مَعَالِم الأدب الإسلامي في كتابات العلامة محمد البشير الإبراهيمي الأدبيّة والنّقديّة (دراسة وصفية تحليلية) 1/2
بقلم: د. رابح بن خوية-
إلى وقت قَريب، عرَف القُرّاء في العالم العربيّ والإسلاميّ الإمام محمد البشير الإبراهيمي (1889-1965) رحمه الله، العالم العامل المصلح المربي الدّاعية.. أبرز رجالات جمعيّة العلماء.. والرّجل الوطنيّ... وما إلى ذلك من الأوصاف والنّعوت التي تحدّد جوانب مهمّة تجسّدت في الشّخصيّة العبقريّة للإبراهيمي المُدْهِشَةِ المُعْجِبة، ومن خلالها نظروا إليه، وجدّوا في دراسة أعماله وبحث آثاره.
ومع تلك العناية المؤكّدة به، فقد قلّ ونَدر في أحاديث القرّاء كما في كتاباتهم أن يتعاملوا مع الإبراهيميّ ناقدًا وأديبًا ولغويًّا، وبعبارة أوضح: أن يتأمّلوا في آثاره بوصفه صاحب نظرات نافذة وممارسات قيّمة في الأدب شعره ونثره وتاريخه وفي النّقد، تقييمًا وتقويمًا، وفي اللّغة تحقيقًا وتأصيلًا.
والحقيقة أنّ ذلك التّأمّل العلميّ المأمول في آثار الإبراهيميّ الأدبيّة يستغرق وقتًا كافيًا ويستأهل جهدًا وافيًا جديرين بعبقرية موسوعيّة كعبقريّة الإبراهيميّ كِفَاءَ مَا بَذَلَ في سبيل وطنه وأعطى في سبيل أمّته، وذلك ما لا تَسْتَطِيعُهُ كتابة في ورقات معدودة تقدّم لمؤتمر، حصّة المحاضر فيه من الزّمن محدودة أو فصل مُوَجَز يُدْرَجُ فِي كِتَابٍ.
وهذا لا يَحُولُ دون تَنَاوُلٍ علميّ لإنجازاته النّقدية وملاحظة لأهمّ معالم نقده الأدبيّ من المنظور الإسلاميّ.
فمن المؤكّد أنّ المجال الأدبيّ النّقديّ هو، كذلك، إحدى المجالات المهمّة التي لم يغفل عنها الإبراهيمي بحكم تكوينه الثّقافي والعلميّ وبحكم اهتماماته الدّعويّة، فقد ترك بصمات متميّزة قيمّة -قلّت أم كثرت فذلك شأن آخر-، وقد نلمس تلك الإسهامات فيما أشار إليه الباحث عبد الملك بومنجل حين تحدّث عن المجالات التي اقتحم غمارها الإبراهيميّ، ومنها المجال الأدبيّ النّقديّ، يقول: "يتميّز الإبراهيمي بأنّه الأديب الرساليّ الموغل في الالتزام بقضايا أمته. ولعلّ هذا السّبب الرّئيسي الّذي جعله لا يهتمّ بقضايا الأدب والنّقد، إذ لم نجد في آثاره من الكتابات الأدبيّة إلا خمسا، سجّل فيها آراءه وملاحظاته حول شاعرين إسلاميين معاصرين له، حبيبين إلى قلبه، وهما شاعر الشّمال الإفريقي محمد العيد آل خليفة كما يلقّبه هو، والشّاعر السّوري الوزير عمر بهاء الدّين الأميري."(1)
والواقع أن آراء الإبراهيميّ في الأدب والنّقد تتجاوز الموضعين اللّذين أشار إليهما الباحث كما سنرى ذلك لاحقا.
ودون أن تغيب عنّا حقيقةُ أنّ الإبراهيميّ لم يكن" أديبا متفرغا لشؤون الأدب، متخصّصا في الكتابة والتأليف كما هو الحال عند أغلب أدباء العصر الحديث، إنّما كان عالما مصلحا، وداعية مجاهدا، يستخدم الأدب وسيلة لتبليغ دعوته، والوصول إلى مقصده، وأحيانا يستخدم براعته اللّغويّة أداة للتّعبير الجميل دون أدنى تكلّف أو إجهاد."(2)
لم يقتصر اهتمام الإبراهيميّ، من حيث تكوينه، على مجال دون غيره من المجالات العلميّة والفكريّة والثقافية والاجتماعيّة والسياسية والتّربوية، فقد سعى أن يلمّ بكل ثقافة عصره، وأن يحيط علما بالتيارات الدّائرة فيه، ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وأن يكرّس كل ذلك في خدمة وطنه وعقيدته.. في خدمة الجزائر الوطن المستلب المغتصب والإسلام الدّين المستهدف المحارب.
ولعلّ المسؤوليّة الجليلة التي ألقيت على عاتقه والمهمّة العظيمة التي أنيطت به إثر وفاة رفيق دربه الشيخ عبد الحميد بن باديس -رحمه الله-، والمنعرج التاريخي الحاسم الذي وجد فيه.. لعلّ كلّ ذلك كان حافزا دافعا له وملهما على التّكوين الموسوعيّ والإلمام بثقافة العصر المستجدّة على قدر إلمامه بثقافة التّراث المتجدّدة، ممّا أتاح له فرصة بناء رصيد معرفيّ واسع شاسع، وهو ما يتجلّى في آثاره المختلفات، وفي أقوال من عرفه وليقه المتنوعات.
وقد عرضت في ورقة البحث لإسهامات الإبراهيميّ على الصّعيد الأدبي والنّقديّ ولآرائه وتصوّراته فيهما، موضّحا معالم قراءاته النّقدية، ومبيّنا ملامح نظراته الأدبيّة، كما هي متجلّية في ممارساته وإنجازاتها لمختلفة. وإذ أتناول ذلك فقد حرصت على تجلية أثر التّصوّر الإسلاميّ الأصيل في كتابات الإبراهيميّ الأدبيّة. فهذا التّصوّر هو -في نظري- المدخل الطبيعيّ الملائم لمقاربة كتابات الإبراهيميّ الأدبيّة والنقديّة.
ومن المعلوم الّذي لا يقبل الشّكّ أن الإبراهيميّ كان عالما ربّانيّا حيي بدينه ولدينه، في كلّ صغيرة وكبيرة، في كل حقيرة وجليلة، عميق الإيمان بأنّ الإسلام قانون شامل لأنواع التّدابير المحيطة بمصالح البشر من حرب وسلم، وخوف وأمن، وسياسة وإدارة، وقضاء في الأموال والدّماء والجنايات، وفي بناء الأسرة(3)، وراسخ اليقين بأنّ "أصلح نظام لقيادة العالم الإنساني هو الإسلام"(4)، وأنّ دواء العالم ممّا هو فيه هو الإسلام. ومقتنعا أنّه دين وسياسة.(5)
وفي ضوء ما سبق، وللسّبب الذي تقدّم، فسأقف في هذه القراءة على المحورين المذكورين الآتيين:
أولاً: قراءات الإبراهيميّ النّقديّة في الشّعر والشّعراء، موضّحا آراءه واتّجاهه في القراءة، ومستجليا أثر التّصوّر الإسلامي في تلك القراءة، ومبيّنا سعة ثقافة وعمق معرفة الإبراهيميّ الأدبيّة النّقديّة من خلال قراءاته هو، وهي القراءات التي تناولت شعراء كالشّاعر المصري أحمد شوقي (1868-1932م)، والشّاعر السّوري عمر بهاء الدين الأميري (1916-1992م)، والشّاعر الجزائري محمد العيد آل خليفة(1904-1979م).
ثانياً: النّصوص المؤطّرة لرؤية الإبراهيميّ للأدب ووظيفته موضحا آراءه ومستبينا أثر التصوّر الإسلامي في نظراته الأدبيّة.
أولاً: قراءات الإبراهيمي النّقدية في الشّعر والشّعراء:
ويتجسّد الوعي النقديّ لدى الإبراهيمي عبر النماذج المقترحة:
1-قراءته للشّاعر المصري أحمد شوقي (أمير الشعراء):
وأول ما يتصدّر به هذا المحور هو قراءته لشعر الشّاعر المصري أحمد شوقي، وقد خصّه الإبراهيمي بنصيب وافر من الاهتمام مقارنةً مع غيره، وذلك للمنزلة الأدبيّة الّتي أحرزها شوقي بشعره في العالم العربي، شاعراً إحيائيّاً، وقد تربّع على عرش إمارة الشّعر، ومنح لقب أمير الشّعراء سنة 1927م.
ولاهتمام الإبراهيميّ بشوقي مبرّراتُه الفنّية والموضوعيّة، وقد أشار إليها، كوفرة (الإسلاميّة) في شعر شوقي، وبراعته في التّعبير الفنّي الجماليّ، والتّصوير الشّعريّ.
ومعنى ذلك لأصالة شعر شوقي وسيرورته ضمن الأساليب الفنّية المتعارف عليها في التّراث الشّعريّ العربيّ، ولصدوره عن رؤية إسلاميّة ملتزمة لا تخطئها القراءة المتأنّية في سائر شعره وشعره المجدّد.
وستكون متابعتنا لقراءة الإبراهيميّ وفق معايير مستخلصة من القراءة ذاتها، وهي:
1-1-معيار ضرورة تزاوج الفكر والفنّ في الأدب:
وفي البدء يمكن القول: إنّ الإبراهيمي في قراءته لشوقي كان متأثّرا بنزعة المحافظة، وآراؤه وأحكامه النّقديّة، بهذا الصّدد، ذات علاقة بالمعرفة الأدبيّة المرتبطة بالثّقافة السّلفيّة (التّراثية) الّتي كرستها (مدرسة الإحياء) إبّان النّهضة الأدبيّة من تقاليد شعريّة وأرسته من قواعد فنّية.
فالإبراهيميّ ينطلق من أنّ تكوين كلّ من النّاقد والأديب (الشّاعر) يتّكئ إلى ثقافة ينبغي أن تبنى على أساس الحفظ المدرك للنّماذج الجيّدة من النّصوص الشّعر، في مرحلة أولى، ويشكّل هذا الحفظ المدرك أسلوبا من أساليب التّعليم، ومنهجا من مناهج التّأهيل، وطريقا من طرائق التّربيّة الذّوقيّة (الفنّيّة) واللّغويّة لكلّ من النّاقد والأديب (الشّاعر) على مرتبة سواء.
إن هذه الملاحظة تعدّ إطارا لمبادئ ومعايير العمليّة النّقديّة الّتي هي أساس مُنطلق الإبراهيمي في التّقويم النّقدي للعمل الأدبيّ، وهو ما يتبنّاه أداة في دراسته لشعر شوقي وغير شوقي.
