المجاهد الحاج بلحسن محمد الماحي المسيردي: رجل الذاكرة والمجاهد الذي قهر الاستعمار
بقلم: الشيخ عبد الحفيظ بلحسن -
هذه محطات في سيرة المجاهد الحاج محمد الماحي بلحسن المسيردي -رحمه الله- الذي توفي منذ أسابيع (يوم الإثنين 12 أكتوبر 2020) كنموذج ومثال لرجال الثورة المباركة الذين التزموا بمبادئها وظلوا أوفياء لها طيلة حياتهم. عسى أن يكونوا في عداد من وصفهم الحق بقوله سبحانه (رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا).
ولادته ونشأته
في دشرة من مداشر منطقة مسيردة وعلى قمة جبل من جبالها الشامخة ولد المجاهد الحاج محمد الماحي ابن محمد الماحي ابن محمد الماحي بلحسن يتيما بعد وفاة والده بشهرين أو ثلاث. (يوم الاثنين 16 ماي 1938. 16 ربيع الأول…) ونشأ وترعرع في أحضان طبيعة مسيردة القاسية، بدشرة القنفذ ثمّ دشرة تيلوين الجبلية، راعيا وفلاحا، متغذيا على تينها ورمانها وهنديها (التين الشوكي) والزرع البالي والحلحول والتشيشة والزميط وأعشاب النوخة وفلايو والزعتر والشيح… فنشأ صحيح الجسم قوي البنية مقاوما لكلّ أنواع الفيروسات والأمراض. أما فكريا ونفسيا فقد نشأ متحصنا بثقافة وقيم وعادات مسيردة الإسلامية، وتربى روحيا مع والدته فاطنة الفقيرة تحت كنف ورعاية ونصح ودعوات جده الشيخ الفقيه سيدي محمد عويني، ثمّ جده الشهير بالمقدم الفقير سيدي محمد الماحي بلحسن أحد مقدمي الطريقة الصوفية الموسوية الشاذلية.
أما مبادئه الوطنية فقد تكونت من خلال الحالة الاستعمارية التي كان يعيشها ويتألم بها الفرد والمجتمع الجزائري كله في تلك الفترة العصيبة.
الهجرة إلى فرنسا
قبيل اندلاع ثورة نوفمبر 1954 وفي صيف ذلك العام المبارك وبعد وفاة جده وكافله المقدم سيدي محمد الماحي، ساعد أعمامه في موسم الحصاد وملأ مطمورة زوجة جده بالزرع تنفيذا لوصية جده… وبعد استشارة جده الشيخ الفقيه وسماع نصحه ودعواته هاجر إلى فرنسة بمعطف عسكري هدية من عمه ومتزودا بحفنة حمص كانت كلّ زاده في رحلته المثيرة بتفاصليها ومغامراتها.
نشاطه في الحركة الوطنية
وما كاد يحط الرحال في ضواحي باريس عند عمه في يوم من أيام أكتوبر سنة 1954 -كما هو مؤرخ في بطاقة إقامته بفرنسة- حتى انطلقت شرارة الثورة المباركة التي وجدت الشعب الجزائري مستعدا قد فتح أحضانه وكلّ أبواب قلبه ونوافد عقله لاحتضانها واستقبالها منذ عهود خاصة سنة 1945 لما ارتكبه فيها الاحتلال الفرنسي الصليبي من مجازر وحشية مروعة.
وجد الشاب المسيردي اليتيم في الثورة بغيته وطموحه المتناغم مع عزته وشخصيته وفطرته الكارهة للظلم والقهر، فانغمس بكلّ كيانه في متابعة أخبار وبشائر هذا المولود السعيد بشير الثورة والانتفاضة ضد الاحتلال الوحشي. أخيرا تحقق ما كان يحلم به ويتمناه ككل الجزائريين.
