مَعَالِم الأدب الإسلامي في كتابات العلامة محمد البشير الإبراهيمي الأدبيّة والنّقديّة (دراسة وصفية تحليلية) 2/2
بقلم: د. رابح بن خوية-
ثانيا- قراءة في النّصوص المؤطّرة لرؤية الإبراهيميّ للأدب ووظيفته:
تتبدى في هذا المحور آثار التّصوّر الإسلاميّ في نظرات الإبراهيميّ وآرائه في الأدب ووظيفته، وفي الأديب وثقافته، وهو ما نتناوله بإجمال غير مخلّ.
1- وظيفة الأدب في نظر الإبراهيميّ:
إنّ العمل على وحدة الأمة غاية من أشرف غايات الإسلام، ومن أجلّ الأهداف الّتي يسعى إليها، وقد شرع الإبراهيميّ في الحديث عن وظيفة من أبرز وظائف الأدب قبل أن يومئ إلى ماهيته لخطورة الأدوار التي يقوم بها أو ما يجب أن يقوم به، ليس وحده بل اللّغة معه. فأسمى وظيفة للأدب تلك الّتي تجعل منه عامل وحدة لا تفرقة، ووصل لا فصل بين أبناء الأمّة وبين أجيالها، فهو على حدّ قول الإبراهيميّ: "الوشيجة القويّة والوثيقة الباقيّة التي لم تنقطع طوال القرون وعير الأزمان...، فهذه هي الأيام تطوي الدّول، وتقرّب البعيد، أو تبعد القريب، وتقطع هذا السبب أو ذاك من علاقات الأفراد أو روابط الجماعات، ويبقى اللّسان العربيّ والبيان العربيّ والشّعر العربي رسلا صادقين، وروابط قويّة بين أبناء العروبة كلّهم...، نعم، يبقى الأدب العربيّ رباطا يجمع العرب مهما اختلفوا أو تفرّقوا في ميادين أخرى بطارئ من طوارئ الهمّ، أو لون من ألوان الاختلاف في الهمم...".(1)
ومن هذه الزاوية، تتحقّق وحدة الأمّة بالنّسبة إلى الإبراهيميّ من خلال وحدة الأدب العربيّ، بصورة عمليّة، وتستمدّ العروبة شرعيّتها من واقع اللّغة والبيان والأدب، فليس ميدان هذه القضية السّلاح والحرب، وإنّما ميدانها العقل والفكر.(2)
حقا؛ إنّ الأدب بلغته وبيانه الرّباط الذي لم يتأثّر بفعل الزّمن ولا المكان ولا الأحداث الطّارئة على امتداد هذه الأزمنة والأمكنة، ويرى الإبراهيميّ أنّ الأدب ينهض بهذا الدّور الخطير حين: "يصوّر الخواطر، ويأسو الجراح، ويؤلّف بين الألسنة والقلوب حتّى تتصافح الأيدي، ويعود البناء كما كان أبيّا لا ينال، قويّا لا يلين. ولربّ خاطرةٍ لكاتب أو همسةٍ لشاعر، أحيت رمما، وبعثت دارسا، وردّت ذاهبا، وفجّرت الينابيع في صمّ الصّخور...".(3)
وفضلا عن كون الأدب خلاصة التّجارب الإنسانيّة والثّقافة البشريّة خلال الأجيال، فهو رباط لا ينفكّ بين النّاطقين بلغته والعارفين بلسانه.(4)
ويضيف الإبراهيمي إلى تلك الوظيفة وذلك الدّور وظيفة جليلة أخرى، ودورا بارزا آخر لا يقل أهميّة عن الدّور المتقدّم، إنّه دور يتداخل فيه السياسيّ بالاجتماعيّ، ويمتزج بهما العقديّ والأخلاقيّ، يقول الإبراهيمي: "لقد عرفتم في تراثنا العربيّ من جاهليّه التّليد، وإسلاميّه الوضّاء المشرق على عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) والخلفاء ومن بعدهم...، عرفتم في كلّ ذلك دور الأدب بألوانه في توجيه الدّولة، وبناء المجتمع، وتحديد الطّابع المميّز له، وتثبيت المُثُل الّتي يحتشد عليها أفراد المجتمع وفصائله...".(5) ويضطلع الأدب، مع ذلك، بمهمّة المحافظة على هويّة الأمّة وخصوصيّة المجتمع، وهو خير مرآة لانتماءاتها الثّقافيّة والفكريّة.
