الفضيل الورتيلاني العالم المناضل

بقلم: محمد الطيب-

ولد إبراهيم بن مصطفى المعروف بـ "الفضيل الورتلاني" ببني ورثيلان بسطيف في 2 جوان 1900، وإليها انتسب، وجاءت شهرته بالورتلاني، ونشأ في أسرة كريمة لها اتصال بالعلم، فجده الشيخ الحسين الورتلاني صاحب الرحلة المشهورة في التاريخ، كان من العلماء المعروفين في منطقته والجزائر.

 

حفظ القرآن الكريم وتعلم مبادئ القراءة والكتابة، ودرس علوم اللغة العربية على علماء بلدته، ثم انتقل إلى قسنطينة عام 1928 لمواصلة دراسته على يد الشيخ بن باديس، هناك تلقى دروسه في التفسير والحديث والتاريخ الإسلامي والأدب العربي، وتأثر بشيخه المصلح الكبير وبطريقته في الإصلاح، وكان له دور مهم وفاعل في تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين سنة 1931، وهو من اقرب الشخصيات للإمام بن باديس والإمام البشير الإبراهيمي، ولم يلبث طويلا حتى بات منذ 1932 مساعداً له في التدريس، ومرافقاً له في بعض رحلاته بالوطن، مشاركاً بقلمه في كل من البصائر والشهاب بروح وطنية متوثبة ومتجولا لصالحها بشعور ديني ملتهب.

لم يكن الشيخ ابن باديس يقصر دعوته على إصلاح حال الجزائريين في بلادهم، بل امتد بصره إلى المغتربين في فرنسا من الجزائريين، ورأى أن من أوجب واجبات الجمعية أن تحمي إسلام هؤلاء من الضياع، وأن تتولى تربية النشء الجديد قبل أن تلتهمه الحياة الفرنسية، ونظر حوله فلم يجد أكفأ من "الورتلاني" للقيام بهذه المهمة الشاقة التي تتطلب، إيمانًا بالقضية وإخلاصًا لها، ورغبة في الإصلاح والتغيير، نزل "الفضيل" بفرنسا في 1936 مبعوثًا عن الجمعية، أقام ونشط في باريس، اتصل حينها بالعمال والطلبة الجزائريين، وأخذ في إنشاء النوادي لتعليم اللغة العربية ومبادئ الدين الإسلامي، ومحاربة الرذيلة والانحلال في أوساط المسلمين المقيمين، واستطاع خلال عامين أن يفتح كثيرًا من النوادي الثقافية في باريس وضواحيها وبعض المدن الفرنسية الأخرى، وانتهز فرصة وجوده هناك فاتصل بالدارسين العرب في الجامعات الفرنسية، وتوثقت بينهم الصلة، كالعلامة محمد عبد الله دراز صاحب كتاب (دستور الأخلاق في القرآن الكريم)، والشيخ عبد الرحمن تاج الذي صار شيخا للأزهر، والعلامة السوري محمد المبارك، والشاعر عمر بهاء الدين الأميري.

نشاطه أقلق السلطات الفرنسية فضيقت عليه حركته والذي قررت منظمة (اليد الحمراء) الإرهابية اغتياله، وجاءته رسائل تهدده بالقتل، فاضطُّر إلى مغادرة فرنسا إلى إيطاليا بمساعدة الأمير شكيب أرسلان الذي وفر له جواز سفر، ومنها إلى القاهرة.

في 1940 أنتسب إلى الأزهر، والتقى علماءه كالشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية آنذاك، والشيخ أبي الفضل الجيزاوي الذي صار فيما بعد شيخاً للأزهر، فحصل على شهادته العالمية في كلية أصول الدين والشريعة الإسلامية، مواصلاً جهاده القومي الوطني، للتعريض بالاستعمار الفرنسي في الجزائر وخدمة القضية الجزائرية، وقضايا المسلمين عموماً، فأسس في 1942 اللجنة العليا للدفاع عن الجزائر، كما أسس في 1944 جبهة الدفاع عن شمال إفريقيا، وكان أمينها العام وتضم في عضويتها الشيخ محمد الخضر حسين، وحفيد الأمير عبد القادر، والأمير عبد الكريم الخطابي، ثم فتح مكتب لجمعية العلماء المسلمين في القاهرة عام 1948 الذي استقبل فيه الشيخ الإبراهيمي سنة 1952، ثم صار عضواً في تنظيم حركة الإخوان المسلمين وكانت تربطه صلة وثيقة بـ "حسن البنا"، ونظرا لملكاته الخطابية وقدرته على الإقناع، أختاره للنيابة عنه حين يكون غائبًا عن القاهرة في إلقاء حديث الثلاثاء بالمركز العام لجماعة الإخوان.

