمين تسعى إلى نشر الدعوة الإسلامية وتطهير الإسلام من الشعوذة والخرافات وتكوين كيان جزائري قوامه الإسلام واللغة العربية.
كما كان لها مواقف كثيرة تجاه قضايا الاستعمار وما كان يجري من محاولات لاستئصال الأمة الجزائرية من جذورها، بل عبرت عن رأيها صراحة في المطالبة باستقلال الجزائر التام، حيث كان ابن باديس يخطط لذلك وكان سيعلن الثورة على فرنسا لو لم توافه المنية سنة 1940 م(3).
لقد أدرك أبن باديس حقيقة الاستعمار الصليبي للبلاد الذي كان هدفه إفساد الشعور الإسلامي لدى المسلمين، فتصدى للأساليب الاستعمارية الخسيسة الرامية إلى إشاعة الفساد والزيغ الفكري وتشكيك المسلمين في دينهم، فغاية الجمعية -إذن- هو الرجوع بالأمة الجزائرية إلى عقائد الإسلام المبنية على العلم، وفضائله المبنية على القوة والرحمة، وأحكامه المبنية على العدل والإحسان ونظمه المبنية على التعاون بين الأفراد والجماعات... وأن لا فضل لأحد على أحد إلا بتقوى الله.
لقد جاهد ابن باديس وجمعيته بالقلم واللسان ضد الأباطيل والشعوذة والخرافات. يقول ابن باديس: "هذا نبينا صلى الله عليه وسلم نور وبيان وهذا كتابنا نور وبيان فالمسلم المؤمن بهما المتبع لهما له خطة من هذا النور وهذا البيان …..يبينه وينشره، يعرف به الجاهل ويرشد به الضال"(4).
ولم تكن فكرة التجديد أو الإصلاح في ذهن ابن باديس فكرة فلسفية مجردة أو نظرية خيالية، وإنما كانت تستوحي تعاليمها من الكتاب والسنة، فقد طرح على نفسه سؤالا دقيقا ومحددا : " لمن أعيش ؟" فكان جوابه واضحا: "أعيش للإسلام والجزائر" ، من أجل ذلك كان العمل التجديدي للإمام بأوسع معاني التجديد لأمر دين الأمة الجزائرية المسلمة وإعدادها للجهاد في سبيل الله بعد تطهيرها من الطرقية المشؤومة وما لها من سلطان على الأرواح ،حيث نجده يتجه مخاطبا هذا الشعب : "أيها الشعب المسلم الجزائري الكريم ، تالله لن تكون مسلما إلا إذا حافظت على الإسلام
ولن تحافظ على الإسلام إلا إذا فقهته ولن تفقهه إلا إذا كان فيك من يفقهك فيه"...(5). كما صرح قائلا: " إن كل بلاء العالم من هذه الروح الاستعمارية "(6). لذلك كانت جمعية العلماء سباقة للاستجابة لنداء الثورة الجزائرية، فقدمت العالم والإمام والمعلم والأب والأم والابن والشيخ فداء لنصرة الإسلام وتحرير الوطن من براثن الاحتلال.
ثانيا: ابن باديس والمطالبة بالاستقلال
إن أهلية ابن باديس وكفاءاته الفذة وجرأته على مزاحمة سير الأحداث، جعلت منه يشعر بضرورة تطهير البلاد من براثن الاحتلال، لذلك نجده عام 1936، يعلن موقفه المساند لمطالب الاستقلال من قبل حزب الشعب الجزائري، حيث قال معلقا على هذا المطلب : "وهل يمكن لمن شرع في تشييد منزل أن يتركه بدون سقف، وما غايتنا من عملنا إلا تحقيق الاستقلال"(7).
هكذا كان الإمام العلامة ابن باديس وجمعية العلماء تعد المشاتل للثورة الجزائرية وتتصدى للمشروع الاستعماري الذي كان يستهدف خاصة التفرقة بين ما يسمى "بربر" و"عرب" وهو أخطر المشاريع الاستعمارية التخريبية بهذا القطر، ولكن كما قال ابن باديس" ما جمعته يد الله لا تفرقه يد الشيطان". كما أكد على حقيقة الأمة الجزائرية ودافع عن وحدتها بكل قوة: "الأمة الجزائرية أمة متكونة موجودة، كما تكونت ووجدت كل أمم الدنيا. ولهذه الأمة تاريخها الحافل بجلائل الأعمال، ولها وحدتها الدينية واللغوية ولها ثقافتها الخاصة وعوائدها وأخلاقها بما فيها من حسن وقبيح شأن كل أمم الدنيا، ثم أن هذه الأمة الجزائرية ليست هي فرنسا ولا يمكن أن تكون فرنسا ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت "(8).