اندمج في تلك الفترة في تجمعات العمال الجزائريين وعاش معاناة الأعمال الشاقة في المناجم الفحم الحجري في شمال فرنسة بمنطقة ((pas de calais. وانخرط في الحركة الوطنية ونشاطها وجدالها. وشهد صراع المناضلين وتألم وحزن لصراع المناضلين من مختلف التوجهات والأحزاب. خاصة بين أبناء الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية. التي كانت قد أسست رابطة فرنسة للدفاع عن العمال لكنها دخلت في دوامة الصراع بين المركزيين والمصاليين.
وبقي في تلك الفترة يعلل نفسه بأخبار الثورة السارة وتفاصيلها المثيرة. ويمني نفسه بالانضمام إلى ركبها والالتحاق بصفوفها.
في سنة 1955 قدم بعض أبناء عمومته ومعهم الأخبار السارة عن الثورة المباركة وتبني الشعب لها واندماجه فيها. وكانت فكرة الثورة في تلك الفترة قد ازدادت وضوحا وبدأ صوت رصاصها ودوي انفجار قنابلها وتكبيرات أبطالها تتردد صداه بين العمال الجزائريين في كل أنحاء فرنسة فيزيدهم ايمانا ويقينا بها وأملا كبيرا فيها.
الالتحاق بالثورة
كان الشاب المسيردي محمد الماحي بلحسن في تلك الفترة في شمال فرنسة في منطقة (pas de calais) يعمل في مناجم الفحم الحجري في تجمع من مئات العمال الجزائريين منهم كثير من معارفه وأبناء عمومته من منطقة مسيردة كان -رحمه الله – يذكر منهم عبد الكريم والحسين ومحيي الدين وغيرهم وكلهم كانوا من المناضلين.
بعد تواصل مع مسؤول المنطقة الشمالية المجاهد فضيل بن سالم بدأت نواة العمل الثوري تتشكل في وسط تجمعات عمال المناجم.
قال لي الحاج عبد الكريم بلحسن قريبه ورفيق نضاله (التحقت بصفوف النضال أنا وابن خالي محمد الماحي يوم ديسمبر 1955 بعد أن اجتمعنا مع المنسقين ابن عمنا محيي الدين بلحسن وصديقنا فريد من دشرة اولاد بن عايد).
وهكذا تحققت أمنيته الالتحاق بصفوف الثورة وشرف المشاركة في النضال.
دخول السجن
أخبرني ابن خاله المناضل الحاج عبد الكريم -وهو حي يرزق – أنه في في شهر أوت 1957 كنا مجموعة من المناضلين في اجتماع تحت مسؤولية المناضل يوبي عبد السلام -وهو من مدينة الرمشي بولاية تلمسان وما زال على قيد الحياة- للنظر في أمر أحد المسؤولين المصاليين من الناشطين في أوساط العمال والمحاربين للثورة.
وتهربا من المحاكمة والمحاسبة تظاهر هذا المتهم بالاعتذار وأنه سيتوقف عن محاربة الثورة والمناضلين وأنه سيلتحق بالثورة ومعه خمسون فردا الذين هم تحت مسؤوليته، إلاّ أنّه عاد بعد أيام مسلحا بمسدس محاولا قتل والدي ورفيقه عبد الكريم. اعترض طريقه المناضل لحسن بلحسن فأطلق عليه ثلاث طلقات ثمّ لاذ بالفرار ليبلغ الشرطة ويكشف عن مجموعة من المناضلين. وهكذا ألقت السلطات الفرنسية القبض على ثلاثة عشر مناضلا في يوم31 أوت 1957. كان في المجموعة والدي وبعض أقاربه، منهم بلحسن عبد الكريم وبلحسن لحسن ويوبي عبد السلام وأوجامع صالح وطاهر لخضر وموسى بنعمر وشداد عبد القادر وبلعربي عبد القادر ومهني حسين ودحماني محمد وصديقي محمد ورحمي محمد.