إنّ الأدب الّذي يتحدّث عنه الإبراهيميّ هو الأدب الإسلاميّ البنّاء الهادف الذي رسم طريقه وحدّد معالمه الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الرّاشدون وامن بعدهم.
وإضافة إلى أن الأدب يقوم بتصوير البيئة الاجتماعية في الفترات التّاريخيّة المختلفة؛ فإنه أداة بنائيّة لا غنى عنها، ووسيلة حيويّة ضروريّة في كيان المجتمعات.. منذ العصر الجاهليّ إلى الإسلاميّ إلى الأمويّ إلى العباسيّ..، ففي كلّ هذه العصور حمل الأدب صورة المجتمع والطّبيعة التي كان عليها من ضراوة وقوميّة ومدنيّة.(6)
وكان نتيجة لهذه المنزلة العظيمة للأدب في الدّولة والمجتمع الاهتمام الذي لقيه الأدباء في تلك المجتمعات والدّول المتعاقبة، يقول الإبراهيمي: "ولقد أدرك هذه الحقيقة السابقون من قومنا فحاطوا الأدب والأديب بالحمايّة والرّعاية، ومهدوا للأديب أن يخلص لفنه ويخلص فنّه له...، عرفنا ذلك في أيام دمشق عاصمة الأمويين، وبغداد عاصمة الرّشيد والمأمون، والقاهرة عاصمة المعزّ وصلاح الدّين، وفي المغرب على عهد حكوماته العربيّة الخالصة.. ورثنا نحن كلّ هذه المآثر التي شهد لها العالمون، ودان لعظمتها الأوائل والأواخر...".(7)
2- الأدب شخصيّته وقوته الذّاتيّة وإنسانيّته:
يؤكّد الإبراهيميّ على "أنّ الأدب العربيّ هو الرّباط الذي لم تفلح السياسات الإقليميّة المفرّقة في حلّ عروته، والذي يبقى على الدّهور يجمع العروبة ويوحّد آمالها وآمالها...، فإذا أفلح المستعمرون أو أذنابهم في تشكيكنا في أصالته وتحطيم خصائصه لم يعد لأدبنا هذه الذاتيّة القويّة العارمة، وهذه الخاصيّة الجامعة التي يرهبها أعداؤنا، ويعملون على سحقها. فيجب أن يظلّ أدبنا عربيّا في أصوله وقواعده، لا شرقيّا ولا غربيّا...، يجب أن يظلّ أدبنا عربيّا يستمد شخصيّته وأهدافه من حاجاتنا الواقعيّة لا المفتعلة ولا المزيّفة".(8)
أمّا الأديب فإنه لا يستحقّ وصفه ولا ينطبق عليه إلا إذا تجسّدت في شخصيّته شروط يلمح إليها الإبراهيمي بالقول: "والأديب إنّما يكون أديبا بحقّ حين يكون أمين القلم، صادق البيان، ينقل إحساسه إلى قارئه في عمق وصدق، فلغة الأدب وحدها هي التّرجمان الأمين لعواطف هذه الشّعوب، واللّسان المبين الذي يعرض خلجاتها، ويفصح عن آمالها وآلامها، والأديب لا يعرف الإقليميّة ولا الحدود؛ ما دام صادقا في التّعبير عن حاجات قارئيه، نابعا عن بيئتهم، تتمثّل فيه خصائصها الإنسانيّة، ولا تنكسر أمواجه عند خطوط الوهم الجغرافي، أو رسوم الحدّ السّياسيّ، إنه كالنّسيم يحمل العبير أينما سار، يصعد في ذروة الجبل، وينثال إلى عمق الغور، وينساب على صفحات الوادي...إنّه ينطلق أبدا، ويسعد النّاس بشذاه، ولا يبالون من أيّ روض نشر، ولا أي سبيل عبر، ما داموا يعرفون في عطره أشذاء روضهم، ويحسّون في تياره فوران إحساسهم، ويرون فيه أنفسهم جادّين أو هازلين، ضاحكين أو واجمين...".(9)
يجمل الإبراهيميّ فيما سبق سمات الأدب أو الأديب، والّتي تدور في فلك العالميّة والإنسانيّة والشّموليّة والانفتاح والحرّيّة، فمن صفات الأديب الأمانة في النّقل، والصّدق في التّعبير عن ذلك، والبعد عن التّزييف والتّخريف والنّفاق والمراوغة، والنّأي عن التّعصّب والتّحيز بأيّ شكل كان، والوعي وتمثُّل خصائص الإنسانيّة ونبذ الأوهام الجغرافيّة والسياسيّة...، والالتزام بآمال وآلام مجتمعه، وتطلّعات وطموحات أمّته.
