جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
بقلم: بسام العسلي-
ومضت الأيام والشهور والسنين، بعضها آخذ برقاب بعض، والشيخ عبد الحميد بن باديس يخوض معركة المصير على كافة الجبهات، وفي كل الميادين، من صراع ضد السلطات الاستعمارية وأعوانها إلى صراع ضد الانحرافات المذهبية، ومن معركة للرد على أعداء الدين في الخارج إلى معركة أخرى ضد ظواهر الضعف والتمزق في المجتمع الجزائري المسلم، كل ذلك والحرب مستمرة على أشدها بين الطرقية التي انتقلت من مواقع الهجوم إلى مواقع الدفاع في محاولة للدفاع عن وجودها ومصالحها، غير مدركة في الحقيقة أين تكمن مصلحتها الحقيقية بعد أن أفسدها الاستعمار. وكان هذا التحول برهانا أكيدا على انتصار حركة الإصلاح الإسلامي التي كان يقودها بعزم رائع وإرادة صلبة، وايمان عميق وحجة دامغة وعلم غزير، الشيخ المجاهد عبد الحميد بن باديس، ومن وقف إلى جانبه في ساعة العسرة من المؤمنين الصادقين أمثال: العالم الجليل مبارك الميلي والشيخ الطيب العقبي والشيخ البشير الإبراهيمي والشيخ العربي التبسي والشيخ أحمد توفيق المدني وسواهم. وكانت هذه الحركة تدعو في مجموعها إلى أفكار المصلح الإسلامي الأكبر، شيخ الإسلام (ابن تيمية). واتخذت (مجلة الشهاب) شعارا لها قول الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه -: (لا يصلح أمر آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها).
اكتسبت الحركة الإصلاحية الإسلامية قدرتها وقوتها من خلال الصراع المستمر، ومن خلال تجاوزها للتحديات المتتالية، وعبر تحركها اليقظ والحذر على طريق التقدم والتطور. وهكذا فما أن مضت فترة عشرين سنة تقريبا حتى أصبحت جذور الحركة عميقة، وأصبح لها قاعدتها الصلبة وبات بالمستطاع الانتقال من التحرك الفردي إلى التحرك الجماعي المتكامل، ومن العمل السري - إذا صح التعبير - إلى العمل العلني، ومن الجهد غير المنظم إلى الجهد المنظم. وكان من نتيجة ذلك أن تداعى المخلصون المؤمنون لتدارس الموقف، فتقرر توجيه دعوة للعلماء من أجل الاجتماع في نادي (الترقي) لتحقيق هدف محدد وواضح تضمنته بطاقة الدعوة وفيها: (جمع العلماء من كل الطوائف ومن كل المذاهب الموجودة بالجزائر حتى تمثل وحدة وطنية صميمة. ومعالجة ما تجابهه البلاد من تصادم بين الفكرتين الأساسيتين وهما: الإصلاح والطرقية. فكما أن رجال الإصلاح الإسلامي يكونون ولا ريب في طليعة هؤلاء العلماء، إلا أنه يجب أن يكون ضمن العلماء أيضا رجال من الطرقية. فداخل هذه البوتقة الصالحة يجب أن ينصهر الجميع، ويخرج منها الشعب الجزائري الأصيل، شابا، صالحا، عملاقا ... إن الواجب يقضي بإقامة
من أعضاء المجلس الأول لجمعية العلماء المسلمين الجزارين الشيوخ:
1 - عبد الحميد بن باديس
2 - محمد البشير الإبراهيمي
3 - مبارك الميلي
4 - العربي التبسي
5 - إبراهيم أبو اليقظان
6 - الأمين العمودي
7 - يحيى حمودي
8 - محمد خير الدين
9 - الطيب العقبي
10 - السعيد الزاهري
جمعية للعلماء المسلمين الجزائرين واجبها معالجة حالة المجتمع الإسلامي المهلهل في الجزائر، والذي لا تقوم قائمة البلاد إلا بإصلاحه على أسس مطهرة، مع احترام كل المذاهب وصيانة كل المبادىء التي تعارض الإسلام).
لقيت الدعوة استجابة قوية وعميقة من قبل العلماء وجماهير المسلمين على السواء، كان ذلك في منتصف عام 1931، (وكانت أيام حياة جديدة، مشرقة، باسمة، تنتظر حادثا هو أسعد حوادث الجزائر وأكثرها نورا وإشراقا وسط الأعاصير والأهوال. وكان الأمر الرائع حقا هو أنه لم يدخل أي واحد من العلماء أو المدعوين أي اعتبار لرد فعل الحكومة. لقد تجاهلت فرنسا الجزائريين لمدة مائة عام - ولم تتذكرهم إلا بالسوء - فماذا لو تجاهلوها بدورهم، ولتفعل بعد ذلك ما تشاء) (1).
