في ذكرى رحيل “فخر علماء الجزائر”
بقلم: مراد ملاح-
بحلول هذا اليوم تمر أربع وخمسون سنة كاملة على رحيل الشيخ البشير الابراهيمي رحمه الله في اقامته الجبرية، وهو الذي رفض الانحياز لأي طرف في أطراف الازمة التي تلت استقلال الجزائر، حتى مع الضغط الكبير الذي مارسه الرئيس المصري جمال عبد الناصر عبر ايفاد أحد أبرز معاونيه وأحد مؤسسي المخابرات المصرية فتحي الديب، كي ينحاز للرئيس السابق بن بلة، ليجيبه الشيخ حينها: "كلهم أبنائي وأنا ذاهب لأصلح بينهم".
رحل الشيخ البشير الابراهيمي وفي قلبه لوعة مما قاصاه من القائمين على الشأن الجزائري حينها، وفي بيانه الذي أصدره سنة قبل وفاته وبالضبط في ذكرى وفاة رفيق دربه الشيخ عبد الحميد بن باديس الرابعة والعشرين الموافقة لـ16 ابريل من كل سنة ،حيث نبه الشيخ البشير وقتها من حرب طاحنة تترصد بالبلد بقوله رحمه الله :” إن وطننا يتدحرج نحو حرب أهلية طاحنة ويتخبط في أزمة روحية لا نظير لها ويواجه مشاكل اقتصادية عسيرة الحل “، ولأن اليوم شبيه البارحة يواصل الشيخ البشير محللا الوضع بقوله في ذات البيان : ولكنّ المسؤولين فيما يبدو لا يدركون أن شعبنا يطمح قبل كل شيء الى الوحدة والسلام والرفاهية وأن الأسس النظرية التي يقيمون عليها أعمالهم يجب أن تبعث من صميم جذورنا العربية والاسلامية لا من مذاهب أجنبيّة”.
رحل الشيخ البشير وقد نصح ونبه على ضرورة استكمال مسار الاستقلال الكامل، حتى عندما تبجح الرئيس السابق بن بلة لدى زيارته الشيخ في منفاه، بتحقيق الاستقلال، معاتبا إياه على عدم تزكيته لاختيار الاشتراكية والتيار الناصري الَذيْن أرساهما وجسًدهما بن بلة ومن معه، ليرد الشيخ البشير بالقول: “سيدي الرئيس،،،،،،،، لا يتحرر من عقله عبد”.
قبل خمس وخمسين سنة خلت يقول الشيخ البشير في نفس البيان الذي أملاه على ابنه الدكتور أحمد طالب: “لقد آن للمسؤولين أن يضربوا المثل في النزاهة وألاّ يقيموا وزنا إلاّ للتضحية والكفاءة وأن تكون المصلحة العامة هي أساس الاعتبار عندهم , وقد آن أن يرجع الى كلمة الأخوة التي ابتذلت –معناها الحق – وأن نعود الى الشورى التي حرص عليها النبيّ صلىّ الله عليه وسلم , وقد آن أن يحتشد أبناء الجزائر كي يشيّدوا جميعا مدينة تسودها العدالة والحرية , مدينة تقوم على تقوى من الله ورضوان” وهنا يجدر التنبيه أن نجله الدكتور أحمد أكثر من يعي هذه المقاربة وقد خط البيان (أملاه عليه الشيخ البشير) ،وهو الذي يتواجد اليوم في قلب مطالب شعبية تتوق لإشرافه على فترة انتقالية تؤسس لدولة الحريات ،ولا يمكن أبدا ان تنال من رصيده ووطنية عديد المواقف التي تلت بيانه بخصوص الحراك ،داعيا الى حوار مباشر بين مؤسسة الجيش والشعب الجزائري للخروج من براثن أزمة تلم بالبلد بعد سنوات عجاف أساءت للجزائر وتاريخها وشعبها ورموزها وسمعتها بين الأوطان .
