حميدة عبد القادر المناضل الصامد: شهيد الكلمة 1959/1919

بقلم: محمد بسكر-

تستطيع الخطوب صقل أفذاذ الرّجال، وتحويل المحن إلى حوافز تحي الهمم، والرّجل الشجاع يعرف من معاني الوجود الثبات ومصابرة النّفس على لَأوَاء الحياة، وخاصة إذا كانت غايته التخلّص من براثن الاستعمار، والسّعي وراء الحرية، هذه صفات يجدها القارئ في سيرة الشهيد عبد القادر حميدة، الذي شبّ على مقارعة الاحتلال منذ صغره، حتى لقّبه رفاقه بالمناضل (الصامد)، وعُرف في أوساط المناضلين بثقافته المزدوجة، وبحنكته وشجاعته وتفانيه في خدمة الوطن، فنشاطه الثقافي والسياسي بدأ مطلع الأربعينيات من القرن الماضي، حيث لامس معاناة الناس جراء نتائج الحرب العالمية الثانية، والتهميش الذي طال رجال الثقافة والسياسة، وخاصة بعد أحداث الثامن ماي 1945م.

هو من مواليد بلدة بوسعادة سنة 1919م، أخذ تعليمه بكتاتيبها، وانتمى إلى المدرسة الفرنسية “شالون”، حيث ربطته الزمالة مع طلبة قدّموا الكثير في مجال العمل السياسي والثقافي والكشفي، أمثال الرئيس محمد بوضياف، ودهيمي لخضر، التحق بالمدرسة الثعالبية غير أنّه توقف عن مواصلة التعليم بعد أن قضى فيها سنتين، وتوجّه إلى العمل التجاري والمشاركة في الحياة السياسية والثقافية. اِكتسب خبرة عالية وثقافة واسعة مزدوجة، نتيجة اختلاطه بالنّخب، ومطالعته للكتب والصحف، وخاصة أنّه عاش في وسط اجتماعي يتسم بالانفتاح، مُعظم عناصره المثقّفة قادرة على التأثير في مجريات السّلوك الاجتماعي حولها.

العمل الكشفي: إنّ تأسيس أوّل فرع للكشافة الإسلامية ببوسعادة يعود إلى سنة 1940م، ساهم في وضع لبنته جمع من الشباب، سيكون لهم دور كبير في العمل السياسي والثوري مطلع الخمسينيات، أمثال عبد الكريم علي، حميدة عبد القادر، كحيوش علي، وقد مثّل هؤلاء الثلاثة فرع بوسعادة سنة 1941م في معسكر شبابي عقد بالجزائر العاصمة، بمشاركة SMA، والكشافة الفرنسية. يقول السّيد علي عبد الكريم:« إنّه بسبب اِتّساع دائرة نشاط الفوج ببوسعادة وخارجها، وبتعليمات من الشهيد محمد بوراس، تمّ تكليفهم بتأطير وإنشاء بعض الفروع الكشفية ببلدة المسيلة والجلفة»، شارك أعضاء الفرع الكشفي في نشاطات دينية وثقافية متنوعة، لهم فرقة مسرحية من عروضها النّاجحة مسرحية ( فجر الإسلام ) التي قدّمت في سينما ابن سراج، وحضرها عباس فرحات، وأحمد فرانسيس، وفرنسيين ويهود، شارك في التمثيل فيها، حميدة عبد القادر، وعبد القادر دلاوي، ولخضر العمري، وشكيمي محمد. ظلّ العمل الكشفي قائما ببلدة بوسعادة إلى ما بعد أحداث 8 ماي 1945م، حيث تمّ إيقافه من طرف المستعمر، وإلقاء القبض على ثلاثة من الكشافة، وهم: حميدة عبد القادر، وطيار زيان، وبوغلام علي، وبعد محاكمتهم في المحكمة العسكرية تمّ الإعفاء عنهم.