لم تكن الثورة الجزائرية مقطوعة الجذور بل كانت قبل أن تندلع حلما غاليا يراود فكر وخيال أغلبية أفراد المجتمع الجزائري المقهور، بل كانت تعيش في أعماقه منذ بداية الاحتلال إلى غاية انتفاضة ماي 1945، ولقد كان التيار الاستقلالي وريثا شرعيا للمقاومة الوطنية وسائر الثورات الجزائرية (9).
ولعل أبرز مثال في تاريخ جمعية العلماء، قبل انطلاقة الثورة الجزائرية، وهو ما قدمته هذه الجمعية من تضحيات في سبيل الله وتحرير الوطن، فقد أعدم أكثر من سبعين رجلا من أتباعها في مجازر 8 ماي 1945م التي اقترفتها أيادي الإجرام الاستعمارية بمدينة سطيف وقالمة وخراطة بالشرق الجزائري(10).
ثالثا: جمعية العلماء والكشافة الإسلامية
تأسست الكشافة الإسلامية الجزائرية خلال عام 1935 م تحت رعاية جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ورئيسها الإمام عبد الحميد بن باديس الذي أشرف بنفسه على أول تجمع كشفي سنة 1939 م، تحت شعار: الإسلام ديننا، العربية لغتنا، الجزائر وطننا(11).
لقد كانت الكشافة الإسلامية مدرسة وطنية عملت على تربية الشباب التربية الحسنة المتشبعة بالمبادئ الإسلامية والوطنية، وقد تخرج من هذه المدرسة أبرز وجوه الثورة الجزائرية : مراد ديدوش، محمد العربي بن مهيدي، بوجمعة سويداني ، حسن آيت أحمد، زيغود يوسف، باجي مختار وغيرهم...(12)
كانت الإدارة الاستعمارية تتابع باهتمام بالغ نشاط الكشافة الإسلامية منذ نشأتها، حيث أدركت خطورتها على وجودها من خلال التدريبات التي كانت تقوم بها في مختلف المناطق، الأمر الذي دفع السلطات الاستعمارية لإصدار مذكرة بتاريخ 17/03/1951 م تمنع كل نشاط للكشافة الإسلامية الجزائرية .
وهكذا يمكن القول أن الكشافة الإسلامية قد جمعت في أيديولوجيتها بين البعد العربي الذي يمثله حزب الشعب، والبعد الإسلامي الذي تمثله جمعية العلماء، قد أعدت للثورة الجزائرية أكبر طاقة ثورية لعبت دورا هاما في دفع قطار الحركة الاستقلالية.
رابعا: موقف جمعية العلماء من الثورة
لقد حدد صباح يوم الاثنين الفاتح من نوفمبر 1954 م على الساعة الصفر، البدء بالهجوم في وقت واحد وفي كل أنحاء الوطن على كثير من المراكز الاستعمارية.
كان اندلاع الثورة الجزائرية مفاجئا، لأنها كانت محاطة بكامل السرية، ولم تتفاجأ جمعية العلماء وحدها بهذه الانطلاقة، بل كانت مفاجئة لكل الأحزاب الجزائرية.
لقد كان بيان أول نوفمبر 1954 م دعوة صريحة لمن أراد أن يحمل لقب المجاهد على شرط أن ينزع من نفسه كل لقب و يأتي فرديا لا يحمل معه إلا نية الجهاد في سبيل الله والوطن(13)، "دون أي اعتبار آخر"(14).
يقول أحمد توفيق المدني، أحد رموز جمعية العلماء (15): "... وبعد مذكرات طويلة.. رأينا أننا من الثورة ومع الثورة ولا يمكن إطلاقا أن لا نكون إلا مع الثورة ".كان أحمد توفيق المدني قد انضم إلى الثورة الجزائرية في مارس 1965 م، عين وزيرا للثقافة في أول حكومة مؤقتة للجمهورية الجزائرية (1958-1960 م).