اتخذ العلماء المجاهدون كافة الترتيبات لنجاح انطلاقة الجمعية في مراحلها الأولى: (فالطريق وعرة المسالك مزلقة، فإذا ما أصاب المشروع عطب في الطريق، تكون الأمة تد أصيبت بنكسة شديدة، ربما فقدت معها أملها) وعلى هذا الأساس وجهت الدعوة إلى (120) عالما من علماء الجزائر الذين اشتهروا باستقامتهم وإخلاصهم لعقيدتهم، ونقاء سيرتهم. ووافق (109) منهم على المشروع. وحدد موعد الاجتماع، ومكانه (نادي الترقي)؛ وانصرف ابن باديس والإبراهيمي والميلي والمدني لإعداد قائمة أعضاء المجلس الإداري.
وعندما عرضت رئاسة المجلس على الشيخ ابن باديس، امتنع عن قبولها لأسباب خاصة. منها وجود والده وإخوته كموظفين في الإدارة الإفرنسية - غير أن إلحاح العلماء وإصرارهم على مبايعته حمله على قبول هذه الرئاسة. وجاء يوم الاجتماع، وكان يوم عيد لم تشهد الجزائر قبله عيدا لها منذ قرن من الزمن. كانت الأرواح طاهرة، والنفوس مطمئنة مؤمنة، والقلوب مفعمة بحب الخير والإصلاح. وكان الجو جو ثورة عارمة: تقوم اليوم على الإصلاح، وتقوم غدا لا محالة على السلاح.
(ووقف - عبد الحميد بن باديس - عظيما، هائلا، شامخا كالطود الأشم، وقد هيمن بشخصيته الفذة وبساطته المثالية وتواضعه الجم، على ذلك الاجتماع، وقد أعجب به خصمه كما أعجب به أصحابه ومريدوه. وما هي إلا جولة من الأحاديث البسيطة والخطب الهادفة والمركزة، حتى جاء دور انتخاب الهيئة الإدارية التي صادق عليها كبار العلماء. ففازت بإجماع الحاضرين. وتمت المصادقة على القانون الأساسي بإجماع مماثل. وأصح ابن باديس رئيسا لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين).
هكذا نشأت (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين). ولم تعرف الحكومة الإفرنسية كيف تجابه هذا الموقف الجديد، واكتفت في البداية بالإشارة إلى الحدث؛ فكتب (جون وكشان) في مجلة (فرنتيار) الباريسية يقول تعليقا على جمعية العلماء ومساعيها، بعد أن تكلم عن شخصيات ابن باديس والعقبي والإبراهيمي، ما يلي: (إن هؤلاء الثلاثة قد تعلموا بالشرق، فابن باديس بتونس، والعقبي بالقاهرة ومكة، والإبراهيمي بتونس ودشق، وتشبعوا جميعا بفلسفة الوحدة الإسلامية فكانوا من أقطابها. إنما علينا أن نضيف إليهم الشيخ أحمد توفيق المدني - أحد قدماء الزعماء الدستوريين المليين والذي هو على علاقة متينة جدا مع الأمير الشهير شكيب أرسلان زعيم جماعة السوريين والفلسطينيين، وعدو فرنسا الألد).
وكتب (شارل روبيرا) (2): (تأسست جمعية للعلماء المصلحين منذ سنة 1931، وضمت ثلاثة عشر عالما، من بينهم مبارك الميلي وتوفيق المدني، وهما أول من ألف في التاريخ الوطني الجزائري باللغة العربية. وهكذا ولدت الملية الجزائرية. فكتاب التاريخ الوطني الذي ألفه الشيخ المدني، وهو كتاب (الجزائر - 1931 -) الذي طبع على نفقة الأمة الجزائرية. كان كتابا يحمل على غلافه شعار جمعية العلماء، الإسلام ديننا، الجزائر وطننا، العربية لغتنا. وخلقت في الجزائر كلمات تحمل معاني جديدة في اللغة العربية، مثل كلمة وطن وكلمة الشعب وكلمة الأمة الجزائرية. وهذه الملية الجزائرية الجديدة مثلها كمثل كل الحركات الملية في بلاد الشرق الأدنى، متصلة اتصالا وثيقا بالحركة العربية الإسلامية التي انطلقت من مؤتمر القدس الأول الذي عقد سنة 1931).