نُقلوا بعد ذلك إلى مركز الشرطة للتحقيق والتعذيب لمدة أيام ثم زُج بهم في غيابات السجن الأرضي في زنزانات فردية لمدة سنة كاملة. ثم لاحقا في سجن سان موريس القريب من مارسيليا ثم في سجن تول القريب من الحدود الإسبانية ثم أطلق سراح الوالد من السجن في مايو سنة ستين 1960.
كان الوالد -رحمه الله – عندما يُسأل عن تعليمه يقول درست وتخرجت من مدرسة السجن. وأخبرني رفيقه المناضل الحاج عبد الكريم قائلا: (إن المجاهد محمد الماحي كان طالبا مجتهدا في السجن خاصة في قسم اللغة العربية الذي كان يتناوب فيها على المرتبة الأولى والثانية مع تلميذ آخر اسمه عيسى من منطقة السينيا بوهران). كان من أساتذتهم المعلم علي بوتيت وموسى وعبد القادر. وكان معهم في السجن مثقفون ومحامون وأطباء فكانوا ينظمون شؤونهم بأنفسهم إلى أن فك الله أسرهم، فخرجوا من السجن ليواصلو نضالهم وجهادهم.
النفي ومواصلة النضال (1960/ 1962)
بعد خروجه من السجن نفته السطات الفرنسية وأرغمته على الاستقرار والإقامة في مدينة تروا (Troyes) التي تبعد عن باريس بحوالي مائة كيلومتر وألزمته بالحضور إلى مقر الشرطة لتوقيع حضوره كل يوم ثم كل أسبوع.
كانت مدينة تروا مستعصية على المناضلين، فوجدوا صعوبة في تأسيس فرع مستقر للفدرالية بها. وكلما حاولوا تأسيس فرع وعينوا مسؤولا جديدا يلقى عليه القبض.
وما كاد سيدي الوالد -رحمه الله – يستقر هو ومن معه من المناضلين المنفيين بمدينة تروا حتى جاءهم أحد المسؤولين الثوريين من مدينة نيس بدعم مالي لسد حاجاتهم المعيشية الضرورية وللتشاور في تشكيل خلية للنضال. وتشكلت هذه الخلية في أواسط سنة 1960 بمجموعة قليلة مكونة من 12 مناضلا، منهم المسؤول عميرات الطاهر (من سيدي عيش) وبلحسن عبد الكريم (مازال حيا) وتحت إمرته 6 مناضلين منهم العم عبد الله بلحسن (مازال حيا) وضيف الله دراجي (من باتنة) وكانت المسؤولة عن توصيل الأموال من تروا إلى باريس المناضلة الهدبة (من عزابة) زوجة المناضل أودينا عمر, أما الوالد فكان مسؤولا عن العدالة وكان نائبه في ذلك عابدي لحبيب من وهران. يقول المجاهد الحاج عبد الكريم: (كان المجاهد محمد الماحي بلحسن أصغرنا وأعقلنا، فانتخب قاضيا على المناضلين والجالية في تروا يحاكم ويحاسب ويعاقب من أخطأ منهم أو ابتعد عن خط الثورة. وكان عادلا صارما. جاءني أحد الجزائريين وقد صدر بحقه دفع غرامة كبيرة بسبب شرب الخمر يطلب مني التوسط له عند القاضي محمد الماحي بحكم قرابتنا فرفضت ولم أجرؤ على ذلك لعلمي المسبق بحزمه وصرامته). لقد زرت مدينة تروا عدة مرات وزرت مسرح هذه الأحداث وما زال ذلك الفندق وملحقاته من المقهى والمطعم باقيا إلى حد الساعة وقد تحول جزء منه إلى مسجد تشرف عليه الجالية الجزائرية في مدينة تروا. وقد أخبرني الوالد -رحمه الله- وكذلك ابن عمته ورفيقه في النضال والسجن العم الحاج عبد الكريم بلحسن (الذي ما يزال على قيد الحياة) أن ثلاثة مسدسات كانت سلاح نضالهم ما زالت مدفونة في مكان بتلك البناية.