3-حقوق الأديب المادّية والمعنويّة وضرورة التكفل بها:
يبدو الإبراهيميّ أبعد نظرا وأعمق فكرا، في هذا الموضوع، فقد طالب وسبق إلى الطّلب بإيفاء الأديب حقوقه، وتهيئة الظّروف المعنويّة والمادّية المناسبة له للإبداع والإنتاج، وعدم الاعتماد على مجرّد المواهب دون توفير الإمكانيات المادّية اللّازمة، والاعتناء به، وهذ إما يعلن عنه الإبراهيميّ بالقول: "وعندي أنّ المواهب والإمكانيّات عنصران لازمان للنّجاح، متلازمان في سبيل النّصر، ونحن العرب في نهضتنا الحاضرة لا بد لنا من أن نهيّئ للمواهب ما ترتفع بأزره من إمكانيات مادّية، وتحمي هذه القوى الدّافقة في كياننا من الخمود والنّضوب".(10) ويدعو في الآن ذاته إلى تجاوز الاعتقاد الشّائع بأنّ الفقر أوّل خصيصة من خصائص الأديب، والكفّ عن ترديد وترسيخ الجمل والمعاني الّتي تصبّ في هذا الباب (الفقر الملهم، والجوع العبقريّ، والبؤس الموحي...)، فليس منها فائدة ترجى ولا معنى.(11)
ويرى الإبراهيميّ أنّ "أوّل ما يجب أن نحمي منه الأديب والأدب هو تلك العواصف التي تطفئ جذوته، وتمسخ نوره ورونقه، وتمسّه بالعوز والكدية والصّعلكة، فلا بدّ أن نبذل للأديب من رحابة الحياة، ويسر العيش ما يجعله معتدل الحسّ، رضي النّفس، صادق التّعبير، غير ضجر بضيقه وعسره..".(12)
فهذا بعض ما يثير الإعجاب بشخصية الإبراهيمي، ومطالبته بحقوق للأديب تنشئه على الحرّيّة والكرامة والسّيادة، واستقلال الرّأي غير مكترث لأي سلطان معنويّ أو مادّيّ يمكن أن يؤثر في قراراته وتوجّهاته، فيزيّف الحقائق، ويذيع الأكاذيب، وينشر الأباطيل، ويشوّه سمعة الأدب والأدباء.
لقد اعترف الإبراهيميّ بحقوق للأدباء وأقرّها لهم، وأنهم لا يذكرون إلا في موتهم، وقد عاشوا منكورين مغيّبين في حياتهم، فيجب أن نتذكّر أنّ لهم أفضالا وأمجادا، وأنّ علينا حيالهم واجبات ثقالا.(13)
ويوضّح الإبراهيميّ أن تكريم الأديب ليس كما يتبادر إلى أذهان بعض النّاس بتخصيص الإقطاعيات، وإقامة التّكايا له، فهذا أسلوب بائر، وتكريمه في "تقدير الأثر الأدبيّ في حياته وتقويم الأدب تقويما عمليّا لا نظريّا، ولا عاطفيّا فقط، فلن يقتات الأديب عاطفة مهما سمت، ولا مدحا مهما اتّسع."(14)
4-الحرية الفكريّة أو حرّية الرّأي:
ينبغي أن تمنح للأديب حريّته الماديّة من خلال تقدير عمله وتثمين فنّه، وأن لا يحجر على حرّيته الفكريّة، فإذا كانت الأولى توفّر له الرّاحة والرّخاء ورحابة العيش، وتستهدف تفرّغه لعمله ولفنّه؛ "فإنّ الحرّية الفكريّة للأديب هي مداد قلمه الّذي بدونه لا ينتج ولا يثمر...، لا بدّ من حماية الأديب من كلّ ما يزيّف فنّه، ويدفعه إلى التّخفي وراء الرّمز والغموض...".(15) ومن مقتضيات الحرّية الفكريّة للأديب، كما يرى الإبراهيميّ، ضمان النّقد الموضوعيّ لعمله، فـ"من حماية حرّية الأديب أن نتّجه بالنّقد وجهة موضوعيّة فنّيّة، ونبعد به عن تلك المهاترات الّتي تتأذّى بها العيون والأسماع والقلوب والعقول، فالنّقد تابع للإبداع، وليس الإبداع عبدا للنقد."(16)
ومن مقتضيات الحرّية الّتي يتمتّع بها "أن تترك له الفرصة الملائمة ليجرّب ويجرّب، فالتّجربة إن أثمرت كانت فتحا جديدا، وإلّا فهي دربة وخبرة تصقل الموهبة، وتكشف حقائق الحياة".(17)
