محمد بن أبي شنب العالم الجزائري العالمي
بقلم: محمد الطيب-
أول جزائري حامل لشهادة الدكتوراه، هو محمد بن العربي بن محمد بن أبي شنب، أو أبي شنب.
وُلد بعين الذهب (تاكبو) بالمدية في 26 أكتوبر 1869م (1286هـ)، من عائلة الكراغلة، تعود جذورها إلى "بروسة" التركية، ميسورة الأحوال تعمل بالزراعة، وقد عنيت بتربيته وتعليمه، فحفظ القرآن عن شيخه أحمد بارماق، وتعلم مبادئ القراءة والكتابة، ثم التحق بالمدارس المدنية الفرنسية، فتعلم الفرنسية وقرأ آدابها وتاريخها، أين تحصل على شهادة مكنته من الالتحاق بالثانوية، ثم توجه في 1886 إلى مدرسة المعلمين ببوزريعة، تخرج منها بعد سنتين وعمره 19 سنة، مجازًا بتعليم اللغة الفرنسية وآدابها في المدارس الابتدائية، تم تعيينه معلما في مدرسة بوامري بالمدية، فمكث فيها أربع سنوات، ثم انتقل إلى مدرسة الشيخ إبراهيم فاتح الرسمي بالعاصمة، ومنها إلى الجامعة الجزائرية، أين تقدم للامتحان وأحرز شهادة اللغة العربية.
كما درس على الشيخ عبد الحليم بن سماية علوم البلاغة والمنطق والتوحيد، وناب عن الشيخ أبي القاسم بن سديرة في دروسه العربية بالجامعة لمدة سنة كاملة، وفي 1896 حصل على شهادة البكالوريا، وعمره 27 سنة، في 1898 عينته الأكاديمية أستاذا بالمدرسة الكتانية في قسنطينة خلفا للشيخ العلاّمة عبد القادر المجاوي، فأقرأ بها علوم النحو والصرف والفقه والأدب، ثم عين مدرسا بالمدرسة الثعالبية خلفا للشيخ عبد الرزاق الأشرف، وفي نوفمبر 1903 تزوج بابنة الشيخ الإمام الثاني بالجامع الكبير، فرزق منها بخمسة ذكور وأربع إناث، وفي 1904 أسند إليه دراسة صحيح البخاري رواية بجامع سفير بالعاصمة، وارتقى في 1908 إلى رتبة محاضر بالجامعة، وفي 1920 انتخبه المجمع العلمي العربي بدمشق عضوا به، وفي نفس السنة تقدم لنيل شهادة الدكتوراه من جامعة الجزائر، فأحرزها بدرجة "ممتاز"، حينها عُيّن أستاذا رسميا بكلية الآداب الكبرى بالعاصمة، كما انتخبه المجمع العلمي الاستعماري بباريس عضوا عاملا به، كما انتخبته هيأة إدارة مجلس الجمعية التاريخية الفرنسية كاتبا عاما بها، وقيّض له أن يجمع بين ثقافتين ينبغ ويفصح بكلّ لغة يعاينها، كان يتقن إلى جانب العربية اللغة الفرنسية والإنجليزية والتركية، والإيطالية والأسبانية والألمانية والفارسية والعبرية، وشيئا من اللاتينية، إضافة إلى مكانته العلمية ودقة تحقيقاته، جعل كثيرا من العلماء والمستشرقين يكاتبونه، ومنهم العلاّمة أحمد تيمور باشا، ومحمد كرد علي (رئيس مجمع اللغة العربية) بدمشق، وعلامة تونس حسن حسني عبد الوهاب، والمستشرقون كـ "كوديرا، وبلاثيوس وكراتشوفسكي.
انتُدب لتمثيل الجزائر في المؤتمرات الدولية الخاصة بالتراث العربي والإسلامي، وكان آخر ما حضره المؤتمر السابع عشر للمستشرقين بأوكسفورد، أين قدّم بحثا عن الشاعر ابن خاتمة الأندلسي.
هو أول باحث جزائري ومُكوِن نواة لقسم الأدب المقارن، اهتم باللغات وبالترجمة، وبالانفتاح على آداب الشعوب الأخرى، دراسة وتعليما وترجمة، ألف أكثر من 50 كتاباً كانت متداولة عند العرب والغربيين، وقد أعاد الحياة لبعض المؤلفات بالنشر منها "تحفة الأدب في ميزان أشعار العرب 1906 و1928، شرح لمثلثات قطرب 1906، أبو دلامة وشعره (أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه)، والألفاظ التركية والفارسية المستعملة في لغة أهالي الجزائر 1924، الأمثال العامية الدارجة في الجزائر وتونس والمغرب (3 أجزاء 1907)، الألفاظ الطليانية الدخيلة في لغة عامة الجزائر (لم يطبع)، فهرست الكتب المخطوطة في خزانة الجامع الأعظم بالجزائر 1909، معجم بأسماء ما نشر في المغرب الأقصى (فاس) من الكتب ونقدها 1922، خرائد العقود في فرائد القيود 1909، الكلمات التركية والفارسية المستعملة في اللهجة الجزائرية، رسالة في المنطق، مجموع أمثال العوام في أرض الجزائر والمغرب، رحلة الورتلاني.."، أما تحقيقاته في مؤلفات غيره منها "البستان في ذكر الأولياء والعلماء بتلمسان لابن مريم التلمساني 1908، عنوان الدراية فيمن عرف من العلماء في المائة السابعة ببجاية لأحمد الغبريني 1910، الذخيرة السنية في تاريخ الدولة المرينية 1920، الفارسية في مبادئ الدولة الحفصية، تعليق على وصايا الملوك وأبناء الملوك من أولاد الملك قحطان بن هود النبي، شرح ديوان عروة بن الورد لابن السكيت 1926، طبقات علماء أفريقية لأبي ذر الخشني ترجم للفرنسية 1915، ترجم إلى الفرنسية رسالة للإمام الغزالي في رياضة الأولاد وتربيتهم نشرت بالمجلة الإفريقية 1901، الجمل تأليف الزجاجي، طرس الأخبار بما جرى آخر الأربعين من القرن الثالث عشر للمسلمين مع الكفار، تأليف الشيخ محمّد العربي المشرقي الغريسي، ونشر دراسات عديدة ومنها ما نشرها في "المجلة الإفريقية" سنة 1919 بعنوان "الأصول الإسلامية للكوميديا الإلهية لدانته".