لم تتأخر جمعية العلماء المسلمين حتى أعلن رئيسها الشيخ العلامة البشير الإبراهيمي عن طريق راديو القاهرة، باسم الجمعية يوم 15 نوفمبر 1954 م هذا النداء لكل الشعب الجزائري(16):
"أيها المسلمون الجزائريون هذا هو الصوت الذي يسمع الأذان الصم هذا هو النور الذي يفتح الأعين المغلقة، إن فرنسا لم تبق لكم دينا ولا دنيا وكل إنسان في هذا الوجود يعيش لدين ويحيا بدنيا فإذا فقدهما فبطن الأرض خير له من ظهرها، إنكم مع فرنسا في موقف لا خيار فيه ونهايته الموت، فاختاروا موتة الشرف على حياة العبودية التي هي شر من الموت، سيروا على بركة الله وبعونه وتوفيقه إلى ميدان الكفاح المسلح فهو السبيل الأوحد إلى إحدى الحسنيين، إما موت وراءه جنة وإما حياة وراءها العزة والكرامة".
لقد استجابت جمعية العلماء لنداء الجهاد والمقاومة فالتحقت بجبهة التحرير الوطني وأصبحت بعض عناصرها تشغل مناصب حساسة في الثورة، نذكر على سبيل المثال الشيخ الإبراهيمي مزهودي الذي حضر مؤتمر الصومام (20 أوت 1956 م) برتبة رائد وكواحد من أقرب مساعدي الشهيد زيغوت يوسف رحمة الله عليه، السيد مصطفي بوغابة الذي لعب دورا أساسيا في المجال التنظيمي بالولاية الثانية والسيد محمد الميلي الذي جند قلمه لخدمة "المقاومة الجزائرية " ومن بعدها " المجاهد "
اللسان المركزي لجبهة التحرير.
كما كانت جمعية العلماء تقوم بتبليغ البريد السري. تلك المهمة التي اضطلع بها رجالات من الجمعية من أمثال الشيخ حمزة بوكوشة، الشيخ أحمد سحنون، الشيخ الجيلالي الفارسي، الشيخ مصباح الحويذق، وغيرهم من رجالات الجمعية الأمناء، كانوا يمتطون متن عربات سكة الحديد لتبليغ الأوامر وغيرها الى قيادات الثورة الجزائرية، وهم يشعرون بأن ما يحملونه ربما قد أوصلهم لآلة الإعدام أو السجن الضيق الطويل..(17).
خامسا: شهداء من جمعية العلماء
الشيخ العلامة العربي التبسي:
كان الشيخ العلامة الشهيد العربي التبسي أحد مؤسسي جمعية العلماء وأحد أقطابها الكبار إلى جانب الإمام العلامة عبد الحميد بن باديس والبشير الإبراهيمي وغيرهما.
ولد العربي التبسي في دوار السطح من ولاية تبسة سنة 1891 م، ولما كبر حفظ القرآن الكريم على يد والده الشيخ بلقاسم. وفي سنة 1915 م انتقل إلى جامع الزيتونة المعمور حيث قضى مدة فيه، تكللت دراسته بالتحصيل على شهادة التطويع، كما تسمى في تلك الفترة ولم يكتف بذلك حيث تاقت نفسه الى المزيد من العلم، فانتقل في سنة 1920 م إلى الأزهر الشريف. عاد إلى الجزائر سنة 1927 م، حيث التقي بالإمام عبد الحميد بن باديس ، واتفق معه على خدمة المقومات الأساسية للأمة الجزائرية.
اعتقل الشيخ العربي إثر مظاهرات ماي 1945 م. وعندما اندلعت الثورة التحريرية أفتى الشيخ العربي التبسي: "أنه لا يجوز لأي مسلم دون عذر أن يتخلف عن الجهاد"(18).
التحق بالثورة منذ بدايتها بالرغم من مرضه وشيخوخته كان كذلك يجمع المال للثورة ويعبئ الشعب ويدعو إلى الجهاد ضد الاستعمار. وكان يقول عن المجاهدين: "أنهم رجال دبت فيهم روح الحياة الحرة الجامعة التي تحطم أمامها كل معترض مهما كان قويا، وتقدموا إلى الأمام يخوضون معركة الحياة وقد حملوا أرواحهم فوق أيديهم يزحفون إلى الأمام ولا يتقهقرون أبدا إلى الخلف"(19).