ومن مقتضياتها، كذلك، أن يبذل الجهد في حماية شخصيّة الأديب، ومن ثمّ حفظ خصوصيّة الأمّة التي ينتسب إليها، فمن حقّ الأديب، كما يعلن الإبراهيمي، "أن نحميه من تميّع الشّخصيّة، وتحلّل المقوّمات، فلكلّ أدب طابعه، ولكلّ أمّة نهجها ومشكلاتها الخاصّة وطبيعتها المعيّنة التي تملي حلولا معيّنة، فلا بدّ من الرّجوع إلى بيئتنا وماضينا وتراثنا ومقوّمات جنسيّتنا وقوميّتنا، قبل أن نحاول جديدا".(18)
وهنا نؤكّد على ضرورة إفادة الأدباء والقائمين على شؤونهم من الآراء والتّوجيهات التي قدّمها الإبراهيمي، والاستهداء بها في تعرّف الأدباء إلى الطّريق السّوي في الإبداع، فتأتي محاولات الإبداع والتّجريب بيئيّة واقعيّة تتطلّبها ضرورات الحياة، وتستدعيها كذلك ظروف لها أصالة في مجتمعنا، ووشائج بعروبتنا وماضينا.(19)
5-التّجريب في الأدب في نظر الإبراهيميّ:
وينبه الإبراهيمي إلى ضرورة إدراك مفهوم(التّجريب)في إطار الخصوصيّة العقديّة والثقافيّة للأمّة، ويحذّر أن يكون التّجريب تقليدا لأجل التّقليد وأن أن يكون التّجديد لأجل التّجديد، وبهذا الشّأن يقول: "أحبّ أن أحذّر هنا من التّقليد للتّقليد، ومن التّجديد للتّجديد، فليس كلّ واقع صالحا للبقاء، حتّى نقلّده ونتمسّك به، وليس كلّ جديد له هدف، أو يحقّق فائدة حتّى نسعى إليه ونتهافت عليه".(20)
وفي ضوء هذه الرّؤية تحدّد قيمة الاقتباس والاستعارة بمقدار الفائدة المنتظرة والمنفعة المرجوة منهما، فالفائدة أو المنفعة هي المعيار الواجب اعتماده في التّعامل مع التّقليد والتّجديد ومدى مطابقتهما لخصوصيّة المجتمع والأهداف التي يسعى إليها، ومدى مطابقتهما للوقائع والحقائق الثّابتة لا الأوهام والحقائق الزائفة.
إنّ الأدب أحد المجالات الخطيرة والمهمّة بما فيه من تجريب في الإبداع وإيجابيّة في التّقويم الّتي تتجلّى فيها المحافظة على الخصوصيّة الاجتماعيّة.
إن التّحلّي بـ(الإيجابيّة المبصرة) -كما ينعتها الإبراهيميّ- الّتي تعرف ما لها وما عليها، حقوقا وواجبات، تعتبر بالحقائق، وتنثني عن الأوهام، هي صمام النّجاة، ممّا يمكن أن يؤذي الأمّة من سموم الاستعمار الّذي يجد وسيلته في الأدب، ويلفي فيه أحسن منفذ له للتّسلل إلى مقاتل المجتمع، وقد نبّه الإبراهيمي إلى ذلك بالقول: "يحلو لي أن ألمح إلى هدف استعماريّ خفيّ، ما زال حتّى الآن ينهش في كياننا القوميّ الأدبيّ، وهو محاولة تمييع الشّخصيّة العربيّة في الأدب بحركات تتسمى بأسماء كثيرة ومدلولها كلّها واحد، وهدفها جميعا التّشكيك في مقومات الأدب العربيّ، ومحو خصائصه، وهدم بنيانه من القواعد".(21)
ولخطورة التّقليد في الأدب...؛ كان الإبراهيميّ يقول مخاطبا الجيل والأجيال الّتي فتنها الغرب بقوته: "إنّه إن أراد أن يبني العلم والبيان والقوّة على أسسها الصّحيحة فليتلمَّسها من معادنها في أسلافه، ولا يأخذها بالتّقليد للغرب والاستعارة من الغرب".(22)
6-التّأصيل والانفتاح على آداب الآخرين:
ولا يفهم من كلام الإبراهيميّ الآنف الذّكر أيّ دعوة إلى الانغلاق على الذّات، والاكتفاء بالتّراث العربيّ والإسلاميّ، وإنّما يبيّن الإبراهيمي أنّ أيّ انطلاقة حقيقيّة أو أيّ نهضة فاعلة ينبغي أن تتّخذ لها من التّراث العلميّ والثّقافي العربيّ والإسلاميّ الذي أنتجته الأمّة في مسيرتها التّاريخيّة الحضاريّة قاعدة ثابتة، أو إطارا واضحا، أو مرجعا راسخا لهذه الانطلاقة، ولهذه النهضة المتعدّدة الجوانب المتكاملة النّواحي، وليس بعد ذلك مانع من الانفتاح على تجارب الآخرين من الأفراد والجماعات والأمم والإفادة من خبراتها.