عرف عنه بتواضعه وسعة إطلاعه وحسن معاملته للناس، ومما امتاز به محافظته على الزي الوطني والأخلاق والعادات والتقاليد الجزائرية، والتزامه التكلم بلغته العربية، وكان من يراه لا يخطر بباله أنه من أكبر أعلام الجزائر، كما فرض نفسه في الأوساط الثقافية بالجزائر وخارجها، وكانت له علاقة وطيدة مع الكثير من الكتاب العرب والمستشرقين والمهتمين بالثقافة العربية، فكره فكرا أكاديميا متكاملا، فقد اهتم بالتراث الشعبي الجزائري اللهجة المحلية النمطية والاهتمام بالتراث العربي الإسلامي ودراساته الأكاديمية الاخرى، وهو حلقة وصل بين البحث الأكاديمي الفرنسي والعربي، وهو من بين الذين انتموا إلى الحركة الثقافية والعلمية التي نشطت ما بين القرنين التاسع عشر والعشرين للميلاد، ممثلة الوجه الشبه الرسمي للمؤسسة الثقافية الجزائرية، فذكره الدكتور أبو القاسم سعد الله في كتابه "تاريخ الجزائر الثقافي" على أنه "من الأدباء والعلماء والمثقفين الجزائريين الذين عاصروا مختلف تلك المراحل"، في 1922 قلدته الحكومة الفرنسية وسام فارس جوقة الشرف،..
وكتب الشعر الملحون والمقفى، منه ما حثَ على التزود بالعلم:
أفيقوا بني عمي برقي المشارف * وجدوا وكدوا في اكتساب المعارف
فقد ذهب الإعلام والعلم بينكم * ولم يبقى إلا كل غمر وخارف
خلت أربع العرفان واستوطن البلا * وغنى غراب الجهل حقا بشارف
فيا وحشتنا من طالب ومدرس * ومنشد أشعار وراوي اللطائف
- وقال في مدح الجزائر:
هلمَ بنا نحو الجزائر يا فتى فقد * ضاق بي حالي وأقعدني الوجد
هناك غزال قد غدا بسواحر * وخد به يزهو الأقاحي والورد
- وقال في أخرى يمدح المدية مسقط رأسه:
للمدية فضل على كل بلدة * بصحة جو واعتدال هواء
وما هي إلا جنة قد تزخرفت * بفاكهة طابت وأعذب ماء
ولم ينقطع عن الدراسة والتدريس والنشاط المثمر حتى وفاته في 5 فيفري 1929م (1347هـ)، عن عمر يناهز 60 سنة، إثر مرض أدخله مستشفى "مصطفى باشا"، ودفن في مقبرة سيدي عبد الرحمان الثعالبي بالعاصمة.
وكتب عنه في نعيه منه ما يلي:
. جريدة "الشهاب": "خسرنا بموته عالما عظيما ومعينا مخلصا وترك في المركز الذي كان يشغله فراغا عظيما..".
. الشيخ البشير الإبراهيمي: "فقدنا بفقده ركنا من أركان العلم الصحيح وعلما في أعلام التاريخ الصحيح".
. أستاذه عبد الحليم بن سماية: "ما علمت في حياتي كلها معلما يرجع إلى تلميذه غيري وإنني معترف له بالفضل والنبوغ".
. الأستاذ أحمد راسم: "لقد كان معجما لغويا يمشي على وجه الأرض".
. الأستاذ ماريتينو عميد كلية الآداب بجامعة الجزائر: "كان صوت الأديب المسلم الذي عرف كيف يطلع على الأساليب الأوروبية في العمل من دون أن يفد شيئا من صفاته وعاداته".
. المستشرق الفرنسي ألفريد: "كان مخلصا لدينه، ومتمسكا بلباسه التقليدي، لم يأخذ الجنسية الفرنسية مما يجبره على التخلي عن الشرائع الإسلامية وعن منزلته الشخصية".
.الدكتور محمد كرد علي: "فخر أمة، قمين أن يرفعها في نظر العالم المتمدن إلى مراتب الأمم الصالحة للبقاء، وأظهر أمته في مظهر أمة تسلسل فيها العلم ثلاثة عشر قرنا".
. الدكتور عبد المجيد حنون: "كان مستشرقا، لكنه أول أستاذ جامعي جزائري، متعدد اللغات".
. صديقه وأستاذه جورج مارسه: "كنا نرجع إليه ونستضيء بضيائه وكنا نناديه "شيخنا" فإنه كان يجمع إلى صفات العلم والعالم الحقيقي صفات الصلاح والطيبة".
.الشيخ عبد الرحمن الجيلالي: "يبكيك العلم والأدب، وتبكيك المنابر والمجالس التي كانت تزهو على غيرها بلذيذ دروسكم الشيقة، ومحاضرتكم الرائقة".
رحم الله شيخنا وأمدنا بعلمه وعمله وبركاته الطيبة.