ولما رحل الشيخ محمد البشير الإبراهيمي إلى المشرق العربي سنة 1952 م تولى الشيخ العربي التبسي رئاسة الجمعية إلى أن أوقفها العدو الفرنسي في 1956 م.
وكان منذ تأسيس الجمعية رئيسا للجنة الفتوى، وكان يصدر مقالات في جرائد الجمعية، ولم يتوقف نشاطه حتى بعد قيام الثورة إذ انتقل إلى العاصمة، وبسبب صلابته في المواقف، انتقم منه المحتل مقابل اغتيال رئيس الشرطة الفرنسية في قسنطينة من طرف الثورة في 1956 م، اذ أخرجوه من داره في منتصف ليلة رمضان 9 أفريل 1957 م، واقتادوه عاريا وحافيا وحسير الرأس، وهو في حالة مرض فأعدموه، ولم يعرف مكانه إلى الآن، ويقال على حسب بعض الروايات بأنه ألقي في أتون "الزيت المغلي"، وقد أنزلوه بتأن كي تتساقط أطرافه وتذوب من الأسفل إلى الأعلى، وهذا بأمر من "فرانسوا ميتران " وزير العدل في تلك الفترة مع أربع جنرالات في الجزائر(20).
الشهيد العلامة رضا حوحو :
ولد بقرية سيدي عقبة (بسكرة) ومنها أخذ ثقافته، هاجر هو وعائلته إلى الحجاز عام 1934 م، درس الأدب والشريعة هناك. عاد إلى الجزائر عام 1946 م، حيث انضم في نفس السنة إلى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، تولى رئاسة تحرير جريدة " الشعلة " التي كانت تصدرها الجمعية لمحاربة الاستعمار وأعوانه .
تولى في هذه الأثناء مهمة كاتب عام لمعهد الإمام عبد الحميد بن باديس في صحبة محمد البشير الإبراهيمي، العربي التبسي، الشيخ خير الدين، محمد العيد آل خليفة، وغيرهم ... ولعب دورا في توعية الشعب الجزائري.
وبعد عملية فدائية ضد أحد المعمرين بمدينة عنابة حاصر المحتل الشهيد رضا حوحو مع ستة من الجزائريين ونقل إلى أحد ضواحي مدينة قسنطينة، حيث عذب عذابا شديدا ثم أطلقت رصاصة في أذنه، بعد ذلك مزقت أعضاؤه بالمنشار، ووجد الرعاة جثته متناثرة صباح يوم 20 مارس 1956 م(21).
تلك هي شهادة على دور جمعية العلماء في الثورة الجزائرية وما قدمته من رجال فداء في سبيل الله كي تتحرر الأمة الجزائرية من ظلم وطغيان الاستعمار.
الشهيد صالح بوذراع :
ولد بمدينة قسنطينة عام 1920 م وتتلمذ على يد الشيخ عبد الحميد بن باديس بالجامع الأخضر. كما كان مناضلا في صفوف حزب الشعب الجزائري. كان الشهيد يطوف بين القرى الواقعة في قمم الجبال مبشرا بالثورة على الاستعمار، وما أن اندلعت الثورة حتى كان في الطليعة، حيث عين بعد عام واحد مسؤولا سياسيا في المنطقة الأولى من الولاية الثانية واستشهد في 10/10/1961 م(22).
