الأقدام المكشوفة..
بقلم: عبد العزيز بن سايب-
طَلَبُ العلمِ مشروعٌ عظيمٌ. والمشاريعُ العظيمةُ تحتاج إلى إرادة صارمة، وعزيمة فُولَاذِية، ونية صادقة، ومُصَابَرَة مَاضية، وتَضحيات في كل الأوقات، لا سيما في البِدَاياتِ .
ومن التحديات الحادَّةِ في أيام الدراسة مشكلة الوقت..كيف يُنَظِّمُ الإنسان وقته بين التحضير للدروس، وحضورها، ثم المراجعة، والمذاكرة، والمطالعة، والحفظ، مع شيء من الراحة..
والطالب صاحب الهمة العالية يجد اضطرابا في برنامجه إزاء كل هذه الوظائف الدراسية المتزاحمة، ومن أكبر أسباب ذلك الاضطراب..النَّوْمُ..ووقته..ومدته، مع التَّعبِ والسَّهرِ وقِلَّةِ الرَّاحةِ..وخوف فوات الفرص لو استجاب لدَوَاعِي الكَرَى..
مِنْ ثمَّة تُطْلِعُنَا كتبُ التراجم عن صفحاتٍ ناصعةٍ لعلماء الأمة في مكابدة الليل، وتَمَلْمُلِهِمِ فيه، وأساليبهم المتعددة في مقاومته، وطُرُقِهم المبتكرةِ في مغالبة نُعَاسِهِ..
ربما لا يستحسن الطبُّ بعضَها، ولا يوافق عليه الأطباء، ولا يتمشى مع قواعد الصحة..ولكن حِينَها لم تتوفر مثلُ هذه الثقافة الصحية المعاصرة..بل في الغالب حتى لو عرفوها لا يلتفتون إليها..
وإليكم هذه القصة المؤثرة للجَادِّين من الطُّلاب، ليست من صفحات السابقين جدا، بل من الزمن القريب..أَحَدُ أبطالِها الشيخ الرئيس عبد الحميد ابن باديس . يَرْوِيها زميلُهُ في الدراسة أيام الزيتونة بتونس الشيخ الْمُعَمَّرُ أحمد بُو مَعْزَة، رحمهما الله تعالى .
ملخصها أن الطلاب كانوا لشدةِ حِرْصِهم على الدراسة واستغلال وقتهم وتقليل مدة نومهم والتنافس بينهم ..كانوا إذا ناموا في الليل يضعون خطة لتقليل هجوعهم..
وكانت طريقة الشيخ ابن باديس أن ينام مكشوفَ الأقدام..بلا جوارب في عز الشتاء وبَرْدِهِ..
وذلك ليَلْذَعَ البردُ أقدامَه، فينهض من النوم مُسْرِاعًا للدراسة، وقد أخذ القسط الضروري..فمع شدة التعب لا ينفع بَردٌ أو جُوعٌ..
فإذا أيقظ البردُ الإنسان فهذا يعني أنه قد أخذ نصيبا يرفعه عن التعبِ مُؤقتًا..ويؤهله للدراسة من جديد ..
أول ما طرقتْ سمعي القصةُ شَعَرْتُ بالهمة العالية لذلك الإمامِ، وزملائه منذ شبابهم، قَصَّها عليَّ صديقٌ ثِقةٌ، نقلا عن صاحبِهِ "توفيق بو معزة"، الذي هو حفيدٌ مباشرٌ للشيخ "بو معزة"، وهذا الحفيد سمعها مراتٍ عَديداتٍ من أمِّه وعمِّه، كلاهما عن الشيخ أحمد بو معزة شخصيا، رحمه الله تعالى .
وهِمَّةُ الشيخِ ابن باديس في الدراسة مَشهورةٌ، فزيادة على قصة الجواربِ..سَبَقَ أن قرأتُ عن تلك الهمة في مقاومتِهِ النوم، كالتي كتبها الأستاذ أحمد بن ذِيَاب، ففيها نقلا عن الشيخ ابن باديس: "..كُنْتُ أَسْهَرُ الليلَ للدراسةِ والمطالعةِ، مُستعينا ببعض الْمُنَبِّهَاتِ، لكني حين أُحِسُّ أن النوم يُغالبني ولم تَعُد المنبّهاتُ العاديةُ تنفع في دفعه عَمَدْتُ إلى مَطْرَحٍ ـ أي: فراش ـ أضعه على الأرض، وأضع مِرْفَقَيَّ على حَافَّتِهِ، حتى إذا أخذتني تَهْوِيمَةُ ـ أي: نومة خفيفة ـ من الوَسَنِ زَلَّ بي مِرْفَقَايَ أو أحدُهما فيُلامسُ الآجُرَّ باردًا، فأستيقظُ وأُجَدِّدُ مطالعتي أو مراجعتي حتى أفرغ منها" .
بمثل تلك الهمة سَبَقُوا، وبمثل ذلك الحرص سَادوا، وبمثل ذاك الإصرار وَصَلُوا، وبمثل هذا الصبر فازوا..
أَخْلِقْ بذي الصبرِ أن يَحْظَى بِبُغْيَتِهِ ومُدْنِ القَرْعِ للأبوابِ أن يَلِجَ
فها هي سنين الدراسة قد انقضتْ، وتلك المتاعب قد تَبَدَّدَتْ.. ولكن شَتَّانَ بين من جَنَى من تلك السنوات الحُلْوَ من الثَّمَرِ، وبين من لم يحصدْ غيرَ مُرَّ التَّحَسُّرِ .
وكما قالوا في الأمثال: "وفي الصُّبْحِ يُحْمَدُ السُّرَى". ورحمة الله تعالى على ابن عطاء الله السكندري القائل في إحدى حكمه: "مَنْ أَشْرَقَتْ بدايتُهُ أَشْرَقَتْ نِهايتُهُ" .