وذلك الإطار النّظريّ والإجرائيّ لمجموعة المبادئ القرائيّة التي يؤسّس عليها الإبراهيميّ دعائم ممارساته النّقديّة يرتكز بدوره على أساسين مهمّين واضحين:
أ- يُعْنَى الأساسُ الأوّل بالمحتوى أو المضمون الّذي يقدّمه الأدب –والشّعر بخاصة في هذا السّياق- والمراد بذلك أنّ الموضوع في النّصّ الأدبي يمكن أن يقدّم من وجهات نظَر مختلفة ومناظير متباينة، فالمرأة يمكن أن تكون موضوعا لنص أدبيّ، وطريقة تقديم المرأة موضوعاً، ومعالجته فكريّا، وتحميله الدّلالات والمعاني.. كلّ ذلك مضمون، وهو يختلف من أديب إلى آخر، وبحسب الانتماءات الفكريّة.
وبناء عليه يمثّل التّصوّر الإسلاميّ وجهة من تلك الوجهات، ومنظورا من تلك المناظير، وهو ما اعتمده الإبراهيميّ في قراءة شعر شوقي.
إنّ النّقد، تقويما وتقديرا، لا يهمل في نظر الإبراهيميّ الجانب المضمونيّ من حيث تحقيقه لتصوّر الأديب (المسلم) القائم على عقيدته والملتزم بها.
ولا شك أنّ نظرة الإبراهيميّ تعكس أثرا من آثار التّصوّر الإسلاميّ العامّ في فكره ووعيه وفهمه لماهية الأدب، وتمثّله لحقيقته وطبيعته، بوصفها محصّلة للمضمون والشّكل، أو للفكر والفنّ.
ب- يُعنى الأساسُ الثّاني بالتّعبير أو الشّكل الأدبيّ، فالمضمون (الموضوع) وحده لا يصنع عملا أدبيّا، ولا ينتج نصّا أدبيّا، بالمقاييس الفنّية، ما لم يعرض في شكل تعبيريّ فنّي يرتقي إلى مستوى الجنس الأدبيّ والنوع الفنّي المختار قالباً للتّعبير مستجيبا لعناصره لغة وأسلوبا وصورا وبناء ومحتكما لمقوماته المؤثّثة له.
وهي الحقيقة الّتي كانت قائمة في وعي الإبراهيميّ، فلم يتناس الدّور الخطير الذي تنهض به لغةُ الشّعر العربيّ القديم، والشّعر العربيّ الحديث، والإحيائيّ منه تحديدا، فهو عودة إلى القديم في أبهى صوره وامتداد له
إنّ ذلك ما يستنبط من دراسة الإبراهيمي للشّعر وتوجيهه للشّعراء.
ونخلص إلى أنّ الإبراهيميّ كان يتبنّى مفهوما للأدب، هو المفهوم الذي يتعارف عليه النّقاد، اليوم، بـ(الأدب الإسلاميّ)؛ أي الأدب بوصفه :"التّعبير الفنّي الهادف عن الإنسان والحياة والكون وفق الكتاب والسنّة."(6)، أو بعبارة أوضح "التّعبير النّاشئ عن امتلاء النّفس بالمشاعر الإسلامية."(7).
والواقع أنّ للإسلام تصوّره الخاصّ، ومن الطّبيعي أن يتّخذ التّعبير عن الحياة لدى الأديب المسلم لونا خاصّا(8) يفترق، بحكم ذلك، عن أن يكون نسْخا واتّباعا وتقليدا لنماذج آداب الأمم الأخرى، أو صورة طبق الأصل لها.
ومن هنا، من هذا الوعيّ النقديّ يخصّ الإبراهيمي شعر أحمد شوقي بالتّقدير الكبير والإعجاب العظيم الّذي قد يقترب من الغلو في الحكم، أحيانا، فيقول في مقالته (الدّين في شعر أحمد شوقي)(9): "إنّ لشوقي علي لحقّا أوجبته على نفسي حين غاليت بقيمته في شعراء العربيّة غابرهم وحاضرهم."(10)
ففي هذه المقالة يقدّم الإبراهيميّ نظرة ثاقبة بعيدة الأثر تتّسم بالعمق والشّمول والتّسامح والإنصاف والأخلاقيّة والإنسانيّة، فيوافق شوقي فيما يُعرِب عنه، شعرا، من آراء، كرأيه في (الدّين)، فالدّين في شعر شوقي أعمّ من (الإسلام)، فيوافقه في ذلك ولا ينكره عليه، يقول: "فشوقي تغنَّى بكل دين استحدث خلقا، أو ثبَّت فضيلة إنسانيّة، أو زرع محبّة بين الناس، أو أنشأ حضارة، أو زاد فيها، أو ولّد فنا، أو كان إرهاصا بدين أكمل..."(11). وفي هذا السّياق لا يخفى ما يوليه الإبراهيمي للشّعر الذي يحفل بالقيم، ويشيد بالأخلاق، وينوّه بالفضائل من أهميّة.
1-2- معيار (التّعاطف) تجاه (الأديب):
ومن ناحية، يؤكّد الإبراهيمي في مقالته السّابقة على معيار، كثيرا ما أشار إليه نقاد العصر الحديث في التعامل مع الأدباء وأعمالهم، وهو (التّعاطف). وهو معيار يمكّن من ملاحظة العمل باعتدال وحياديّة، والاقتراب منه دون أحكام مسبقة، فينبغي على النّاقد والقارئ أن يضع في حسابه وبين أدواته هذا المعيار في تعامله مع الأديب، وتناوله لنصوصه.
ولماذا التّعاطف مع الأديب ومع النّص..؟ لأنّ كلّا من النّاقد والأديب إنسان.. وعمل النّاقد يكمن في تقويم تجربة إنسانيّة، وليس بصدد محاكمة -بما يوحي به لفظ (المحاكمة) من معان قاتمة-، يقول الإبراهيمي في جملة تفيض تعاطفا وتسامحا مع الأديب الشّاعر، ومقدّرا لما تجيش به روحه من عاطفة ويجود به لسانه من بيان: "ونفس شوقي ينبوع متدفّق بالرّحمة والحنان قبل أن تكون ينبوعا متدفّقا بهذه الرّوائع من الحكمة والبيان.(12)
إنّ (التّعاطف) معيار من الأهميّة بمكان، يوطّد العلاقة بين القارئ والمقروء له، ويسمح برؤية النّص أو العمل بكلّ وضوح وبلا حجاب أيّا كان.
1-3-معيار (الثّقافة): ثقافة النّاقد والأديب:
يذهل الإبراهيميّ متلقيه بسعة مقروئه الأدبيّ الشّعريّ العربيّ القديم، وهو بذلك نموذج لما يحسن أن يتّصف به النّاقد والأديب من تخصصّ نوعيّ وتبحّر عميق، ذاك في علمه، وهذا في فنّه.
وذلك ما مكّن الإبراهيمي من معرفة مصادر شوقي ومراجعه الشّعريّة، فيضع يده على ما في شعر شوقي من تجليات للشّعر القديم ومن تمظهراته، بشكل أو بآخر. فهو يدرك هذه الظاهرة الأدبيّة التي عرفها النّقد المعاصر بـ(التّناص)، وعرفها النّقد القديم بأسماء أخر، بعيدا عن اصطلاح (السّرقة الأدبيّة).
فيقول الإبراهيميّ واصفا الظّاهرة الملحوظة بعبارة متأدبة: "وشوقي يلمس في مناحيه الفكرية آراء ومنازع صوفية للقدماء، ويكسوها حللا شعرية تذهل بروعتها عن تعرف حقيقة رأيه، ويغطي الافتتان بالصور الشعرية على التفكير في أصل الرأيين فضلا عن الفروق والجوامع بينهما، ولشعر شوقي في بعض المواقف إشراق كإشراق البرق، يبهر فيخفى فيه ما يكاد يظهر."(13)
ورضى الإبراهيميّ بصناعة شوقي هاته ظاهر، فيشيد بشعرية (شعره) ويعجب ببراعته وروعته في استدعاء النّصوص الغائبة والوامضة وحسن توظيفها، حيث لا ينتبه إلى أصولها ولا يعرف مصادرها إلا قارئ خبير متمرّس ضليع في فنه، وفي عمله.
فمن دون ثقافة أدبية ومعرفة نقديّة قد يساء فهم النّصوص، بل قد تؤوّل على غير دلالاتها، وعلى غير توجيهات سياقاتها، ولا يتيسّر تقويمها بما تستحقه من تقويم.
1-4- معيار (التّسامح) تجاه (المخالف):
ويستبين ذلك من خلال موافقة الإبراهيميّ للشّاعر شوقي في دعوته أهل الأديان إلى (التّسامح)، ويشدّد النّكير على من يتّخذ الأديان أداة تنازع واختلاف، فالأديان كلّها لله، وإن لم تكن كلّها من الله، وما دامت كلّها لله، فهي رحم جامعة، ومن البّر بهذه الرّحم والرّعاية لهذا النّسب أن لا نتعادى فيها.(14)
ومثال الأديان مثال لكلّ الأفكار المخالفة، ولوجهات النّظر المتباينة التي تتّسع لها الصّدور، وتشسع لها العقول، وينبذ مع التعصّب والتطرّف ليحلّ محلّهما التّسامح والعفو والتّراحم.
1-5-معيار الالتزام تجاه العقيدة والأمّة:
وقد أرجع الإبراهيمي دعوة التّسامح عند شوقي إلى ولائه للدّعوة العثمانيّة، والتزامه بها، وهو مظهر من مظاهر الالتزام بالأمّة، بهذه الصّورة، يقول: "لإغراق شوقي في الدّعوة إلى التّسامح سبب آخر، وهو أن الدّعوة العثمانيّة التي هي ليلاه ومناط هواه، ومعقد رجائه في إعزاز الإسلام كانت راعية للأديان الثّلاثة، وتحت لوائها طوائف من اليهود والمسيحيين، فكان يخشى أن تتّخذ منهم أوروبا ذريعة للتّشويش على هذه الدّولة الإسلاميّة".(15)
ومن مظاهر التزام شوقي بعقيدته، تمجيد الإسلام وإقراره بتفوقه وجدارته، ويؤكّد الإبراهيميّ ذلك بالقول: "أما تمجيد الإسلام فلا نعرف شاعرا عربيا بعد شرف الدين البوصيري دافع عن حقيقة الإسلام كما دافع شوقي، وإذا كان البوصيري نظم لامية الإسلام بعد لاميتي العرب والعجم، وقال في دين محمد وكتابه:
الله أكبر إن دين محمد ... وكتابه أقوى وأقوم قيلا
ثم ضرب له ذلك المثال الشرود في قوله:
لا تذكر الكتب السوالف عنده ... طلع الصباح فأطفئ القنديلا
فإن شوقي أتى في مدائحه وسائر شعره بالأعاجيب، وضرب العشرات من الأمثال الشوارد، وأعانه على ذلك معارف عصره، وعجائب العلم في عصره، وامتداد التاريخ بخيره وشره فيما بين عصر البوصيري وعصره، وتداعي الأمم على المسلمين تداعي الأكلة على القصاع، فكل ذلك أرهف إحساس شوقي، وهاج شاعريته وأثار أشجانه، فهب يدافع عن الإسلام، ويجهز من شعره الكتائب لا الكتب.".(16)
ونلمح وراء كلمات الإبراهيمي الإعجاب بالتزام الشاعر تجاه عقيدته أولاً، وتجاه أمته ثانياً، بكل مكوناته القومية.