سادسا : شعراء من الجمعية
كانالشاعر مفدي زكرياء يجمع بين الاتجاهين الإصلاحي لجمعية العلماء والسياسي لحزب الشعب. هذا الشاعر الذي كان يجاهد بالقلم والكلمة المؤثرة لحمل الجزائريين على الكفاح ومقاومة العدو، نذكر على سبيل المثال قصيدته الشعرية يوم فاتح نوفمبر 1958 م:
النار لا التقتيل يثني عزمه * * * لا السجن لا التنكيل لا الإعدام
لا الذاريات الماحقات هواطلا * * * لا الشامخات تذكها الألغــــام
لا القاصرات الغافلات كواعبا * * * ديست قداستها وفض ختـــام
لا الحاملات بطونها مبقــورة * * * ذبحــت أجنتها، وفك حــــــزام
لا والمراضع عوضت أثداؤها * * * بفم المسدس والرصاص فطام
يا للفظاعة من وحوش جوع * * * تسمو على أخلاقها الأنعــــام
وضعت فرنسا للنذالة بدعة * * * لم تروها الأعصار وهي ظـــلام
يا لعنة الآباد أنت شهادة أن * * * التمـــدن للشــــرور لثــــــــام
والعدل زور، والسلام خرافة * * * لغـــة تحلل باسمها الآثــــــام
كما نجد شاعر الثورة الجزائرية من جمعية العلماء محمد العيد آل خليفة يحرض الشباب على القتال ، حيث أنشد يقول :
صوت بعيد المدى * * * هــل يجــــــــاب
ناداكــــــم للندى * * * بالــــــرقــــــــــاب
الى الفـــدى إلى * * * الفدى يا شباب
بيعوا حيـــاة الفناء * * * بالخـــــــلـــــود
من لا يبالي الردى * * * لا يهـــــــــــاب
سابعا: فقهاء من الجمعية
الفقيه أحمد حماني:
ولد أحمد حماني يوم 6 سبتمبر 1915 م بدوار "تمنجرت" في بلدية العنصر التابعة لولاية جيجل بالشرق الجزائري. ولما كبر أدخله أبوه المدرسة القرآنية وهو ابن خمس سنوات وتعلم المبادئ العلمية واللغة العربية والعلوم الشرعية على يد والده الفقيه الشيخ محمد حماني. وفي سنة 1931 م وهي السنة التي تأسست فيها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين دفاعا عن الإسلام واللغة العربية كرد فعل على احتفال العدو الفرنسي بموت الإسلام، انخرط أحمد حماني في سلك طلبة ابن باديس بالجامع الأخضر وذلك لمدة ثلاث سنوات. وبعدها هاجر إلى تونس في سنة 1934 م، حيث جمع أحمد حماني بين الدراسة في جامع الزيتونة ومعهد الخلدونية، وقد حصل في عام 1936 م على الشهادة الأهلية بامتياز. وبعد عودته إلى الجزائر أصبح يشرف على لجنة التعليم في مدارس الجمعية إلى أن أوقفها العدو الفرنسي خلال سنة 1957 م.
وفي خضم الثورة وعنفوان جهادها ألقي القبض على الشيخ أحمد حماني في 11 أوت 1957 م وبحوزته وثائق الثورة، وبسببها تعرض للاستنطاق والتعذيب، وحكمت عليه المحكمة بالأشغال الشاقة لمدة 15 سنة قضاها في سجني الكدية بقسنطينة وتازولت في باتنة، ولم يطلق سراحه إلا في 9 أفريل 1962 م وكان يؤدي واجبه التعليمي في السجن مع مجموعة من العلماء(23).
الفقيه عبد الرحمن شيبان :
ولد في قرية) الشرفاء) بولاية لبويرة يوم 23 فبراير سنة 1918 م. حفظ القرآن في قريته، ثم انتقل إلى جامع الزيتونة بتونس، حيث نال شهادة التطويع بعدها عاد إلى الجزائر عام 1940 م وبدأ نشاطه بالجمعية فقها وتدريسا.
ولما اندلعت الثورة الجزائرية شارك في تحرير نداءين للشعب الجزائري :الأول في 12 فبراير 1955 م والثاني في 11 مارس من نفس السنة، ومضمونهما التضامن مع الثورة من طرف الشعب والالتحاق بها من طرف الشباب، ومن ثم استرعى أنظار فرنسا نحوه فقامت بتفتيش منزله في سنة 1956 في قسنطينة، وحينئذ تمكن من الفرار إلى تونس وانضم إلى جبهة التحرير الوطني(24).
الفقيه الشيخ عمر دردور :
ولد الشيخ عمر دردور في قرية حيدوش بدائرة ثنية العابد، يوم 13 أكتوبر سنة 1913 م، من أسرة معروفة في منطقة توارثت العلم وخدمة الدين أبا عن جد.
حفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب في مسقط رأسه، وعمره لا يتجاوز الحادية عشرة، كما حفظ عدة متون ومصنفات علمية في مختلف فنون العلوم الإسلامية كالتجويد والنحو والصرف والفقه والعقائد.
انتقل بعد ذلك إلى زاوية الشيخ علي بن عمر في طولقة، وهناك تلقى العلم على يد عدد من المشايخ، حيث درس ألفية ابن مالك ورسالة ابن أبي زيد القيرواني وعلم الفرائض وعلم الفلك بتوسع. وفي طولقة بدأ يطرق سمعه اسم الشيخ عبد الحميد بن باديس.