جمعية العلماء ونشاطه فيها: يرجع تكوين فرع جمعية العلماء ببلدة بوسعادة إلى سنة 1932م، برئاسة الشيخ محمد بسكر، يُعينه في تسييره ثلّة من الناشطين، أمثال عبد القادر عماري، وعلي بن عيجاج، وعلي ناجوي… وغيرهم. لم يُصرّح أعضاء المكتب باسم فرعهم، خشية ردة فعل الإدارة الفرنسية، وإنّما تقدموا بطلب إنشاء جمعية تحت مسمى “جمعية الهداية”، زار الشيخ عبد الحميد بن باديس في هذه السنة بوسعادة وشعر بهذا التّخوف، فكان حديثه معهم أثناء السّمر هو محاربة الخوف والجمود، وتشجيع الأعضاء على العمل.

انخرط المجاهد حميدة عبد القادر في جمعية العلماء بداية من سنة 1951م فكان من الأعضاء المستشارين، حسب القائمة الإسمية التي نشرتها جريدة البصائر(جريدة البصائر، العدد: (153) بتاريخ: 30 أفريل من سنة 1951م)، كما وجدنا اسمه في التقرير الأمني المقدّم من قائد الشرطة الفرنسي بتاريخ (18 سبتمبر من سنة 1957م)، حيث شغل أمينا عاما لجمعية الهداية التي يرجع إليها الفضل في تأسيس مدرسة الهداية، ومع أنّ الجمعية عملت في السّر، لكون الاحتلال قيّد حركتها، غير أنها واصلت نشاطها إلى غاية الخمسينيات من القرن العشرين، فكانت تعقد جلساتها بانتظام برئاسة الحاج العربي بازة، وحسب تقريرها الأدبي والمالي الصّادر أول جانفي سنة 1955م- وهو مكتوب بخطّ كاتبها الشهيد حميدة عبد القادر- فإنّ مساعي الاحتلال لم تتوقف عن عرقلة مشروع الجمعية الممثل في بناء معهد ديني للأهالي.

مساهمتة في الصحافة: للعمل الصحفي أهمية كبيرة في التوعية وإصلاح المجتمع، وقد حاولت الصحف المستقلة في العهد الاستعمار التّخلص من هيمنة الإدارة الفرنسية، فظهرت عدة صحف ومجلات آل عدد منها إلى الغلق والمتابعة، كانت صحيفة المساواة “l’égalité” التي أصدرها فرحات عباس والنّاطقة باللّغة الفرنسية، هي لسان حال حزبه” أحباب البيان والحرية ” المؤسس بتاريخ 14 مارس 1944م، بدأ حميدة عبد القادر الكتابة فيها وعمره 21 سنة، حيث وجد متسعا لعرض مآسي منطقته، فكتب بعض المقالات حول الحياة اليومية لبلدته، ومعاناة السكان ومشاكلهم مع الإدارة الفرنسية، لم أعثر في أعدادها القليلة على ما كتبه ما عدا مقالة واحدة نشرها بتاريخ 13 سبتمبر 1945م، بعنوان (إداري بوسعادة يبالغ)، وأخرى تحت مُسمى (اجتماع بوسعادة)، فالجريدة لم تعمر طويلا، بسبب منع الإدارة الفرنسية صدورها بتاريخ 14 ماي 1945م، وبداية من سنة 1947م أصبح مراسلا لجريدة «لاريبوبليك ألجيريان » (الجمهورية الجزائرية)، وهي لسان حال حركة UDMA( الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري)، والتي تأسست بتاريخ 15 فيفري 1947م، كتب فيها بداية من سنة 1947م، وممّا وقفت عليه من عناوين مقالاته أذكر: الذكرى الأولى لوفاة علي الحمامي(29 ديسمبر 1950م)، الاحتفال بالمولد (العدد: 9، بتاريخ 4 ديسمبر 1953م)، وسوء إدارة البلدية (26 جوان 1953م)، و(فضيحة تحويل حي مرفوض)، و( الذكرى الرابعة لوفاة علي الحمامي، 1جانفي 1954م)، ومعرض حول البرنوس ببوسعادة (30 جويلية 1954م).