وهكذا يجمع الإبراهيمي في تقدير شوقي وشعره بين الفنّ والفكر، بين الشكل والمحتوى، ويؤكّد على الالتزام بالعقيدة وبالأمة وقضاياها المتشعبة. فيؤكّد أنّ "شعر شوقي في الأفق الذي تستقرّ فيه الحكمة مجاورة للبيان، والذي يشارف السّدرة التي لا مطمع إليها لأحد، ولا يحلّق إليها ولو بجناح لبد، فلا يستفيد منه إلا الذي يقرؤه بالتدّبر والاهتمام وتصفية الذّهن، وعند ذلك يعلم أيّة براعة أوتيها هذا الرّجل، وأية قسمة من إشراق الذّهن وجبروت العقل رزقها في الحملة التي أعدّه الله لقيادتها في نصرة هذا الدّين. وفي أثناء ذلك تجد الغرائب من عرض سماحة الإسلام وخصائصه، وجمعه بين القوّة والرحمة، وبنائه على العدل والإحسان، وتجاربه الناجحة في هداية البشر، وفي بناء الحضارة، وفي إمامة العلم، وفي قيادة العقل، ثم يدس في تضاعيف ذلك دعواته عامة إلى التّسامح تجري في النّفوس جريان الماء، لأنه يعلم أنّ قومه مغلوبون على أمرهم لا يقدرون على الانتصاف لأنفسهم، فهو يقرعهم على ذلك، ويدعوهم إلى الاتّحاد، ونفض غبار القرون، والأخذ بأسباب القوة، وإن لهم في كل مكرمة غماماً، وما عليهم إلا أن يتحدوا، ولا تكاد تخلو قصيدة من قصائده من هذه الفنون، يخرج إليها من عمود القصيدة ولو كانت في الرثاء أو في الأغراض البعيدة، حتى قال بعض ناقديه: إن شعره خال من وحدة القصيدة".(17)
ويتّضح في آخر النصّ المقتبس إلمام الإبراهيمي بالمقاييس النّقديّة المعاصرة والمفاهيم الشّعرية الحديثة كوحدة القصيدة وتعدّد الأغراض. وهو ينوّه باهتمام شوقي في شعره، مهما تكن أغراضه، بموضوعات مرتبطة بقضايا الإسلام والمسلمين حتى وإن خرج عن موضوع قصيدته وعن غرضه فيها من رثاء وغيره، وذلك ممّا يحسب لشوقي.
1 -6-معيار (النّص/الأدب) بدلا عن النّاص (الأديب):
يشير الإبراهيميّ إلى مبدأ مهمّ من مبادئ النّقد المعاصر، وقاعدة في النّقد الأدبيّ وقراءة نصوصه، وهو معيار (النّصّ) لا (النّاص)، حيث (النّصّ) يكون منطلقاً ومنتهى القراءة، وترد تلك الإشارة ذات الأهميّة الكبيرة في سياق حديثه عمّا يسمّى (إسلاميّة نصّ شوقي) التي تتجلّى في استحضار الموضوعات والمضامين الإسلامّية، واستدعاء الشّخصيات الإسلاميّة التّاريخيّة وفضاءاتها المكانيّة والزّمنية.
فيرى الإبراهيميّ أنّه ليس من واجب النّاقد النّظر في شخص الأديب (النّاص) لتقويم نصه، كما يبدو في دراسته لشعر شوقي، وإنّما التعويل على الأدب (النّص)، فهو المرتكز، يقول: "والتديّن أثر الدّين في النّفس، أو ممارسة شعائره بالجوارح، وليس من موضوعنا المحدّد البحث عن تديّن شوقي بمعنى إقامته لرسوم الدّين وشعائره، لأنّنا في شغل شاغل عن ذلك بهذا الفيض المدرار الذي يفيض به شعر شوقي في التغالي بالإسلام وتاريخه وأمجاده، وبهذا الإيمان القويّ بالله وقضائه، وبهذا التّصوير لبدائع مصنوعاته، وبهذا التّرديد اللّذيذ للقرآن والحض على التّمسك به، وبهذا التّكرار الحلو للمقدّسات الإسلاميّة من ملائكة وأنبياء وصحابة وأماكن وأيام، فيغشى في شعره ذكر الله، وجبريل ومحمد وإبراهيم وموسى وعيسى، وعمر وخالد، ومكّة والمدينة، وبدر والقدس، وأسماء كثيرة لبناة المجد الإسلاميّ والعربي يكرّرها فلا تمل، ويصفها في أماكنها فلا تختل، ويسمها ويصفها بخصائصها، ويجلي موضوع العبرة فيها والقدوة بها، فتتألف من ذلك كله في عامة شعره صور بديعة تأخذ النّفس أخذة السحر وتفضي به إلى الاعتبار ثم الاقتداء."(18)
والإبراهيميّ بهذه الإشارة المهمّة يقترب في تقدير النّص ومقاربته من مناهج النقد الحديث التي عدلت عن كلّ السياقات إلى النسق، أي إلى النّص، واعتبرته بنية مغلقة مستفيدة من فتوحات اللسانيات الحديثة، ومعلنة ذلك تحت شعارات متنوعة كـ(موت المؤلف) مثلا.
وفي وصف الإبراهيميّ لنص شوقي بالإسلاميّة، وتعدّد مظاهرها فيه، يجعل المدخل من النّص لا من أيّ مدخل آخر بما في ذلك حياة الأديب (الشاعر) أو سيرته. ومن مظاهر إسلاميّة شوقي في شعره أنّه يحتكم إلى شمائل الإسلام وأخلاقه وفضائله وأركانه في مدحه ورثائه، وبذلك يرتفع ممدوحه ومرثيه أو ينزل.
وهذا دليل آخر يدعم الاتّجاه إلى إسلاميّة النّص، فيؤكّد أن احتفاء شوقي في مراثيه ومدائحه بما يتّصف به الممدوح أو المرثي من إقامة لدينه والتزام به، وهو حكم يستوي فيه الأفراد والجماعات والدّول، "وشيء آخر يدلّ دلالة واضحة على إيمان شوقي بما يقول في ذلك وهو أنّ ممّا يثقل ميزان الممدوح أو المرثي في حكم شوقي أن يكون مقيما لدينه كما يريد الله، حتّى الدّولة العثمانيّة لم يفرغ عليها تلك الحلل الخالدة إلّا لأنّها تخدم الإسلام وتعمل لإعزازه."(19)
ويستحضر الإبراهيميّ الشّواهد والأمثلة تصديقا لرأيه، في إسلاميّة (النّاص) من النّص، منها قول شوقي في رثاء حسين شيرين:"
أبَداً يراه الله في غَلَسِ الدُّجَى ... في صَحْنِ مَسْجدِهِ وحوْلَ كِتابِه
وقوله في تعزية أهل دمياط(20):
بنَـي دمياط مَـا شَيءٌ بِبَاقٍ ... سِوَى الفَرْدِ الذِي احتكَر البَقاءَ
تَعَـالَى الله لا يَبْقَـى سِواه ... إذا وَرَدتْ بَرِيتُــه الفَنَـــاءَ
وأنتـم أَهْلُ إِيمَان وتَقْوَى ... فَهَلْ تلقون بِالعتب القَضَاءَ
مَلَأتُم مِنْ بُيـوتِ الله أرْضًا ... ومِنْ دَاعِي البكُور لَهَـا سَمَاءَ
ولا تستقبلون الفَـجْر إلا ... على قدم الصَّـلاة إذَا أضاءَ
وهناك شواهد كثيرة يلجأ إليها الإبراهيمي في تعزيز رأيه، يقول: "وفي هذه القطع منازع لطيفة في فقه الدّين تدل على ما لشوقي -رحمه الله- من رسوخ في فهم حقيقة الدّين، ومعنى التّدين."'(21)
ونصل مع الإبراهيمي إلى (النّص) موجزين رأيه فيه أنّ النص أوّلاً وقبل كلّ شيء، ويأتي بعد ذلك الحكم لـ(النّاص) أو ضده من (النّص) ذاته، وهو مبدأ مقرّر في نقد هذه الأيام.
1-7- معيار(الرسالة) في الأدب(النّص):
يدلّ معيار (الرّسالة) في الأدب، على معلم من معالم الأدب الإسلاميّ، فللأديب رسالة يؤدّيها في مجتمعه وفي أمّته، بوصفه أديب رسالة، وهذا ما يجعله ملتزما -بالمفهوم الإسلاميّ للالتزام- ويكون لعمله غاية تبرّر وجوده بشكل ضمنيّ أو صريح، ويخلو من العبث المطلق الّذي لا تستسيغه الفطرة ولا المسؤولية التّاريخية والأمانة الرّبانيّة. و(الرّساليّة) من سمات الأدب الإسلاميّ النّابع عن التّصوّر الإسلامي ومن سماته البارزة.
وليس معيبا في الأدب أن يحمل الأفكار، إذا كان يوحي بها ولا يصرّح، يشير ولا يقرّر، يغري بها ولا يفرض أو يلزم بها، بمعنى وهو يحمل الفكرة لا يخلّ بحقّ التّعبير الموحي. ويملك الشّعر قدرة على التّأثير بإيحاءاته وتخييلاته، ومن ثم قدرة على نقل ما يدور في ذهن الشّاعر ن ويرتسم في مخيّلته بكيفيّة تجد مسلكها إلى قلوب المتلقّين بكلّ سلاسة.
ومن إسلاميّة شعر شوقي احتفاؤه بتوحيد الله عزّ وجلّ، هو أسّ خصائص التصوّر الإسلاميّ التي تظهر في الأدب الذي يصدر عنه. وهو سمة ضروريّة لا يتنازل عنها ناقد أو أديب في هذا المجال، وهو ما سجّله الإبراهيميّ في قراءته لشعر شوقي، يقول: "أمّا توحيد الله والإيمان بقضائه وقدره وغيبه ونشوره فإنّ دارس شعر شوقي يستفيد منه ما لا يستفيده من كتب الكلام الجافّة بأنواع من الاستدلال الوجداني، فتدخل النّفوس من أيسر طريق، وتتغلغل إلى مكامن اليقين فيها، فتنتهي بها إلى غاية الغايات من الإيمان الصّحيح."(22)
والإبراهيمي، من هذا المنطلق، لا تغيب عن وعيه ما للأدب من أهميّة في التّربية الإيمانيّة وفي الدّعوة إلى التّوحيد والإيمان وإذاعة الفكرة الصّحيحة بطرائق أسلوبيّة ووسائل تعبيريّة بيانيّة ووجدانيّة وخياليّة، وهي من أدوات الأدب الخاصّة المتميّزة.