أصبح الشيخ عمر بذلك تلميذا في الجامع الأخضر منتظما في الدروس، وسرعان ما أكتشف فيه شيخه ابن باديس قوة الفهم وحدة الذكاء وسرعة التحصيل، فأسند اليه تدريس بعض المتون في أوقات فراغه .
أدركت السلطات الاستعمارية ان الجهود التي كان يقوم بها الشيخ عمر تمثل خطرا كبيرا على وجودها، فقامت بإلقاء القبض عليه والزج به في سجن باتنة.
وقد جرت محاكمة الشيخ في مقر السجن، على غير العادة تفاديا لضغوط التجمع الشعبي الذي قاده الشيخ ابن باديس والذي حضر من قسنطينة خصيصا لنصرة الشيخ دردور، والقى درسا بالمناسبة في المسجد العتيق بباتنة.
قضى الشيخ عمر دردور أربعة أشهر في السجن، وخلالها لم تنقطع علاقته بشيخه العلامة ابن باديس، حيث كان يبعث إليه برسائل من سجنه، وكان الشيخ ابن باديس يقرأ هذه الرسائل على طلبته في قسنطينة، ويحثهم ليكونوا مثل الشيخ عمر في جهاده ونضاله.
بعد خروجه من السجن، واصل الشيخ نضاله العلمي في إطار جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية، حيث أصدرت السلطات الاستعمارية قرارا بتوقيف نشاط جميع الحركات السياسية وحركة جمعية العلماء المسلمين، مما أجبر الشيخ التخفيف من نشاطه الذي أصبح مقتصرا على التعليم المسجدي لا غير.
ظل الشيخ على دأبه ونشاطه النضالي والعلمي إلى حين اندلاع ثورة أول نوفمبر المظفرة، حيث أصبح إلى جانب نشاطه التعليمي يناصر الثورة بأفكاره ونضاله.
شعر سنة 1955 بأن القبض عليه بات وشيكا، مما جعل المسؤولين عن الثورة في الأوراس ينصحونه بالسفر إلى الجزائر العاصمة، وهناك أصدر له الدكتور هدام شهادة طبية تثبت حاجته إلى العلاج في الخارج.
سافر الشيخ إلى فرنسا، حيث نزل في مدينة فيشي، وهناك استأنف نشاطه في إطار جبهة التحرير الوطني، عاملا على التعريف بالثورة الجزائرية وأهدافها ومنجزاتها، متنقلا بين عدة مدن في الشمال الفرنسي مثل ليون وباريس، وقد استمر من جويلية 1955 م إلى يناير 1956 م.
انتقل بعد ذلك إلى القاهرة، أين التقى بالشيخ محمد البشير الإبراهيمي وأعضاء قيادة الثورة في الخارج ابن بلة وآيت أحمد وخيضر. وهناك اسندت له مهمة التنقل بين البلدان العربية للتعريف بالثورة الجزائرية ولجمع المساعدات لها، وهي المهمة التي أداها بكل نشاط وحيوية. بعد عودته إلى القاهرة أسندت إليه مهمة الإشراف على الطلبة وضمان أجورهم ومنحهم، كما كلف بضمان أجور أعضاء الجبهة أيضا.
ظل الشيخ يؤدي عمله في القاهرة إلى غاية سنة 1960 م، حيث تم تحويله إلى تونس، أين كلف بمهمة تعليم وتوعية الجنود في الحدود الجزائرية، وتحت إشراف العقيد محمدي السعيد المدعو سي ناصر رحمه الله، استمر في عمله هذا إلى غاية الاستقلال(25).
ثامنا: قادة من الجمعية في الثورة
الشيخ محمد خير الدين:
من مواليد عام 1902 بلدة فرفار ولاية بسكرة وفيها حفظ القرآن. سافر إلى تونس ملتحقا بجامع الزيتونة عام 1925 م، تحصل على شهادة التطويع، رجع بعدها إلى بسكرة، حيث باشر التدريس والإمامة والوعظ والإرشاد في المساجد، إلى أن تأسست جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وأسندت له فيها مهام أمين ماليتها.
كان من الأوائل الذين أنشأوا معهد عبد الحميد بن باديس بمدينة قسنطينة وكان من المديرين له إلى جانب زميليه الشيخ العربي التبسي والمرحوم رضا حوحو.