على هذا المنوال كانت حياة وأحوال المجاهدين المناضلين من العمال الجزائرين في ديار الاحتلال. فقد كان لهم دور كبير في دعم الثورة المباركة بصبرهم وثباتهم وبأموالهم. كان نصف تكاليف الثورة من عرق جبينهم، إذ بلغ ما جمعوه من الأموال خلال سنوات (1961-1958) 16 مليار فرنك فرنسي. وقد أدركت الثورة منذ اندلاعها أهمية أبنائها العمال في فرنسة، فنبهت على ذلك في مؤتمر الصومام سنة 1956 واعتبروا العمال بفرنسة كنزا مهما ودعما كبيرا للثورة لكثرة عددهم، فأوصوا بـتعبتتهم. واعترف مجلس الثورة بعد استرجاع الاستقلال بحق الفدرالية والجالية في فرنسة بأن تكون بمثابة الولاية السابعة كما أقر المجلس التأسيسي بعد الإستقلال بأحقية هذه الجالية في التمثيل بستة عشر مقعدا (شهادة علي هارون بمجلة أول نوفمبر العدد 157 و158. وزارة المجاهدين 1997).
وفاؤه وذاكرته الحية بعد الاستقلال
بعد الاستقلال عاش وواصل عمله في فرنسة على أمل العودة إلى الجزائر التي غادرها قبيل الثورة. وكما كان يمني نفسه بالثورة على الإحتلال ويحلم بالإستقلال ها هو الآن يحلم بالعودة إلى جزائر العزة ووطن الحرية والكرامة. وكما تألم وتأسف خلال الثورة لما عاشه وشهده من صراع الإخوة واقتتالهم في فرنسة ها هو الآن يتألم ويتأسف مرة أخرى لصراع واقتتال الإخوة في الجزائر. فلم يعد إلى الجزائر إلاّ بعد أن هدأت الأوضاع في صيف 1968. وفي الجزائر اختار زوجته ورفيقة حياته من بنات الشهداء فتزوج سيدتي الوالدة عربية بنت الشهيد سعاجي عمر -رحمه الله – الذي سل الاحتلال عينه وجذع أنفه وعذبه كثيرا ليستل منه سرا واحدا فلما عجزوا عن ذلك ألقوه في خندق ورموه بقنبلة يدوية.
وبعد زواجه، عاد إلى فرنسة ليواصل حياته عاملا في فرنسة دون أن يصطحب عائلته إلى فرنسة خوفا على أولاده من التفرنس، الذي أضرب عن الطعام 12 يوما لحماية نفسه منه. وبقي طيلة حياته رافضا بل مستنكرا التجنس بالجنسية الفرنسية وكان يعتبر ذلك ردة عن الإسلام وخيانة للجزائر ونقضا لعهد الشهداء، وكان يستحضر في ذلك فتوى الشيخ عبد الحميد بن باديس.
وهكذا عاش حياته جزائريا حرا مستقلا في مدينة تروا التي كانت مسرحا لكثير من أحداث وذكريات وتاريخ نضاله مع مجموعة من إخوانه الجزائريين من المجاهدين الأبطال. تلك الذكريات التي ورثها لأولاده وأحفاده تخليدا وإحياء وتفعيلا للطاقة الذاكرة المؤسسة لشخصية الإنسان الجزائري المعاصر.
أما هو -رحمه الله – فقد انتقل إلى رحمة الله في مسكنه في مدينة تروا وفي غرفته التي كان يصلي ويقرأ القرآن ويذكر الله فيها وعلى يمينه مصحفه وفي يده سبحته تاركا وصيته لأبنائه في ليلة وفاته أن: اتقوا الله. ثم تلا قوله تعالى: (ملة أبيكم إبراهيم). ثم فاضت روحه إلى بارئها في صحر الإثنين 12 أكتوبر 2020 ودفن يوم الجمعة من نفس الأسبوع بمدينة الحاجة مغنية بولاية تلمسان.
بعد أن تمنى ودعا الله تعالى ألا يموت بين يدي الأطباء الفرنسيين.