ومن الواضح أنّ أحكام الإبراهيميّ وملاحظاته عن شعر شوقيّ لا تأتي تعسّفا، وتفرض عليه من خارج أنساقه وسياقاته، وإنّما هي مستنبطة ومستخرجة من النّصوص الشعريّة دون تأويل مفرط لها. ومن أمثلة ذلك موضوع (القضاء) في شعر شوقي، الّتي يقول شوقي فيها:
القضَاءُ مُعْضِلَة ... لَمْ يَحُلّها أحدُ
كلَّما نقضَت لها ... عُقدةٌ بدَت عُقَدُ
أَتْعَبت مُعالِجَها ... واستَرَاح مُعْتَقِدُ
ومثال آخر، يقول شوقي عن (البعث) و(النّشر)، في تولستوي(23):
طَوانَا الّذي يَطْوِي السَّمَوات في غَدٍ .. وينشـرُ بعد الطَّـي وهُـوَ قَدِير
1-8-معيار التوازن بين الفكر (العقيدة) والفنّ الشّعريّ:
إن تحقيق التّوازن بين الفكرة (الإسلاميّة) والفنّ (الشّعريّ)، أو ما يمكن تسميته بالمضمون الإسلاميّ والتّعبير الفنّي هو أحد مقتضيات مفهوم التصوّر الإسلاميّ في الأدب، وعلى قدر قوّة الفنّ الشعريّ، وبراعة التّعبير فيه تكون قوّة الفكرة (العقيدة) الّتي يتمثّلها، والعكس أكثر صحة ودقة، فبقدر قوّة الفكرة وعمقها (العقيدة) تكون قوّة الفنّ الشّعريّ وروعته. وهذا المعيار يتّخذه الإبراهيميّ شرطا ضمنيّا في قراءته لشعر شوقي، فيرى في براعة شوقي وإتقانه لفنّ القول -ولاسيما في مدائحه النّبويّة- دليلا قويّا على قوّة عقيدته وحضورها في شِعْره، فـ"من دلائل إيمانه القويّ بالله ورسوله ومحبّته لهما محبّة ملكت شعوره، تلك المدائح النّبويّة الّتي أرى أنّه تفوّق فيها على السّابقين الأوّلين، وبذّ فيها السّوابق القرّح من المجيدين في هذا الباب الذي لم يُجِدْ فيه قبله إلا اثنان أو ثلاثة في تاريخ الملّة الإسلاميّة. إن في مدائح شوقي أنواعا من الحكم، وأصنافا من العلم، وأمثالا مضروبة، ونصائح ومذكّرات لا توجد في مدائح غير شوقي".(24) إن قول الإبراهيميّ يؤكد على ما لشعر شوقي في مدائحه، بخاصّة، من خصوصيّة ترتفع به دون غيره ممّن نظم في هذا الغرض.
وما في شعره من تحقيق لمعيار التوازن بين الفكر والفنّ فلا يطغى جانب على حساب آخر، وإنّما يتحققان بنسب موزونة ومحفوظة، إضافة إلى أنّ القوّة في جانب؛ تنعكس حتما في الجانب الآخر.
وتتّضح في الاقتباسات المذكورة سابقا إحاطة الإبراهيمي علما بمسائل النّقد القديم، وقضاياه وتذكرة بمقاييسه، ونلمح إلمامه بما قيل في الخصومات الأدبيّة التي دارت بين النّقاد حول أفضلية شعر على شعر، وعلاقة الدّين بالشّعر.
1-2- النقد، النّاقد، وصفاته من منظور إسلاميّ:
1-2-1-الإنصاف والصّراحة:
يترتّب على ما تقدّم ممّا أشار إليه الإبراهيمي؛ أن يتجنّب النّاقد صفة التّعصب والانحياز، وأن يعتدل ويتوسّط في حكمه، وأن يراجع أحكامه النّقديّة، وينتبه إلى أخطائه، وأن ينصف في التقويم، ويصارح بملاحظات، ولا يجامل الأدباء.
وفي هذا الإطار أشاد الإبراهيمي بجودة شعر شوقي فكرا وفنّا موضوعا وشكلا، ونوّه معجبا ببراعته وجمال صناعته وصدق إيمانه وقوة عقيدته، وبيّن في أكثر من موطن أسباب إعجابه الموضوعيّة بالشّاعر وشعره، ولم يبخسه حقّه الّذي يجب له من التّقدير المنصف، والثّناء المعتدل. ومع ذلك لم يغض بصره عن هنات ليست باليسيرة، وهفوات ليست بالقليلة، ومآخذ معدودة وقع فيها الشّاعر، وألمّ بها فتخلّلت شعره كما تخلّلت شعر بعض السّابقين، وهي ناتجة عن الإفراط والتّفريط، معاً، يقول الإبراهيميّ بهذا الشّأن: "يؤخذ على شوقي أنّه مع جلالته في الإيمان ومتانة العقيدة يطغى عليه الجبروت الشّعري، فيقع في هفوات تدخل في باب الإغراق والغلوّ، أو في باب التّساهل والاستخفاف، وقد سبقه إلى الوقوع في أمثالها من فحول الشّعراء ابن هانئ الأندلسي والمتنبّي والرضي من غير إكثار. ولعمري إنّ بعض ما وقع لشوقي من ذلك يجاوز حدود التأوّل، لا لأنّ موقع هذه الأشياء التي تساهل فيها شوقي في باب التوفيقيات، وللتوفيقيات في الإسلام آداب مخصوصة، وموارد منصوصة لا يستمح فيها، ولا يشفع فيه العذر والتّأويل".(25)
ويسمي الإبراهيمي تلك الهفوات بالمبالغات، وسببها الاستسلام للجبروت الشّعريّ، وعنفوانه وهيمنته، منها ورد في أبيات ذكر منها قوله:
وجه الكنانة ليس يغضب ربكم ... أن تجعلوه كوجهه معبودا
ولوا في الدروس وجوهكم ... وإذا فرغتم واعبدوه هجودا
وقوله:
جعلنا مصر ملة ذي الجلال ... وآلفنا الصليب على الهلال
وقوله:
مهرجان طوف الهادي به ... ومشى بيـن يديه جبريل
وقوله:
وقفي الهــودج فينــا سـاعة ... نتنــاوب والـرّوح الأميـن
وغير هذا في شعره كثير، وإنها لهنات، نرجو أن تكون في مقابل إحسان شوقي، وفي جانب عفو الله هينات(26).
وقلّما يسلم الشّعراء على تفاوت بينهم من هفوات تحدث لحظات الشرود الشعريّ والخضوع لسلطان القول.
وعلى النّاقد تبيان تلك الهنات للشّاعر، ولا ينبغي إيجاد التّأويلات والتفسيرات إن كانت تتجاوز حدود التّأويل.
1-2-2-الاعتراف والإقرار بمنزلة الشّاعر:
وقد كان الإبراهيمي ناقدا صريحا جريئا، في قراءته لشعر شوقي، وملاحظة المآخذ الّتي لا يحبّذ السّكوت أمامه، فينصّ على الخطأ، ويعاتب بشدّة دون أن ينسيه ذلك المأخذ الجسيم والعتاب العنيف منزلة شوقي وشاعريّته وقدره في الشّعر وفي الأدب العربي، أو يحمله ذلك على نسف كلّ روائع شعره بجرة قلم، يقول: "ومع تأثر الجزائر الشّديد بشعر شوقي وعقيدتها التي لا تتخلخل في شاعريته، ومع اعترافها بأنّه أوّل من هزّ هذا الشّرق العربي ببدائعه وآياته؛ فإنّ أدباء الجزائر ما زالوا يعتبون عليه، بل ما زالوا ينقمون عليه مدحه لفرنسا وافتتانه بحضارتها المزيّفة، وتخطّيه الأصول التّاريخيّة التي لا تعترف لفرنسا ببعض ما ينوّه به شوقي من فضائلها، فهو يقول:
دم الثّـوّار تعـرفه فرنسا ... وتعلـم أنـّه نـــــور وحق
جرى في أرضها، فيه حياة ... كمنهل السّماء وفيه رزق
وحرّرت الشّعوب على قناها ... فكيف على قناها تسترق؟
سامحك الله يا شوقي! أيّ شعب تحرّر على قنا فرنسا، فإن كان بعض ذلك فهو من باب الربا الفاحش؛ تأخذ فيه فرنسا أكثر ممّا تعطي، وليس خالصا لوجه الحريّة والتّحرير".(27)
وما يستنج من هذا، وهو ما يذهب إليه الإبراهيمي، من وجوب أن يعي الأديب أو الشّاعر مسؤوليته، وأن يستشعر مراقبة الله له في القول كما يستشعرها في العمل، فما يلفظ من لفظ إلا وهو رهين به، ومسؤول عنه كسؤاله عن ماله ووقته...
ويجسّد الإبراهيمي في نقوده المختلفة مثال النّاقد الإسلاميّ الذي ينبغي أن يكون جريئا في النّصح للأديب والتّوجيه له والتّنبيه على أخطائه، بكل صراحة وجرأة.
هكذا نظر الإبراهيمي إلى شعر شوقي من منظار إسلاميّ، ووزنه بميزان عقدي، وغربله بغربال فكريّ، ومرّره في مصفاة الدّين أوّلاً، لينظر ثانياً في الشّكل أو القالب الفنّي والجنس الأدبيّ الذي ينتمي إليه، ويفحص الأسلوب الذي يصوغه.
إن (الغربلة) عمليّة جدّ ضروريّة في الثقافة والفكر والأدب، هي عمليّة انتخاب الصّالح والنافع والمفيد واستبقاؤه، وأخذ وترك، وإثبات ونفي، -وأقول بعبارة أقتبسها من الإبراهيمي-: "ستذوب الأجزاء الغريبة الصّالحة في هذا الكلّ الطّبيعي فتصبح جزءاً من ماهيته، وستنفى الأجزاء غير الصّالحة كما ينفي الجسم الصّحيح جراثيم المرض".(28)
1-3-1-المرتكز الفنّي الأسلوبيّ في نقد الإبراهيمي لشعر شوقي:
ينوّه الإبراهيميّ بما يصفه بـ(الجبروت الشّعريّ)، ونصنفه بـ(الشّعرية) و(الشّاعرية)، وينصح بالاعتدال والتّوسّط أو الوسطيّة (الشّعريّة)، ويشير إلى مبادئ فنّية بنائيّة كحسن الختام، ويؤكّد على جمال اللّغة، حين يخصّ لغة الشّاعر من حيث صفتها شفافيّة وإيحاء وصدقا، ومن حيث تأثّرها بمعجم عقديّ إسلاميّ واضح، ومن حيث تعبيرها عن سريرة مؤلّفها، يقول: "والذي لا يشكّ فيه قارئ شوقي أنّ لغته متأثّرة بالدّين إلى أبعد غايات التأثّر، صادقة في شعورها بوحدانيّة الله وعظمته وكماله، وبالافتقار إليه والخوف منه".(29)
ومن الواضح أنّ الإبراهيمي تناول جانبين هامّين في قراءته لشعر شوقي، ووقف عند مستويين؛ مستوى المحتوى أو الموضوع، ومستوى الشّكل أو التّعبير، وأطال الوقفة عند المستوى الأوّل وفي تناول المضمون، وذلك لأهميّته وخطورته في الأدب، فهو المادّة التي يقوم عليها التّعبير، ولكونه مجلى التّصوّر الذي ينطلق منه الشّاعر، ولا يراودنا أدنى شك في كونه التّصوّر الإسلامي بخصائصه وسماته.