وعند اندلاع الثورة المباركة عام 1954 م، كان من السباقين إلى الانضمام إلى صفوفها حيث أسندت له مهام ممثل جبهة التحرير في المغرب الشقيق. وفي عام 1956 م عين عضوا في أول مجلس للثورة الجزائرية الذي تشكل في مدينة طرابلس بليبيا الشقيقة. يقول محمد خير الدين(26):
"أخذ قادة الثورة يعملون على توحيد الصفوف، وتوثيق الصلات بين المناضلين الجزائريين من مختلف الجهات، والاتصال بكل من يرونه كفئا للنضال، وكان عبان رمضان يقوم بهذا الدور في داخل البلاد ويساعده يوسف بن خدة وسعد دحلب في تدبير اللقاء، وذات يوم اتصل بي سعد دحلب وأخبرني أن عبان رمضان يريد مقابلتي فحددت موعدا نلتقي فيه على التاسعة مساء في ديار المحصول بالعاصمة في منزل أحد أبناء أخوتي، وفي الموعد المحدد حضر عبان رمضان ومعه يوسف بن خدة، فاصطحبتهما داخل الدار، وأخذت الحيطة لتدبير هذا اللقاء.. وفي هذا اللقاء تحدثنا طويلا ليلة كاملة،
وقال لي عبان رمضان اننا كونا جبهة التحرير، ونحن مصممون على الكفاح، ونطلب من كل جزائري أن يشارك معنا مهما كان انتماؤه الحزبي لأن القضية أصبحت قضية واحدة، وقد رأيت الاتصال بك والحديث معك لما أعرفه عنك من كفاءة ولثقتي بأنك تستطيع القيام معنا بدور كبير وتقدم لنا من تثق فيهم من العلماء وغيرهم لكي يشاركوا معنا، وتحدثنا عن كيفية تنظيم الجبهة، وعن الرجال الذين يمكن الاعتماد عليهم.
وفي نهاية الحديث قال لي) عبان رمضان): الحمد الله الذي جمعنا بك، ولو فاتنا هذا اللقاء لفاتنا الخير الكثير.. بعد الاتفاق الذي وقع بيني وبين عبان رمضان، وفيه كلفت بالعمل للثورة في المغرب..
ومن هناك شرعت في العمل على تأسيس مكتب لجبهة التحرير...
وأخذ مجال العمل بالمغرب يتسع نطاقه ويشمل عدة ميادين أهمها :
- إحصاء الجزائريين العاملين والمقيمين ببلاد المغرب وتوثيق الاتصال بهم .وحل مشاكلهم، ورعايتهم.
- تكوين لجان لجمع الأموال بصورة منتظمة وتقديمها إلى قادة الثورة والمسؤولين عن جمع الأموال فيها سواء من المواطنين الجزائريين وغيرهم.
- إعداد مراكز لتدريب الجنود من الشباب الجزائريين ، والمتطوعين للجهاد من كافة المواطنين الجزائريين .
- انشاء مركز طبي للعلاج وتقديم الدواء وتعيين أطباء جزائريين لتسييره والمعالجة فيه لمجاريح الجيش ومرضاهم.
- الاتصالات السياسية بالسلطة المغربية أو السفارات العربية والإسلامية الموجودة بالمغرب.
- جهاز اتصال لا سلكي لتلقي المعلومات وإرسالها.
- إنشاء مخازن للعتاد والتموين.
وهكذا مكثت أتابع أعمالي المنوطة لي في المغرب ممثلا لجبهة التحرير الوطنية الجزائرية .
أصبح خير الدين عضوا في المجلس الوطني بعد الاستقلال من 1962-1964.م وبعد وفاته في 11 ديسمبر 1993 م، ترك مذكراته في جزأين وأهدى مكتبته قبل وفاته الى الجامعة الإسلامية بقسنطينة.
وهكذا ظلت الثورة الجزائرية تتزود من مشاتل جمعية العلماء أي من طلابها وأساتذتها وعلمائها، لذلك كانت الثورة تمتلئ بالدروس والمحاضرات حول حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ومراحل دعوته وجهاده ضد الكفار والتذكير بمناقب الصحابة رضوان الله عليهم والفتوحات الإسلامية، كل ذلك من أجل إعلاء الهمم والتحريض على القتال في سبيل الله، فكانت جمعية العلماء تشكل الأرضية الصلبة للثورة، قدمت العالم والعامل والأستاذ والطالب والمرأة فداء لتحرير الجزائر.