فالإسلام لا يرفض ذلك مطلقا، ولا تجافيه سنن الحياة، وفي التّاريخ الإسلاميّ شواهد كثيرة على ذلك، يقول الإبراهيمي وهو يتحدّث عن أثر الأزهر في النّهضة المصريّة: "لست أنكر تلقيح أدبنا بالآداب الرّاقية، ولا تطعيم حكمتنا بالحكم الحيّة، فلا الإسلام السّمح يأبى لنا ذلك، ولا الحياة الدّائبة تستغني عن ذلك، وقديما فعلنا ذلك، وحديثا تفعل الأمم ذلك، ولكن قبل الربح يجب المحافظة على رأس المال؛ ولست أنكر على الأزهر أن يجاري الأحياء في الحياة، وأن يزاحم عليها، بل أرى من الواجب عليه أن يزاوج بين علوم الدّين وبين علوم الدّنيا، وأن يهيئ أبناءه ليكونوا عقبان جوّ، وسباع دوّ، وأن يكونوا أحلاف حرب، وأحلاس محاريب، وأن يكونوا دعاة أجرياء إلى دينهم الحقّ وأدبهم الحيّ، وفضائلهم الرّوحية، وأن يعرفوا أنفسهم، ثمّ يتعارفوا، ثم يتعرّفوا".(23)
ويبدو أنّ لفظ (أدبنا)، في مفهوم الإبراهيميّ، بالإضافة الدّالة على الجماعة يراد به الأدب ذو الخصوصيّات الإسلاميّة والعربيّة، الأدب الفسيح الواسع الّذي لا تحدّه حدود، سواء أكان عربيّ اللّسان أو أعجميّه.
ويأتي انفتاح الأدب العربيّ الإسلاميّ على آداب الأمم والشّعوب الأخرى عامل تلقيح وتطعيم له، ونافذة تفتح له جسورا للتّواصل، وآفاقا للتّلاقي والانتفاع بتجارب الأمم الأخرى.
ويمكن لهذا الانفتاح الأدبي والمعرفيّ أن يمرّ بمراحل؛ فتكون معرفة النّفس أو الأنفس المرحلة الأولى، وهي مرحلة تتّسع فيها المعرفة إلى التّراث المحلّي والقوميّ والرّصيد الثّقافيّ المعرفيّ المتراكم الموروث عن السّلف، ومعرفة ما أنتجته الأمة في أقطارها المتنوّعة في هذا الميدان أو ذاك، وفي أجيالها المتعاقبة.
وتتبع هذه المرحلة مرحلة التّعارف بين الشعوب وأمم الأرض وبين الثّقافات والحضارات والمدنيّات. وتأتي بعد ذلك مرحلة (التعرُّف)، وهي قمة هذه المراحل حيث تحتلّ الأمّة الإسلاميّة مركز الصّدارة الإنسانيّة في السّبق المعرفي والبحث العلميّ والاكتشاف والاختراع والإبداع.
ولكل مرحلة ما يلزمها من زمن ومن أدوات ومن رؤى، ولا شكّ أن مفاهيم الإبراهيمي مستوحاة من القرآن، ومن سنّة النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ومن سنن الوجود.