وأوجز وأجمل في وقفته عند المستوى الثّاني، وفي تناول الشّكل أو التّعبير من خلال الإشارة إلى لغة الشّاعر، وإلى معجمها الإسلاميّ، وقدرتها على الإيحاء والدّلالة على انفعال الشّاعر وامتلائه بإيمانه.
وهما دعامتان أساسيتان وشرطان ضروريان في (الأدب الإسلامي) الذي يرتكز إلى التّصوّر الإسلاميّ لله وللإنسان والكون والعالم.. من حيث مضمونه، وإلى التّعبير الفنّي من حيث شكله.
والملاحظ أنّ الإبراهيمي يقف على أرضيّة صلبة من هذا التّصور، ويدركه بكلّ أبعاده، ويمارسه بوعي، وإن لم يسمّه صراحة لأنّ المنظومة الاصطلاحية المعاصرة للأدب الإسلامي ونقده كانت قيد التأسيس في تلك الفترة، ولم تتبلور بالشّكل الكافي، وإن كانت تمارس بطريقة أو بأخرى، كما يبدو في ممارسات الإبراهيمي النّقديّة موضوع قراءتنا.
1-3-2-التّوصيف النّقدي للشّاعر:
بناء على تقدير الإبراهيمي لشعر شوقي؛ فقد خصّ الشّاعر بعناية لافتة للانتباه، وأنزله منزلة معتبرة، فقدّمه على غيره من شعراء العربيّة، وأبدع في وصفه؛ فوصفه بـ(شاعر الإسلام)، وبـ(شاعر العربيّة)، وبـ(شاعر الشّرق)، وفي سياق واحد نعته بالنّعوت الثلاثة وبكلمة واحدة (شاعر الإسلام والعربيّة والشّرق) في خطاب تعزية (مات شوقي) إثر وفاته، فنعته بشاعر الإسلام الذي يعتز بمفاخره، ويشدو بمآثره، وينطق بلسانه، ويجول في ميدانه، ويدعو إلى جامعته، ويمشي في ركاب خلافته، وبشاعر العربيّة الذي تشرب روحها، وتملكت هي روحه، فحمى أسلوبها ونغمتها، وعرضها على أهل هذا القرن معربة عنه كما أعربت عما قبله بلغة فصيحة، فحمل لواءها خفاقا في الآفاق، كما توج على شعرائها في الأقطار باستحقاق. وبشاعر الشرق الذي كان يهتز قلبه لهزاته، وتضطرب حياته لاضطراباته، وترتفع آهاته مع آهاته، فيدوي حتى لتتحرك له جبال، ويهلع منه رجال، وتسري كهرباؤه حتى لترتبط بها بعد الشتات أوصال، وتحيا بها بعد الموت آمال.(30)
ونعته في موضع آخر بـ(شاعر العرب) في مناسبة إحياء ذكرى شوقي، يقول فيها: "إني مغتبط لإحيائكم لذكرى شوقي شاعر العرب في وقت همّ فيه أحوج ما يكونون إلى صيحاته التي تحرك الخامل وتهز الجامد، وإلى نغماته التي تنعش العاملين وتنبه الخاملين".(31)
لقد أولى الإبراهيمي شوقياً هذه العناية، وأنزله هذه المنزلة لمواقفه المشرّفة من عقيدته وأمّته ولغته.
1-3-3-القراءة التّناصية للشّعر:
ومن المعلوم أنّ قراءة الإبراهيمي لشعر شوقي لم تكن قراءة عابرة، أو قراءة عابر؛ أي مجرد قراءة سطحيّة تتوخى الاستمتاع بهذا الشّعر، وتنتهي بالانتهاء منه والفراغ من قراءته، وإنما كانت قراءة نقديّة عليمة واعية عميقة محيطة تحفر في الأعماق مدركة لكلّ أبعاده ومتطلّعة إلى الآفاق، تتناول النّص في نسقه وفي السياق الذي يتلوّن ويتشكّل خلاله جنسه.
لقد درس الإبراهيمي شعر شوقي، ووقف من خلاله على كلّ النّصوص السّابقة الغائبة الحاضرة التي ترفده، وتندمج في بنياته، وأجرى موازناته ومقارناته بينه وبين كبار شعراء العربية في القديم، ولمس مواطن التفوّق والامتياز عند شوقي على غيره، يقول الإبراهيمي في ذلك: "فقد وصل شوقي بشعره حينما اقتحم به جميع الميادين إلى مرتبة من مراتب الخلد لا يستطيع وصفها إلا هو...، ولقد دأب شوقي بتقليد المتنبي في أول أمره فجاراه، وما كبا وما قصر، ثم شآه في التشبيب الصادق والغزل الرقيق، ثم طاوله فطال عليه في وصف الآثار الباقية عن الحضارات الدائرة، وفي التغني بالأمجاد الغابرة لبني جنسه أو بني وطنه، على حين كانت عبقرية المتنبي لا تتجاوز به مدح شخص بجود، أو شجاعة في وصف حروب وانتصارات قد يكون الغناء فيها لغير الممدوح، ولا تبرز العبقرية إلا في الحكم التي سجلها، والأمثال التي سيرها، أما الوصف الذي تتبارى فيه قرائح الشعراء، وتتجارى سوابقهم فيه فليس للمتنبي فيه كبير قيمة إذا استثنينا قصيدته في شعب بوان، وقصيدتيه في وصف الحمى وفي وصف الأسد، وفي قطع قليلة من شعره.".(32)
وهكذا يرى الإبراهيمي أن شوقياً قد تفوق على المتنبي في التشبيب الصادق والغزل الرقيق وفي الوصف الذي تتبارى فيه قرائح الشعراء، وقد ساق مسوغات هذا الحكم. ويجدر لفت الانتباه، ههنا، إلى تفقه الإبراهيميّ في شعر المتنبي وأضرابه.
ويبدي رأيه في شوقي بصراحة وجرأة ودون مواربة في قوله: "ورأيي في شوقي معروف في المشرق والمغرب بين خلصائي وخلطائي من المتأدّبين، فلم أزل -منذ كان لي رأي في الأدب- أغالي بقيمة شوقي في الشّعراء السّابقين واللاحقين، وربما شاب هذا الرأي منّي شيء من الغلو في مقامات الجدل والمفاضلة بين شعراء العربيّة، وما كنت أتّهم نفسي بعصبيّة لشوقي، ولا كان النّاس يتّهمونني بتحيّز، لأنني كنت قواما على شعر شوقي أستحضره كله وأستظهره جله، حتى ليصدق علي أنّني راوية شوقي بالمعنى الذي يعرفه أسلافنا في الرّواية، ولقد حفظت الشّوقيات القديمة قبل هجرتي الأولى إلى الشّرق سنة1911 ميلادية، ثم أحفظ من شعر شوقي ما جدّ بعد طبع الشّوقيات الأولى، واستوعبت شعره في منفاه بالأندلس حفظا لأوّل ظهوره في الصّحف أو في أجزاء ديوانه بعدما طبعت".(33)
ولم ينته الإبراهيمي إلى هذا الحدّ من الإعجاب المؤسّس والتّقدير الموضوعيّ لشعر شوقي، بل دعا الناشئة -هنا في الجزائر- إلى الائتمام بشوقي، واحتذاء أساليبه في أول فرصة سانحة، في بداية النّهضة الأدبيّة؛ يقول: "وما كادت تلوح النهضة الأدبية في الجزائر بعد الحرب العالمية الأولى، ويكتب لي أن أكون أحد قادتها حتى كنت أول الدّاعين دعوة جهيرة إلى الائتمام بشوقي، وإلى احتذاء طريقته، والسير على نهجه في الأدب العربي، وأول الدالين على روائع شعره. ولما جد جدّ تلك النهضة، وتعددت المدارس العربية على يد جمعية العلماء الجزائريين، وقدر لي أن أكون المشرف على توجيهها مكّنت لشعر شوقي في نفوس الآلاف من الناشئة الجزائرية، فانبنت تلك النهضة من أولها على أدب شوقي وشعره، وفهمته ناشئتنا على وجهه لحكمه وأمثاله، ولحسن تصويره ودقة وصفه، ولسهولة مدخله على النفوس، وإن آلافا عديدة ممن ارتقوا ولو قليلا في سلم الأدب ليحفظون من غرر شعر شوقي وسوائر أمثاله ما يجملون به كتاباتهم وخطبهم ومجالسهم للمذاكرة، وإن كثيرا من الشّعراء الذين أنجبتهم النّهضة الجزائرية ليترسّمون خطى شوقي ويسيرون على هداه، وتلوح عليهم مخايله وسماته".(34)
ولم يطالب الإبراهيمي الناشئة، يومئذ، بتمثّل شعر شوقي والسير على نهجه الفنّي وطريقه الشّعريّ عن غير دراية وخبرة، فقد أشار إلى أسباب موضوعية تتّصل بمضامين شعر شوقي الإسلاميّة، ويرتبط بأساليبه البليغة وطرقه العربيّة الفصيحة من (حكم وأمثال وحسن تصوير ودقة وصف، وسهولة مدخل على النفوس..).
ومن عوامل تمكين شعر شوقي وأدبه في مقررات وبرامج المدارس ونفوس الناشئة شدّة ارتباط شوقي بالإسلام وحضارته وآثاره وأخلاقه ومثله ورجاله...، وهذا قسم ينضاف إلى جهة المضامين الإسلامية الفكرية والشعورية الوجدانية التي حظي بها شعر شوقي، والتي تتماشى والفطرة الإسلامية النقية التي نشأت عليها الناشئة والشباب الجزائري؛ يقول الإبراهيمي: "وأول ما حبّب شوقي إلى نفوس ناشئتنا -على طراوة عودهم- هو ما يفيض به شعره من تمجيد للإسلام، وبيان لآثاره في النّفوس، وتغن بمآثره وأمجاده، وافتنان في مثله العليا التي قاد بها أتباعه إلى مواطن العزة والسيادة. ولا عجب، فناشئتنا نشأت على الفطرة الإسلامية النقية، وشعر شوقي أبلغ معبّر على تلك المعاني العالية، ونهج شارع إلى سبل التأسّي والاقتداء".(35)
ولهذا كلّه، كان موت شوقي بالنّسبة للإبراهيمي وللأندية الأدبيّة الناشئة بالجزائر خسارة فادحة وصدمة قوية، فقد كانت هذه الأندية تأتم بشوقي، وتسير على هديه وشعاعه.(36)
وقد كان لشعر شوقي أثر عميق في النّهضة والثورة الجزائرية كما يؤكّد ذلك الإبراهيمي بقوله: "إن الجزائر الفتية مدينة بجميع فروع نهضتها، بل في أصول ثورتها لشوقي، فكم حدونا الشّباب بشعره المطرب القوي، ووجهنا ذلك الشعر إلى مكامن الإحساس من نفوسهم، فكان ذلك أحد الأسباب في ثورته الخالدة التي أقضت مضاجع الفرنسيين، وأتت بخوارق العادات من الشعب الجزائري".(37)
وفي ختام عرضنا لقراءة الإبراهيمي نثبّت ما يأتي:
-إن قراءة الإبراهيمي لشعر شوقي قراءة تلمّ بعناصر شتّى بدءا من الأديب (المرسل)، إلى أدبه (الرّسالة)، إلى متلقيه (المرسل إليه)، والأثر الذي تلقّاه بوصفه قارئا، والأثر الذي يتركه فيما يحيط به وفيما يأتي ويحتمل أن ينتج من نصوص.