امتد نشاطه البارز في تنظيم وتنظير ومساندة ثورة الأحرار في اليمن، ضد الإمام يحيى حميد الدين، والتطلُّع إلى إخراجها من عزلتها وفقرها وجهلها، فأوفد إلى هناك سنة 1947 ونجح في توحيد الصفوف، وبدأ في تهيئة الناس للتغيير بخطبه الحماسية التي تلهب المشاعر وتوقد الحماسة في الصدور، وفي فيفري 1948 نجحت المعارضة في الوصول إلى الحكم، ويقول عنه أحمد الشامي أنه "هو الذي غير مجرى تاريخ اليمن في القرن العشرين، لأن ثورة الدستور (1948) هي من صنعه"، واتهم بالمشاركة في محاولة انقلابية، وأصبح مطلوبا للإعدام، فقبض عليه هناك، ثم غادرها متنفلا في عدة دول أوروبية، فقضى خمس سنوات متشردا في العالم ومتسترا، وكان عليه أن يغير ملامح وجهه من زي عالم أزهري إلى هيئة شيخ قبيلة خليجية، زار سرا جل الدول الأوروبية، والتقى الشيخ الإبراهيمي ونائبه الشيخ التبسي في سويسرا، وهذا بعدما رفضته الدول العربية، حتى وافق رئيس وزراء لبنان "رياض الصلح" على استقباله سرًا، وبعد الإطاحة بالملك فاروق عاد إلى مصر بعد غياب عدة سنوات، واستقبله العلماء والسياسيون استقبالاً حسنًا، نظرًا لماضيه المشرِف في الجهاد، وعاد إلى جهاده ومؤازرة الثورة الجزائرية، وأصدر بيانًا مع المجاهد الشيخ الإبراهيمي رئيس جمعية علماء بعنوان: "نُعيذكم بالله أن تتراجعوا"، وشارك هناك في تأسيس جبهة تحرير الجزائر في 17 فيفري 1955، وكانت تضم الشيخ الإبراهيمي، وممثلي جبهة التحرير كأحمد بن بلة وحسين آيت أحمد، ومحمد خيضر، وبعض ممثلي الأحزاب الجزائرية كالشاذلي مكي وحسين لحول، عبد الرحمن كيوان، أحمد بيوض وغيرهم..".

وبعد استئثار عبد الناصر بالسلطة وخلع محمد نجيب واعتقالاته للإخوان المسلمين هاجمه على محاربته للإخوان فكان جزاؤه السجن الحربي مع زميله الشاذلي المكي بعد عودتهما من الحج، مما حدا به مغادرتها سنة 1955، متوجهاً ثانية إلى بيروت، وكانت تشغله القضايا الكبرى عن نفسه، وقد أدى ذلك إلى اختلال في صحته، وتعرُّضه لأمراض خطيرة وتمكّن منه الداء، لكنَّ ذلك لم يمنعه من الحركة والعمل في سبيل الدعوة، حتى وفاته في إحدى مستشفيات أنقرة في 12 مارس 1959م (1387هـ)، عن عمر يناهز 59 سنة، وفي سنة 1980 دُشن مسجد بالعاصمة يحمل اسمه تخليدا له، وقد جمعت بعض مقالاته في كتاب بعنوان "الجزائر الثائرة"، وبعد سنوات نقلت رفاته في 1987 من تركيا ليعاد دفنها في مسقط رأسه بالجزائر. رحمه الله.

قال عنه الشيخ البشير الإبراهيمي "ممن أنبتتهم النهضة الجزائرية المباركة نباتا حسنا، فعمل بإخلاص في ميادين الجهاد في الجزائر، ثم نزل مصر، وجال في ربوع الشرق كلها جولات رفعت صوت الجزائر عاليا في تلك الربوع، وكونت منه زعيما جزائريا بحق وشخصية بارزة لها مقامها المعلوم بينهم". ويقول عنه الأستاذ محمود عبد الحليم في كتابه القيم (الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ): "كان شاباً جزائرياً من زعماء المجاهدين الذين طاردهم الاستعمار الفرنسي، فهرب إلى مصر واتصل بالإخوان المسلمين، وكان كثير التردد على مركزهم العام، كمركز الحركات التحريرية ضد الاستعمار في كل بلد إسلامي، كان لماح الذكاء سريع الحركة كثير المعارف، لا يقتصر تحركه على ما يخص موطنه الأصلي، بل كان يرى العالم الإسلامي وحدة لا تتجزأ، وأنه مطالب بتحرير كل جزء منه.. فهو علم من أعلام الإسلام المعاصرين، فقد أتاه الله علماً واسعاً وذكاء حاداً وبديهة حاضرة وثروة من التجارب وافرة، وأسلوبا في الحوار نادراً، وجرأة في الحق وقدرة على التصدي للباطل، وسلاسة في الحديث وفصاحة في الخطابة، وقوة في الإيمان ويقظة في الضمير.. ولست في هذا مبالغاً ولكنه بعض ما في الرجل، لأنه نموذج فريد للرجل المسلم القوي". رحمه الله.

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.