الحواشي
1- ولد عبد الحميد بن باديس سنة 1308 هـ الموافق لـ1889 م، والده محمد المصطفى من أكابر أعيان قسنطينة. ولما كبر تعلم فيها، وحفظ القرآن الكريم ، وأخذ عن علمائها، منهم الشيخ حمدان لونيسي. انتقل بعد ذلك الى جامع الزيتونة المشهور بتونس. وهنالك أتم دراسته ، وتخرج بشهادة
التطويع سنة 1912. بعدها رجع الى الجزائر وأسس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين .
2- أبو القاسم سعد الله، الحركة الوطنية الجزائرية، الجزء الأول، الجزائر 1992، ص 94.
3- المرجع نفسه ، ص87 وما بعدها.
يذكر الشبخ محمد خير الدين نائب رئيس جمعية العلماء الشيخ البشير الإبراهيمي ، قائلا :" كنا أثناء
الفاتح من نوفمبر في اجتماع، وإذا بموظف يدخل علينا حاملا جريدة (لا ديبيش(، ومنها علمنا أخبار
الثورة، وبعد الاجتماع دعونا العباس بن الشيخ الحسيني وإبراهيم مزهودي إلى إدارة المعهد، وتحدثنا حول ما ورد في الصفحة " . كانت جمعية العلماء تتوخى الحذر والحيطة في كل عمل أو قول، ولا تتسرع في اتخاذ المواقف إلا بعد دراسة وتشاور، خاصة وأن التحضير لأول نوفمبر كان في منتهي السرية وأن مفجري الثورة لم يكونوا معروفين لدى الطبقة السياسية، أو حتى لدى الإدارة الاستعمارية التي لم تكتشف أمرهم إلا في مطلع عام 1955.
4- مجالس التذكير للامام عبد الحميد بن باديس ، الجزائر 1982 ، ص ص، 54-55 وما بعدها.
5- جريدة البصائر ، ديسمبر 1936.
6- جريدة الشهاب ، 5 جانفي 1938.
7- عمار طالبي، ابن باديس، حياته وآثاره، الجزء الأول ص 89
8- المرجع نفسه ص 83، أنظر كذلك الشهاب، ج 1، م 12 ، غرة محرم 1355 أبريل 1936.
9- د. كمال عبد اللطيف، حركة التحرير العربي، مفهوم الأهداف، مجلة العربي، العدد 199، 1989، ص 5.
10- أحمد حماني، صراع بين السنة والبدعة، ج2، مطبعة البعث الجزائرية 1948 ، ص 226.
11- الكشافة الإسلامية، المركز الوطني للدراسات التاريخية للبحث في الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر مطبعة هومز، بدون تاريخ، ص 33.
12- المرجع نفسه ص45.
13- جريدة الشعب العدد 7787، الثلاثاء 28 ربيع الأول 1409 هـ/8 نوفمبر 1988 م .
14- بيان أول نوفمبر 1954.
15- أحمد توفيق المدني، حياة كفاح الجزء الثالث، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع ، الجزائر 1982 ص ص 21-23.
16- المرجع نفسه ، ص 467.
17- أحمد توفيق المدني، المرجع نفسه ، ص ص 43-46.
18- البصائر، العدد رقم 306 بتاريخ 20/02/1955.
19- المصدر نفسه.
20- محمد الطاهر عزوي، التعريف برؤساء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، الندوة التاريخية لشهر جويلية 2006 ، ص ص 60-61.
21- شهداء في ثورة التحرير، بدون تاريخ، ص 265.
22- المرجع نفسه، ص ص 265-266. * أي الشعب الجزائري.
23- المرجع نفسه، محمد الطاهر ص ص 66-68.
24- المرجع نفسه، ص ص 66-68.
25- عبد الباسط دردور، نبدة عن حياة الشيخ عمر دردور، المرجع نفسه، ص ص 77-81.
26- الشيخ محمد خير الدين، مذكرات – الجزء الثاني، المؤسسة الوطنية للكتاب، بدون تاريخ، انظر ص ص 179-181.
د. فركوس صالح: قسم التاريخ والآثار، قالمة.
مجلة العلوم الإنسانية، العدد28، ديسمبر 2007، المجلد أ، ص257-268.