(السياق) مفهوم أوسع، الـ(ما قبل) والـ(ما بعد).
-إن قراءة الإبراهيميّ تسهم في تعزيز الرصيد النظريّ للأدب والنّقد الإسلاميين، وتعين في استنباط مفاهيم وأدوات تمكّن من قراءات صحيحة للأدب ومن ترسيخ تقاليد أصيلة في إنتاج النّصوص وفي الإبداع بصفة عامّة.
2-قراءة الإبراهيميّ لشعر الشّاعر الجزائري محمد العيد آل خليفة:
تأتي قراءة الإبراهيميّ، في هذا المحور، لشعر الشّاعر الجزائري محمد العيد آل خليفة مستجيبة لذات المنطلقات الّتي جعلته يؤثر شعر شوقي سابقا، وهي إسلاميّة المضمون، وجمالية المحتوى (النّص)، وسنتناول هذه القراءة مستنبطين سمات الأدب الإسلاميّ ومعايير نقده.
2-1-معيار التّفاؤل والإيجابيّة:
يتميّز الأدب الإسلامي بأنّه أدب الفطرة السّويّة التي تنفر من التّشاؤم والسلبيّة، وكل مظاهر الإحباط، فهو أدب التّفاؤل والإيجابيّة(38) والرجاء كما يذكر الإبراهيميّ، ومن ثمّ فحالات التّشاؤم واليأس والإحباط القويّة العنيفة هي مشاعر مؤذية لا تعتري الأديب المسلم، وهو في مناعة ضدّها، ولا تعتري الشّاعر المسلم التّقي -بهذه الصفة التي يؤثرها الإبراهيمي-، إنّها وانفعالات حادّة مضرّة لا تكون من صفة المسلم، ولا تتخلل سلوكه، ولا تتمظهر في قوله.
والإبراهيمي يدعو الشّاعر المسلم إلى التّفاؤل واجتناب كلّ ما من شأنه أن يثبّطه، ويهدر قوّته، ويشلّ نشاطه، ويستنفذ طاقته من شعور بالإحباط واليأس والقنوط، وها هو ذا يقول في كلمة وجّهها إلى شاعر الشّباب محمد العيد آل خليفة، وقد لمس في نفسه حزنا، ورأى في قوله أسى مبرحا: "طالما سمعت منك كلمة (اليأس)، وبودي أن لا أسمعها منك مرة أخرى لأنّني أعدّها غميزة في شاعريتك. ولولا شذوذ نعرفه في نفوس الشّعراء كأنّه من معاني كمالهم لما صدّقنا باجتماع اليأس والشّعر، وكيف ييأس الشّاعر وهو ملك مملكة الآمال، وسلطان جوّ الخيال. فإن كان تقيّا رجع من (رجاء الله) إلى ما لا يحدّ له أمد؛ فكيف تيأس نفس الشّاعر لولا ذلك الشذوذ!؟ لقد قال أوّلكم:
حرّك مناك إذا أتمـ...مت فإنّهن مراوح
وما قالها لغيره إلا بعد أن جرّبها في نفسه...، فلا تيأس يا بني، ولا تكذب إمامك الذي يقول: خلق الشّاعر سمحا طربا".(39)
وشيء آخر جدير بالتّنويه به هو العلاقة الحميمة الأبويّة الإنسانيّة العارمة التي تجمع النّاقد بالشّاعر، وهذا الأسلوب الفريد في التّربية والتّوجيه الذي يسدي من خلاله النّاقد نصحه للشّاعر، علاقة يكتنفها التواضع والحبّ والتّعاطف، فكأن النّاقد يحدّث ولداً له، يقول الإبراهيمي في مستهلّ كلمته الآنفة الذّكر: "ولدي!.. طالما قرأت في وجهك الشّاحب آيات الحزن، وتلمّحت في قسماتك دلائل الهمّ والأسى، وكم حركتك بمعاريض من القول علّني أستبين شيئا من حقيقة هذا الهمّ الدّفين الذي تنطوي عليه أحناؤك. وهذا الأسى المبرّح الذي أعلم أنّك تقاسيه، كمن يستجلي المعنى الدّقيق من اللّفظ المعقّد. وإن بين التّعقيد ونفوس الشّعراء (الأتقياء) نسبا وثيقا. ويا لله للنّفوس الشّاعرة التّقية وما تلاقيه من عناء ممضّ يتقاضاها الشّعر إطلاقا! فيتقاضاها التّقى تقييدا... لها الله فماذا تفعل!؟".(40)
ويستمرّ الإبراهيمي في ترسيخ سلوكه التربويّ الفذّ، وتأسيس فنّ عال لتعامل النّاقد والشّاعر، ويعمل على توطيد علاقة مثلى ترقى إلى علاقة الأب الرّحيم بولده المحزون، فيقول في آخر كلمته: "قرأت زفراتك هذه الساعة في الشّهاب وأنا طريح الفراش، أعالج زكاما مستعصيا ونزلة شعبيّة، وسعالا مزمنا وأولادا يطلبون القوت أربع مرات في اليوم، وتلاميذ يطلبون الدّرس سبع مرات في اليوم والليلة، فقلت: وهذه أخرى!. إنّ ولدنا هذا لذو حق. وكتبت لك هذه الكلمات كما يكتب الأب الشّفيق إلى ولده الرفيق. وعسى أن يكون فيها ترويح لخاطرك".(41)
إنّ الإبراهيميّ يقدّم نموذجا نادرا عزيزا للعلاقة التي يجب أن تكون قائمة بين النّاقد والأديب، فلا يعامل هذا ذلك إلا بالمودّة والحبّ والرفق.
ويلاقينا في المقابل الشّاعر محمد العيد آل خليفة بنموذج رائع للأديب المستمع المنصت، ولا يرى في انتقاد الإبراهيمي له بهذه الطريقة أي إساءة، فيرد عليه بطريقة شعرية رائعة، يقول الشاعر(42):
أبــي (البشير) ســـــلام زاك وشــــــــوق كبير
لا زلـت فيــنا منـــــارا بــضــوئـــــــه نـستنـير
وافى كتابك يهـــدي إلي المنــــى ويشير
تذكو العبـــــارة فيهما ليس يذكو العبير
إذا فـــــؤادي سال وطرفــــــــــــي قريـــــــر
قد ارتددت بصيرا فكيف يغوى البصير!؟
قميص يوسف ألقى به علي (البشير)!
يا آسي اليأس زدني كشفا فأنت خبير.
وبعيدا عن الغرور وعن الكبرياء والعجب ينصت الشّاعر، ويستهدي بإضاءات النّاقد في أدب وجمّ.
يقدّم كلّ من الناقد والشّاعر نموذجا رائعا راقيا للعلاقة الأدبيّة التي تصل الناقد بالشّاعر، وتصل الشّاعر بالنّاقد.
2-2-معيار المعرفة الأدبيّة وأدواتها:
لا تقوم الصّناعة الشّعريّة على الموهبة أو الملكة بمفردها، فهي في مسيس الحاجة إلى المعرفة بهذه الصّناعة، وإلى ثقافة هذا الفنّ؛ أي في حاجة إلى الاكتساب والتعلّم والدربة والمران والممارسة. وبالمكتسب المعرفيّ والفنّي يكمّل الشّاعر المفطورَ والأصيلَ والموهوبَ في شخصيته الأدبيّة، وتستوي التّجربة من كلّ جوانبها. ويبني الشّاعر صرحه الفنّي على أسس متينة من الموهبة والمعرفة.
والإبراهيمي عارف بأسرار الصّنعة الشّعريّة، خبير بمقوّماتها، مقدّر لأهميّة كلّ طرف، فيرى أنّ الموهبة وحدها لا تسدّ حاجة الشّاعر، وإنّما تفتقر إلى ما يدعمها من مواد الثّقافة والمعرفة والفنّ الضروريّة. ويبيّن ما يحتاج إليه الأديب من معارف أساسيّة تسعف الموهبة، وتصقل الذّهن، وتهذّب الفطرة، وتتمثّل موادّ المعارف الأساسيّة المكتسبة في أنواع من المعرفة المتنوّعة تشتمل عليها كتب اللّغة، وكتب الأدب، وكتب النقد، وكتب الأخبار والسّير، ولكل نوع من هذه المعارف دوره ووظيفته في التّكوين.
يعرض الإبراهيميّ لهذه المسألة في حديثه عن الأدب في الجزائر: "إنّ الأدب عندنا في الجزائر لم يكمل، ولم يزل بينه وبين الكمال مراحل، والذي عندنا إنّما هو استعداد للأدب ولكنّه بدون أدوات، فهو يعتمد على المواهب الّتي وزّعها الله على عباده، وجعل حظوظهم منها متفاوتة، فمن آتاه الله من أبنائنا حظّا من الموهبة وقف عندها، وأخذ يعصر المواهب عصرا، فتبض له بشيء وتشح بأشياء، لأنه لم يرفدها بالأمداد التي تفتقر إليها، والمواد التي تتغذّى منها من المحفوظ والمقروء المهضوم والمدروس المفهوم. فالملكات الأدبية لا تكفي فيها القريحة والطّبع حتّى تمدّها الصّنعة بأمدادها، وأوّلها متن اللغة غير مأخوذ من القواميس اللغوية لأنها لا تنتهي بصاحبها إلى ملكات لغوية ولا أدبية، وإنّما يجب على من أراد أن يربي ملكته على أساس متين أن يأخذ اللّغة من منثور العرب ومنظومهم، فيستفيد بذلك فائدتين: الأولى الكلمة ومعناها، والثانية وضعها في التّركيب وموقعها منه وموقعه من النّفوس، وحسن التّركيب هو سرّ العربيّة، ويسمّيه علماء البلاغة حسن التّأليف، ومن كلماتهم الّتي سارت مسير الأمثال قولهم: ولكل كلمة مع صاحبتها مقام. أما أخذ الألفاظ متناثرة من كتاب لغة كالقاموس المحيط، ثمّ وضعها في تركيب كيما اتّفق؛ فإنه عمل بعيد عن التّوفيق، مجانب للصّواب، لأنّ صاحب القاموس لم يرد أن يكون بكتابه أديباً، وإنّما أن يخلق مدرساً".(43)
تلك بعض عدّة الأديب شاعرا وناثرا، والأديب ملزم بالنّظر في متون اللّغة بالشّروط التي نبّه عليها الإبراهيميّ، وهي أن يتعلّم (اللّغة) في سياقاتها المختلفة النّصية وغير النّصية؛ في سياقها الأدبيّ والنّفسيّ والاجتماعيّ، أو في (مقاماتها) التداوليّة بالاصطلاح البلاغيّ، ولا يغني في تعلم متن اللّغة حفظ المفردات بمعزل عن التّركيب أو النّظم أو التّأليف، وما ينتج عنه من معان، فعلى الأديب أن يراعي ما يسمّى بـ(حسن التأليف)، وأن يتلقّى اللغة في استعمالاتها الأدبيّة، ومعناه أنّه لا يكتمل في تكوين الأديب المعرفيّ والثّقافيّ الاطلاع على اللّغة في المعاجم والإحاطة بمعانيها الوضعيّة الحقيقيّة حتّى يضمّ إليها اللّغة في استعمالاتها الحيّة وبدلالاتها المجازيّة الانزياحيّة.