العمل السّياسي والثوري: ألقت أحداث الثامن من ماي الأليمة بظلالها على أهالي بلدة بوسعادة، فعمل حميدة عبد القادر مع بعض الشباب على توزيع منشورات تدين المحتل، وتطلب من السكان الالتحاق بالمظاهرات، لقد تمّ القبض عليه وحكم عليه بالسجن لمدة تسعة أشهر قضاها ما بين سجن بوسعادة وسركاجي بالجزائر العاصمة، بعد خروجه نلاحظ تغيرا واضحا في فكره، ولعلّه وجد بأنّ الحل الوحيد في تغير الواقع والتخلص من هيمنة الاستعمار هو الانخراط في العمل السّياسي المنظم، فانضم إلى شبيبة الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري JUDMA، إحدى الفروع التابعة للاتحاد الديمقراطي، الحزب الذي أسّسه فرحات عباس بتاريخ 2 جوان 1946م، فكان من أبرز عناصر شبيبته بمنطقة بوسعادة وما جاورها، وستتيح له حيويته وفاعليته داخل الحزب فرصةً للتحدّث أمام إطاراته، وفرصةَ استقبال فرحات عباس، الذي سبق له أن زار بلدة بوسعادة بتاريخ 11 أفريل 1944م، وحظي بتجمع شعبي كبير حضره 800 مناصر، بقي (رحمه الله) وفيا لحزب فرحات عباس، وغطى بمقالة نشرها بتاريخ 3 ماي 1947م، الحملة الانتخابية التي قادها أعضاء اللجنة المركزية بقيادة رئيس الحزب، انطلاقا من بلدة سور الغزلان، والتجمعات الشعبية الحاشدة التي أقيمت لهم في بوسعادة وابن سرور وامجدل، ولعل آخر تجمع شارك فيه هو مؤتمر الشبيبة الجزائرية المنعقد بتاريخ 22 سبتمبر 1954م، بجبل العنق بغابة (جبل إمساعد) جنوب بوسعادة، برئاسة محمود برويبة، ومثّل هو شبيبة الاتحاد، بينما مثل الكشافة الإسلامية المجاهد عبد الرحمن بن عطية، دام هذا التجمع سبعة أيام، وفي آخر يوم منه حضر فرحات عباس، وألقى خطابًا حشدَ فيه همم الشباب، وحثهم على التضحية من أجل الوطن.