ترك الشيخ الداهية او النابغة كما كان يسميه الشيخ عبد الحميد بن باديس العشرات من المؤلفات منها و”الاطراد والشذوذ في العربية “،” شُعب الإيمان”، “أسرار الضمائر العربية” و”كاهنة الأوراس” و”حكمة مشروعية الزكاة في الإسلام”، “الأخلاق والفضائل”، وغيرها، وقد جمعت مقالاته بمجلة البصائر في كتاب “عيون البصائر” بمقدمته الخالدة: “اللهم باسمك نبتدي وبهديك نهتدي وبك يا معين نسترشد ونستعين، ونسألك ان تكحل بنور الحق بصائرنا وأن تجعل الى رضاك مصائرنا”
وممن أبدعوا في وصف الشيخ البشير الابراهيمي الأستاذ محمد أبو حبيب بقوله: “كان الإمام الإبراهيمي صاحب بيان ساحر، وديباجة مشرقة أنيقة، ومعرفة بلسان العرب وملاحمهم، وتاريخهم وأمجادهم، يحفظ أشعارهم، ويميز غريب اللغة ووحشيها، ويقف على آراء المتقدمين غير هياب أن يقول كلمته، ويصدع برأيه، ويسفه بعض مصنوعاتهم كشأن الراسخين، ويرجح بين منقولاتهم رواية ودراية، بصيرا بصرا تاما بالمنظوم والمنثور”
للشيخ البشير ملحمة “ملحمة شعرية” في تاريخ الإسلام، تضم نحو 36 ألف بيت.
رحل الشيخ البشير الابراهيمي في مثل هذا اليوم، وقد خلف ميراثا يكتب بماء الذهب، ولعل من أنفس ما خلف خواطره عن الشباب الجزائري ورائعته المشهورة: “أتمثله متساميا إلى معالي الحياة، عربيد الشباب في طلبها، طاغيا عن القيود العائقة دونها، جامحا عن الأعًنة الكابحة في ميدانها، متّـقد العزمات، تكاد تحتدم جوانبه من ذكاء القلب، وشهامة الفؤاد، ونشاط الجوارح.
أتمثله مقداما على العظائم في غير تهوّر ، محجاما عن الصغائر في غير جبن مقدّرا موضع الرِّجل قبل الخطو، جاعلا أوّل الفكر آخر العمل” .
لقد هام الشيخ البشير بحب الجزائر وقد أسره الحنين اليها أيام غربته، وهو ما عبر عنه ذات زمان: «خَطَّتْ الأقدارُ في صحيفتي أن أفتح عَيْنَيَّ عليك وأنت مُوثـَقة، فهل خَطَّت الأقدار أن أُغْمِضَ عيني فيك وأنتِ مُطْلقة. وكتبت الأقدارُ علىَّ أن لا أملك من تربتك شبرا، فهل تكتبُ لي أن أحوز في ثراك قبرا؟»
هكذا كان رحمه الله زاهدا في الحياة، صاحب همة وبصيرة، وهو الذي لم يحز حتى بيت يقيه حرارة الصيف وبيت الشتاء، وكان رحم الله قد طلب من الرئاسة حينها أخذ بيته بالقاهرة لفائدة البعثة الديبلوماسية الجزائرية، وإعطائه بديلا بالجزائر، وقد اضطر ابنه الدكتور احمد الطبيب آنذاك بمستشفى مصطفى باشا الجامعي لتأجير بيت له إثر عدم استجابة المسؤولين لمطلب الشيخ رحمه الله.
نستذكر رحيل الشيخ البشير الابراهيمي وبلادنا تعيش وضعا استثنائيا يتوق فيه شعب الجزائر للانعتاق والحرية ودولة المؤسسات، نستذكر رحيل الشيخ البشير ونتوقف أيضا عند رصيده الذي خلفه، فعليه من الله شآبيب الرحمة وحفظ الله وطننا وألهمنا سبل الرشاد.