على هذا الأساس فرّق الإبراهيميّ بين النّوعين من المتون اللّغويّة والأدبيّة، فيقول في الموضوع: "وإذا ذكرنا قاموس الفيروز آبادي فما كلّ القواميس مثله: فلسان العرب كتاب يعلّم اللّغة، وكتاب المقاييس لابن فارس كتاب لغة يعلّم الأدب، وكتاب المخصص لابن سيده كتاب لغة وأدب معاً، أمّا اللّغة الحقيقيّة فهي أشعار العرب وأحاديثهم وخطبهم ومحاوراتهم، وأما كتب الأدب المحض فهي كتب الجاحظ والمبرد وابن قتيبة، وكتب المحاضرات من مثل عيون الأخبار ومحاضرات الأدباء والعقد الفريد ولباب الآداب للأمير أسامة بن منقذ، وكتب النّقد ككتابي قدامة بن جعفر على صغر حجمهما، والصناعتين للعسكري، والعمدة لابن رشيق حتّى تنتهي إلى المحيط الهادي: الأغاني وما أدراك ما الأغاني!؟".(44)
هذه، إذاً، لوازم الثّقافة والمعرفة الأدبيّة التي لن يكون للأديب شاعرا وناثرا غنىً عنها، وبها يعلو كعبه، ويرتفع شأنه، وتستوي تجربته، وتنهض موهبته.
فعليه بمراجعة موادّ تكوينه وقراءتها بتأن ودرس وترو مستزيدا من فوائدها الجمّة، وبعد أن يفرغ من ذلك النوع الأول ينصرف إلى النوع الثّاني، فيدرس كتب النّقد، وهكذا، يقول الإبراهيميّ: "ومحال أن تكتمل ملكة في الأدب لمن لم يقرأ هذه الكتب كلّها قراءة تأنّ ودرس، ويحفظ لكل شاعر مجل جاهلي أو إسلامي أشرف شعره وأجزله، ثم يأتي كمال الأدب وهو أن يعرف طبقات الشعراء وموازينهم وخصائصهم، وأن يعرف من السير والأخبار ما يحلّي به أدبه نظما أو نثرا، فإنّ الأدب بدون هذه النكت كالطّعام بلا ملح".(45)
إن قراءة ما أشار إليه الإبراهيمي قراءة واعية منتخبة تخصب التّجربة وتوسّع الآفاق وتحفر في الأعماق، وتعمل في المحصّلة على تثقيف الأديب، وتعزيز رصيده المعرفيّ والفكريّ الذي يتجلّى في أدبه ويتحلّى به، والذي يعد في الآن ذاته أحد مداخل النّاقد الحاذق إلى هذه التّجربة وتستظهر تناص وتعالق نصوصه مع النّصوص الأدبيّة وغير الأدبيّة السّابقة القديمة التي تقبع في خلفية التّجارب والنّصوص، وتثري أبعادها الإيحائية اللّامتناهية.
إنّ هذه الفكرة هي ما يحدّد تجربة الإبراهيميّ ناقداً عالماً وقارئاً خبيراً، وهي ما يختزله بالقول: "وما سمعت قطعة من الشّعر لأديب، ولا قرأت له قطعة نثريّة إلّا عرفت منها ما قرأ من الكتب، ولقد وعكت مرّة فأرسل إلي أديب يسلّيني بقطعة من الشّعر، منها:
أيّها الحاكي أبا شبرمه ... إذ رماه الدّهـر بالضّر ورامه
ليتني جئت كيحي عايدا ... ناذرا عتق غلام وغلامه
والحكاية متكرّرة في كتب المحاضرات، فلقيته بعد زوال الوعكة وسألته عن غفلة: هل استوعبت قراءة عيون الأخبار؟ فأجاب نعم، والعقد الفريد؟ وكذا وكذا من الكتب؛ سماهنّ من كتب الأغذية العقليّة، وهو صادق، فإن آثار القراءة العميقة بادية على شعره كما تبدو آثار الأغذية الصّالحة على الجسم فراهة وقوّة وحيويّة".(46) إنّ تلك الأغذيّة الصّالحة لبادية في النّصوص الجيّدة حسنا وجمالا، وعمقا وبعدا.
يفيد مقبوس الإبراهيميّ أنّ التّراث الأدبي والثّقافيّ المقروء والمستلهم، على تنوّع مصادره، تدخل موادّه في نسيج النّص الأدبيّ، وتنصهر ليستقيم نصّا بديعا مدهشا عميقا دسما، ولا شك أنّ لهذا التّوظيف التراثيّ في الأدب نظريته الّتي قام عليها تيار من النّقد الأدبيّ المعاصر.
وقد لا حظ الإبراهيميّ بعض الفقر المشين في تجارب من الأدب الجزائري في العصر الحديث، ويجعل سببه قلة القراءة من ناحية، ومن ناحية أخرى القراءة غير المتدبّرة أو القراءة الّتي تقمش من هنا وهناك -كما يقول الإبراهيمي- أو قراءة تلفّق في المحصّلة النصوص المبتورة الأوصال.
ويظهر أن الإبراهيمي قد خبر التّراث الأدبي واللّغويّ العربيّ، وتعمّق في الإحاطة بالأدب العربيّ الحديث إلى درجة مذهلة تمكّنه من الحكم بأنّ "كل ما يستعمله الشّعراء والكتاب اليوم كلمات متداولة محدودة، لا تجاوز مجموعها خمسة عشر ألف كلمة، وهي بضاعة السّوق، فإذا كانت كافية للاستهلاك اليومي الضّروري، على لغة الاقتصاديين، فإنّها لا تكفي للمطالب التّكميليّة والتّحسينية في الأدب، والمواضيع تتجدّد، والمعاني تتوارد وتتشابه، ثم تتمازج ثم تتمايز، فمن الواجب أن ننحت من هذا المعدن القديم كلّ يوم جوهرة ونصقلها".(47)
لا يكتفي الإبراهيميّ بالدّعوة إلى الاستفادة من الرّصيد الهائل للغة الشّعر، ويدعو إلى الإبداع في اللغة والإضافة إليها والاشتقاق منها، والتّجديد فيها، بما يغني الشّعر والأدب.
وأثر الثّقافة في الأدب لا تتجاوزه عين النّاقد أو القارئ، وإن خفي ذلك الأثر وذاب في النّصوص. فمنه يزدان النّص، ويتميّز الأسلوب، ويغنى الفكر وينشط الخيال.
وتضيف قراءة الإبراهيميّ لشعر محمد العيد آل خليفة إلى نتائج قراءته المتقدّمة ما يأتي:
-ضرورة اتّسام الأدب بالتّفاؤل والإيجابيّة، وهي صفات تتولّد من شخصيّة الأديب، وتنعكس في أدبه.
-تعاطف النّاقد والقارئ له قيمة خطيرة في توجيه الأديب.
-ضرورة التّثقيف والتعلّم في تكوين الأديب والنّاقد على السّواء.
-تجاوز الموجود والموروث إلى الإبداع والتّجديد.
3- قراءة الإبراهيميّ لشعر الشّاعر السوري عمر بهاء الدين الأميري:
إن المنطلقات النّقديّة الإسلاميّة ذاتها تتجدّد في قراءة الإبراهيمي لشعر عمر بهاء الدين الأميري، ومن المسلّم به أن شعر الأميري يندرج في تيار (الأدب الإسلامي)، ويلتزم به تصوّرا وتعبيرا.
فشعره يتحلى بما للأدب الإسلاميّ من جماليات خاصّة، وفنيات متميّزة، على مستويي الشّكل والمحتوى، ولهذا المضمون، وبهذا التّعبير أضفى عليه الإبراهيميّ استحسانه وإعجابه ودهشته منه.
ونتناول في هذه القراءة قضيتين مهمّتين تتعلّق الأولى بمعيار الموضوعيّة، والثّانية بوضوح أثر الدّين (الفكرة) في الإبداع الأدبيّ.
3-1-معيار (المَوضُوعيّة) في النّقد:
يبدي الإبراهيميّ انطباعا نقديّا موضوعيّا بعيدا عن أن يكون مجرّد ردّة فعل لتلقي شعر الأميري، ومن ثمّ يبعد عن أن يكون انفعالا ذاتيا وجدانيّا عابرا بفكرة النصّ المقروء أو المسموع، ولا شيء بعد ذلك الانفعال الذّاتيّ.
إن انطباع الإبراهيميّ النّقدي يتمخض عن قراءة نافذة، وعن مقاربة مباشرة لعوالم النّصوص، وأحكامه النّقديّة مبرّرة في النّصوص ذاتها، وله من القرائن النّصيّة ما يؤيد أحكامه تلك، ومن ذلك ما يراه في شخص الشّاعر السّوري عمر بهاء الدين الأميري، وفي شعره (خماسياته الشّعريّة) وديونه (مع الله).