إشادته بالمناضل علي الحمامي: الأستاذ علي الحمامي من أبرز الناشطين السياسيين الجزائريين في المهجر، وهو مؤلف رواية (إدريس) النضالية، قصة أدبية دافع فيها عن المغرب العربي، توفي بتاريخ (12 ديسمبر 1949م) إثر حادث سقوط طائرة أثناء عودته من مهمة رسمية من مكتب المغرب العربي بالقاهرة، لتمثيل الجزائر في المؤتمر الاقتصادي الإسلامي المنعقد بكراتشي ببكستان، رفقة ثلة من النّخبة العربية، منهم مندوب تونس لحبيب ثامر، والمغربي الأقصوي أمحمد أحمد بن عبود وآخرين من مصر وسوريا، ونقل جثمانه بالطائرة إلى الجزائر العاصمة. وقد أحيت الطبقة السياسية والثقافية الذكرى الأولى لوفاته يوم 17 ديسمبر سنة 1950م بمقبرة سيدي محمد ببلكور، تحدّث الأستاذ حميدة عبد القادر عنه باسم شبيبة الاتحاد، وأبّنه بكلمة مؤثرة، دالة على عمق إيمانه الرّاسخ، ووطنيته المتجذرة، وإحساسه بأنّ الجزائر فقدت شخصية هامة في تاريخها النضالي، لم يُكتب له أن يلتقي به أو يسمع حديثه، وإنّما تتبع مساره النضالي من خلال شهرته وحديث الصحف عنه، كان ذلك بحضور بعض أعضاء المكتب السياسي لـ UDMA، وجمعية العلماء المسلمين ورجال السياسة والنشطاء، وقد نشرت جريدة ” الجمهورية الجزائرية” نص كلمته بتاريخ 29 ديسمبر 1950م، وممّا قاله في حقه: « أخي الحمامي، نحن هنا في هذه الذكرى لنحزنك، أقسم بالله، على الجزائر وعلى قبرك، على مواصلة القتال حتى النصر النهائي… في ذلك اليوم، سوف نأتي إلى هذا القبر لنغني النشيد الوطني، ونخبرك بأنّ علم الأمير عبد القادر يرفرف على أرصفة مباني الجمهورية الجزائرية ». يعتبر الأستاذ عبد القادر حميدة أوّل جزائري يشيد بنضاله، ويكتب عن هذه الشخصية مقالتين، المقالة الأولى هي نص كلمة التأبين التي ألقاها في الذكرى الأولى، أما المقالة الثانية فكتبها سنة 1954م بمناسبة الذكرى الرابعة لوفاته، ففي سنة 1953م سافر إلي المشرق لأداء فريضة الحج وفي طريق عودته من البقاع المقدسة نزل بالقاهرة، حيث التقى بزعماء المغرب العربي أمثال عبد الكريم الخطابي وغيره، وكلّهم أكّدوا له بأنّ علي الحمامي يتمتع بشهرة عالية. عاد إلى بلده ليدون شهادته عنه في جريدة (الجمهورية الجزائرية) ، ومما كتبه فيها: “بعد آداء مناسك الحج السنة الماضية عرجت على مصر حيث أتصلت بشخصيات سامية مصرية ومغاربية قاطنة بالقاهرة، صرحوا لي بأنّ الحمامي كان مفخرة للمغاربة في الأوساط السياسية والعسكرية”. اهتم الصحفي عمار بلخوجة، المختص في الكتابة التاريخية، بتاريخ علي الحمامي، وأثناء إعداده لفصول كتابه”علي الحمامي والحركة الوطنية الجزائرية”، ذكر بأنّه تشوق لمقابلة حميدة عبد القادر حتى يسجل شهادته عن الحمامي، دون أن يدري بأنّ الرجل ارتقى شهيدا، فكتب في ذلك قائلا: «…أثناء التحريات التي قمت بها حول حياة علي الحمامي، تشوقت كثيرا لمقابلة ابن بوسعادة، كي أسجل شهادته لكن من الوهلة الأولى علمت بأنّ عبد القادر بن حميدة غادر هذه الدنيا، أي استشهد، وهو يحارب الاحتلال الفرنسي».

اندلعت الثورة ووصل صداها إلى بوسعادة، ليساهم حميدة عبد القادر مع شبابها في التأطير والدعم، أشار المجاهد” عيسى قاسمي” ابن بلدة توجة، والذي عاش في بوسعادة من سنة 1960م إلى غاية 1962م، وشارك في العمل الفدائي بالولاية السادسة، إلى مشاركة حميدة عبد القادر في العمل المدني الثوري، قبل أن يلتحق بصفوف المجاهدين بالجبال، حيث قال في مذكراته: “في غضون شهر جانفي سنة 1955م، تأسّست أوّل لجنة لمساندة الثورة ببوسعادة، وكانت مكلفة بجمع السلاح والإعانات المالية لفائدة طلائع المجاهدين بجبال بالسطرو (الأخضرية حاليا)، وكانت تتألف من حميدة عبد القادر، والباهي عطية، ودلاوي عبد القادر، وابن عطية عبد الرحمن…”، ومع نشاطه ضمن هذه اللّجان التي كانت تعج بها أحياء بوسعادة القديمة، فانّه لم يترك الكتابة إلى غاية 1955م، لم يكتب للسّيد عبد القادر أن يقف مرة ثانية على قبر المناضل علي حمامي ليبشره بالاستقلال، فقد شاءت الأقدار أن يلقي الجيش الفرنسي القبض عليه سنة 1959م في جبل بوطالب، ويقوده إلى سجن المسيلة، حيث سلط عليه أنواع العذاب قبل أن يغتاله الضابط الفرنسي لادين مارتينز ويخفي جثته، ليلتحق بركب الشهداء الكثيرين الذين لا تعرف قبورهم، أمثال صديقه في الكفاح فكاني لعموري، والعربي التبسي وغيرهما.

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.