7-حماية إنتاج الأديب:
لقد نادى الإبراهيميّ، منذ زمن مبكّر، إلى حماية حقوق الأديب وحماية إنتاجه من استغلال المستغلّين وسرقات المنتهبين.(24)
ومن حماية حقوق الأديب حمايته من الدّخلاء على فنّه الّذين يهبطون بالمستوى الرّفيع إلى حضيض الابتذال، و"ربما كان هذا هو السّبب في ضياع الأديب الحقّ الّذي يتمسّك بفنّه، بينما يتاجر غيره بالإسفاف، وينجح في ظلّ المعايير المختلفة والمقاييس المضطربة، وربما كان ذلك أيضا سببا من أسباب ضياع المكانة الاجتماعيّة للأدباء".(25)
لقد استحقّ الأدب والأديب هذا الاهتمام والتّنويه من الإبراهيميّ لما لهما من دور عظيم، وقد علّل ذلك في هذه الكلمة الجامعة، يقول: "يجب أن نعلم أنّ خلاصة الثقافة والفكر تتمثّل في الإنتاج الأدبيّ، فلنحم الأديب من نفسه بأن نطالبه بعمل فنّي يصوّر خلاصة ثقافته وتجاربه، ولنفسح له في حياتنا العامّة مكانا من أماكن الصّدارة أو التّقدّم فهو بهذا جدير، ولنعلم فوق هذا أن الأدب والأدباء عنوان العصر ومرآة الجيل، وعلى لهواتهم يتردّد تاريخ الأمم والشّعوب، ويظل وراءهم خالدا باقيا، فلنحرص على أن يكون لقب (الأديب) عنوانا على ذروة الكمال النّفسيّ والفنّي، ولنرتفع بهذا اللّقب عن أن يتسمّى به من لا يرتفع إلى مستواه...".(26)
خلاصة
وأخيرا، إنّ الإبراهيميّ استطاع أن يثير جملة من القضايا الأساسيّة المرتبطة بالأدب مستفيدا من معرفته بالأدب العربيّ ومن ممارسته له ومن ثقافته الإسلاميّة، مقرّرا ما للأدب من وظيفة في توحيد صفوف الأمّة، وما يتميّز به من وضوح أثر العقيدة فيه، ومن قوّة الأدب الذّاتيّة وإنسانيته، متناولا قضايا تتعلقّ بحرّية الأديب وبالتّجريب في الأدب والتّأصيل والانفتاح وحماية إنتاج الأدباء.
وإنّ متابعتنا للإبراهيميّ، انطلاقا من احتفاله وإعجابه بهذا الصّنف من الشّعراء؛ أي اهتمامه بأحمد شوقي ومحمّد العيد آل خليفة والأميري..، تكشف عن رؤيته للأدب الّذي لا يمكن بأي حال أن يجرّد من القيم والأخلاق، وعلى العكس من ذلك يجب أن يعنى بها، بصورة من الصّور، ولا خوف على الإبداع من القيم والأخلاق فبها يتألّق، فـ"الأدب إذا جرّد من القيم أصبح عبارات جوفاء لا تحمل مضمونا حقيقيّا".(27) ولا ينبغي أن ينخدع الأدباء بتلك الاتّجاهات (الغربيّة)، تحت مسمّى التّجريب أو التّجديد، تلك الاتّجاهات التي تنزع من الأدب كلّ قيمة وكلّ خلق وتنزل به إلى مستنقع الشّهوات وحضيض الإباحيّات بدعوى الفنّ للفنّ.
الهوامش:
1-الآثار، ج: 5، ص: 210.
2 -الآثار، ج: 5، ص: 211.
3 -الآثار، ج:5، ص:210.
4 -الآثار، ج:5، ص:211.
5-الآثار، ج:5، ص:211.
6-الآثار، ج:5، ص:212.
7 -الآثار، ج:5، ص:212.
8 -الآثار، ج:5، ص:213.
9 - الآثار، ج: 5، ص: 211.
10 - الآثار، ج: 5، ص: 211.
11 - الآثار، ج: 5، ص: 212.
12 - الآثار، ج:5، ص: 212.
13 - الآثار، ج:2، ص:212.
14 - الآثار، ج:2، ص:212.
15 - الآثار، ج:2، ص:212.
16 - الآثار، ج:5، ص:213.
17 - الآثار، ج: 5، ص:213.
18 - الآثار، ج: 5، ص:213.
19 - الآثار، ج: 5، ص:213.
20 - الآثار، ج: 5، ص:213.
21 -الآثار، ج: 5، ص: 213.
22 -الآثار، ج: 5، ص: 227.
23 - الآثار، ج: 5، ص: 502.
24 -الآثار، ج: 5، ص: 213.
25 -الآثار، ج: 5، ص: 213.
26 -الآثار، ج: 5، ص: 214.
27- سيد قطب: في التاريخ فكرة ومنهاج، ص11.