فالأميريّ في نظر الإبراهيميّ "شاعر موهوب، رقيق الحسّ، وجدانيّ النّزعة، خصب الشّاعريّة، مستجيب الطّبع، متدفّق الطّبع، صادق التّأمّل، واسع التّخيّل".(48) و"هو مع شبابه وإلمامه بمعارف عصره، وملابساته لفتن عصره، متين الإيمان بالله، صادق التعبّد له، قوي الخوف منه...".(49)
وهي أحكام سواء في حق الشاعر أم في حقّ شعره يخرج بها من بعد قراءة ديوان الشّاعر (مع الله) مع ذلك الإعجاب الذي يظهره وتلك الدّهشة منه، يقول الإبراهيميّ معترفا بذلك: "دهشت لهذه الشّاعرية الجيّاشة التي وهبتها الفطرة الصّافية لهذا الوزير الشّاعر، وهذا الخيال الخصب الذي يفيض بالمعاني فيضا...، وأقوى ما تبدع هذه الشّاعرية، فيما لاحظت حين تتّصل نفس شاعرنا بالله، وبمجالي آياته في الكون، وبأسرار البشرية وغوامضها، وصلاتها بما يجاورها من مخلوقات، ونسبتها إلى هذه العوالم المنظورة والمغيّبة".(50)
ويرى الإبراهيميّ بأنّ شعره يختصّ "بوصف سرائر النفوس وانفعالاتها، ونشدان الصّداقة الصّادقة والودّ الخالص، ويفيض بالذّاتيّة المستعلية بالله، المترفّعة عن الإسفاف، المتعفّفة عن الشّهوات إذا نافت إلى الكمال، أو وقفت في الطّريق إلى الله، ويسمو في كثير من أغراضه إلى سمة الرّوح بخالقها، وترقيها في مجالي التّقوى والإيمان فيدلّك حين تقرؤه على قرب صاحبه من الله، والاعتزاز بعبوديته له، وقد تبدو في بعض شعره حيرة، ولكنّها حيرة المؤمن المسلم وجهه لله، لا حيرة الشّاك المضطرب."(51)
ومع ما لشعر الأميري من حسنات عدّدها الإبراهيميّ، فهو يلحظ عليه، أيضا، أنّه في حاجة إلى التّحكيك والصّقل واستفتاء أساليب البلغاء، ويأخذ عليه عدم أناته في النّظم والصّبر على مراجعته.(52)
وهي الملاحظة الّتي يعيدها الإبراهيمي، في موضع آخر، فيشيد بمزايا شاعريّة الأميري، يقول: "الشّاعرية في شاعرنا الأميري قويّة، حيّة، موهوبة، مشبوبة، جيّاشة، وهي مستندة على حظ من البيان العربي غير قليل، وثروة من اللّغة محيطة بالمعاني التي راض الشّاعر قريحته على النّظم فيها، وتبدو لسلاستها وسهولتها فطرية سليقيّة، لا تكلف فيها ولا عسر، مفصّلة على المعاني، موزّعة على الأغراض، كأنّها لم تخلق إلا لها! ولكم تمنيت لهذه الشّاعرية القوية لو صحبها توسّع لغوي، وقراءة متأنية لفحول البلاغة، وإذن، لجاء من هذا الشاعر، نادرة العصر، ولتكشف عن فحولة تخمل الفحول".(53)
ينبّه الإبراهيميّ الشّاعرَ إلى ما ينبغي فعله، وما يجب عمله ليستوي عوده، ويرتفع شعره في سماء الإبداع، وإن كان يعدّ شعره من الأدب الرفيع، ومقاطيعه الجميلة من كرائم الشّعر، وأن عليه ألا يزري بهذا الأدب، وأن يتحف الأدب العربي بتلك العرائس المخدرة.
ويؤكّد الإبراهيميّ على أنّ هذا الشّعر يرتفع ويرتقي إلى مستوى من الإبداع سامق، كلّما اتصل موضوعه بالله وبآياته في الكون، أو "حين تتّصل أو تماس الآلام أو الآمال، فهنا ترى نوعا غريبا من الإبداع في الوصف، ونوعا آخر من التّحليق، وتسمع خفقات... تتبعها زفرات.. تتبعها أنات... تنبعث منا آهات... يمزجها الشاعر في مقاطيع صغيرة، من البحور القصيرة، سهلة السبك، سهلة القافية، فتأتي مؤدّية لمعانيها، وكأنّها بين الآهات انقطاع واستراحة...".(54)
3-2-معيار وضوح أثر الدّين أو الفكرة في الإبداع الأدبيّ:
إنّ الدّين حافز قوي للإبداع، والإبراهيميّ في حكمه لصالح شعر الأميري وجودته حين يتّصل بالمضامين الدّينيّة يعلن حقيقة تنفي تلك المقولة القديمة التي طالما ردّدت، واحتجّ بها في غير حقّ، من أنّ الشّعر إذا دخل في الخير أو ارتبط بالإسلام ضعف ولان...(55)
فالإبراهيمي يرى أن "لإيمان صاحبنا الوزير الشاعر، وتقواه، وتربيته الدّينية، ومحافظته على الشّعائر دخلا كبيرا في تلوين شاعريّته، وإضفاء جلال الدّين عليها..، وهو في هذا شبيه بمثله من الشّعراء الأتقياء -وقليل ما هم- ومنهم شاعر الجزائر محمد العيد".(56)
وممّا يزيد شعر الأميري بهاء وألقا أنّه "لا يتدلّى إلى المعاني التّافهة الّتي يسفّ إليها أصحاب النّفوس الصّغيرة...، وللشّعراء في فهم الجمال وفي معانيه، وفي مجاليه، وفي تذوّقه، مشارب مختلفة، تبتدئ من (الملأ الأعلى)، وتنتهي إلى (الغرائز السفلى)".(57)
ويمكن التّأكيد في قراءة الإبراهيميّ لشعر الأميريّ على قضيتين مهمّتين:
-تتعلّق الأولى بالموضوعية في النّقد، فلا ينحاز النّاقد ولا يجامل، ويحكم بما يلمسه في مقروئه الشّعريّ، ولا يحابي، ويقول رأيه بجرأة ومنتهى الصّراحة.
-تتعلّق الثّانية بأنّ الدّين لا يكون سببا في ضعف الشّعر ولا في لينه، فقد أثبت الأميري عكس ما ترسّب في الذّاكرة من أنّ الشّعر إذا دخل في الخير يضعف ويلين. فالدّين حافز قويّ للإبداع وعامل على تلوين الشّاعريّة وإضفاء الجلال عليها كما بيّن الإبراهيميّ، رحمه الله.
وفي خلاصة هذا المحور فإنّ اعتماد معيار الموضوعيّة والفنّية في النّقد بعيدا عن الذّاتية، والتّعويل على الأعمال الأدبيّة في استصدار الأحكام النّقديّة، وتمكين الأدباء من حريّة التّجريب والإبداع أمور بالغة الأهمية..، وبعد ذلك يأتي النّقد لينظر في هذا الإبداع، وقد كان الإبراهيميّ يعي كلّ ذلك، يقول: "ومن حماية حرّية الأديب أن نتّجه بالنّقد وجهة موضوعيّة فنّية، ونبعد به عن تلك المهاترات التي تتأذّى بها العيون والأسماع والقلوب والعقول، فالنّقد تابع للإبداع، وليس الإبداع عبدا للنّقد."(58)
وكيف يكون النّقد الذّاتيّ متعسّفا..؟ كيف يكون سيفا مسلّطا على رقاب الأدباء...؟ والحقّ أنّ الإبداع مقدّم على النّقد الّذي يأتي في الرّتبة الثّانية، ومعايير النّقد في كلّ الآداب تستنبط وتستخرج من الإبداع ذاته لتوّجه كلّ إبداع يأتي، ولترسم معالم متجدّدة للأدباء النّاشئين القادمين.
ومن غير المستساغ أن تقف معايير النّقد أسوارا في وجه الأديب المجدّد المجرّب والمتجاوز في فنّه، فمن "حقّ الأديب أن تترك له الفرصة الملائمة ليجرّب ويجرّب، فالتّجربة إن أثمرت كانت فتحا جديدا، وإلّا فهي دربة وخبرة تصقل الموهبة، وتكشف حقائق الحياة".(59) كلمات الإبراهيميّ كلمات ناقد عليم بالإبداع الأدبي وما ينبغي أن يكون عليه من حرّية وتجريب، ومتمرّس بالنّقد، مدرك لما ينبغي أن يكون عليه النّقد من تسامح وتجاوز.
الهوامش:
1-عبد الملك بومنجل: النثر الفني عند البشير الإبراهيمي، بيت الحكمة، العلمة، الجزائر، ط:1، جوان2009، ص: 84.
2-المرجع نفسه، ص: 34.
3- أحمد طالب الإبراهيمي: آثار محمد البشير الإبراهيمي، ج: 4، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط: 1، 1997، ص:67
4-المصدر نفسه، ص:68.
5-المصدر نفسه، ص:170.
6- ينظر: عبد الله صالح الوشمي: جهود أبي الحسن الندوي النقدية في الأدب الإسلامي، ص: 60، و: رابح بن خوية: مقالة في الأدب الإسلاميّ، المصطلح والمفهوم، ج: 1، البدر الساطع للطباعة والنشر، ط: 01، 2012، ص: 13، وما بعدها.
7- سيد قطب، في التاريخ.فكرة ومنهاج، دار الشروق، بيروت، ص. 15
8- مأمون فريز جرار: خصائص القصة الإسلامية، ص: 27.
9-مقال (الدّين في شعر شوقي)) كلمة ألقيت نيابة عنه بجمعية الشبان المسلمين بالقاهرة، ونشرت في مجلة الشبان المسلمين عددي مارس وأبريل1955).
10-أحمد طالب الإبراهيمي: آثار محمد البشير الإبراهيمي، ج:5، ص: 201.
11- المصدر السابق نفسه، ج:5، ص:201.
12- المصدر نفسه، ج:5، ص: 202.
13- المصدر نفسه، ج:5، ص:202.
14- المصدر السابق نفسه، ج:5، ص:202.
15- المصدر نفسه، ج: 5، ص: 203.
16- المصدر نفسه، ج:5، ص: 204.
17- المصدر السابق نفسه، ج:5، ص:204.
18- المصدر السابق نفسه، ج:5، ص:205
19- المصدر السابق نفسه، ج:5، ص:205
20- المصدر نفسه، ص: 206.
21- المصدر نفسه، الصفحة نفسها
22- المصدر السابق نفسه، ص:206
23- المصدر السابق نفسه، ص: 207.
24- المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
25- المصدر السابق نفسه، ص:207
26- المصدر السابق نفسه، ص: 208.
27- المصدر نفسه، ص:229
28- المصدر نفسه، ج:3، ص:502
29- المصدر نفسه، ج:5، ص:209.
30- المصدر السابق نفسه، ج:1، ص:106
31- المصدر نفسه، ج:5، ص:226
32- المصدر السابق نفسه، ج:5، ص:227.
33- المصدر نفسه، ج:5، ص:228
34- المصدر نفسه، ج:5، ص:228
35- المصدر السابق نفسه، ج: 5، ص:228.
36- المصدر نفسه، ج:5، ص:228
37- المصدر نفسه، ج:5، ص:229.
38 -وليد إبراهيم قصاب: من قضايا الأدب الإسلامي، دار الفكر، دمشق، ط:1، 1429هـ-2008م، ص:26 وما بعدها.
39 -الآثار، ج:1، ص:228.
40 -الآثار، ج:1، ص:228.
41 -الآثار، ج:1، ص:228.
42 -الآثار، ج:1، ص: 229.
43 -الآثار، ج: 4، ص: 159.
44 -الآثار، ج: 4، ص: 159.
45 -الآثار، ج: 4، ص: 159.
46 -الآثار، ج: 4، ص: 160.
47 -الآثار، ج: 4، ص:160.
48 -الآثار، ج: 4، ص:83.
49 -الآثار، ج: 4، ص:83.
50 -الآثار، ج: 4، ص:85.
51 - الآثار، ج: 4، ص:85.
52 - الآثار، ج: 4، ص:83.
53- الآثار، ج: 4، ص:86.[16]
54 - الآثار، ج: 4، ص:85.
55 - ابن قتيبة: الشعر والشعراء، ص: 104.
56 - الآثار، ج: 4، ص:85.
57 - الآثار، ج: 4، ص:86.
58 -الآثار، ج: 5، ص:213.
59 -الآثار، ج: 5، ص:213.