لم تقف الإدارة الإفرنسية في الجزائر مكتوفة اليدين أمام هذا التحول، فأخذت - على عادتها - في الدس لجمعية العلماء المسلمين والكيد لها. وجاءتها فرصة مؤاتية عندما تصدى الشيخ الطيب العقبي - في درس من دروسه الأسبوعية - للهجوم على الطرق والطرقيين. وكان القاسمي والشيخ بن عليوه وهما من كبار مشايخ الطرق حاضرين، فانسحبا. وانفصل شيوخ الطرق عن الجمعية وأخذوا في العمل لتأليف جمعية (علماء السنة). واغتنمت الإدارة الاستعمارية تلك الفرصة، فعملت على مساعدة الجماعة على تنظيم جمعيتهم، وأعانتهم بواسطة رجالها على بث دعاياتهم، وما فتئت الحرب القلمية أن أعلنت شديدة قاسية بين الطرفين. تمثل جماعة العلماء فيها جريدة (المرصاد) التي كان يحررها محمد عبابسة. وتمثل جماعة المرابطين ورجال الطرق جريدتهم المعروفة (البلاغ الجزائري). وارتاحت الإدارة الإفرنسية إلى أنها تمكنت بهذه الوسيلة من خلق انشقاق خطير سيأتي على جمعية العلماء. غير أن الطبقة الواعية في (جماعة العلماء) تمكنت من (رأب الصدع) وإيقاف المهاترات و (الحرب الكلامية) ومضت على طريق العمل والبناء.
جاء تأسيس (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) ليضع حدا فاصلا وحاسما بين ماضي الجزائر، وهي تحت النير الاستعماري، وبين حاضرها الذي أشرق زاهيا في ميدان النهضة الإسلامية -العربية. ولقد كان ذلك الحاضر الجديد هو الأساس الراسخ المتين الذي بني عليه المستقبل، مستقبل الجزائر تحت راية الحرية والاستقلال، وبسيل من دماء المجاهدين الأبرار وقوافل الشهداء الأخيار.
كان تأسيس جمعية العلماء حدثا تاريخيا لأنه عمل على تنظيم تيار جارب أمكن له تغيير أوضاع الجزائر دينيا وعلميا وأخلاقيا واجتماعيا. وكانت تبث في كل وسط وفي كل مكان، روح الإيمان الخالص والوطنية الحقة وأخلاق الفضيلة والرجولة الكاملة. فتبعث في نفس المسلم الجزائري كل ما حفل به الإسلام من فضائل معنوية تدفع إلى العزة بالله والقوة بالاعتصام بدينه الحق. وانتهت، بتأثير جمعية العلماء، كل نظريات الاستعمار بشأن التجنس ونبذ الدين وأحكامه مقابل الحصول على حقوق وهمية. وانقاد النواب السياسيون - طوعا أو كرها - إلى ما أصبح يطلق عليه شعار (الحصول على الحقوق الإفرنسية، دون التنازل عن الحالة الشخصية الإسلامية).
وتحول هؤلاء النواب السياسيون، فبعد أن كانوا حتى الأمس من دعاة التجنس بالجنسية الإفرنسية - التفرنس - باتوا اليوم وهم يرفعون مطالبهم الفردية والجماعية باستقلال الدين الإسلامي عن الحكومة. وبإدخال اللغة العربية بصفة إلزامية - إجبارية - ضمن المناهج الدراسية. وتعاظم الوعي الديني في أوساط الجماهير. وأحبطت أساليب الطرقية وبدعها وأساطيرها. واتجه التيار الإسلامي نحو فهم الدين فهما حقيقيا بالعودة إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وظهرت في الجزائر من جديد الأخوة الحقيقية التي تربط المسلم بأخيه المسلم. وتوثقت عرى أخوة الإصلاح الإسلامي الذي شاركت فيه كل العناصر، واعتنقته كل الطبقات في كل الحواضر والبوادي.
***
جانب من قاعة النادي أثناء اجتماع العلماء المسلمين في الجلسة الأولى:
1 - مبارك الميلي
2 - عبد القادر بن زيان
3 - العربي التبسي
4 - الأمين العمودي
5 - عبد الحميد بن باديس
6 - الطيب العقبي
7 - محمد سعيد آيت جر
8 - محمد خير الدين
9 - السعيد الزاهري
10 - يحيى حمودي
11 - عبد اللطيف سلطاني
12 - الجيلالي الفارسي
بات من المحال فصل الدين عن السياسة. فالمطالب السياسية تعبير عن تطلعات الجماهير. والجماهير تعتمد في قاعدتها على العقيدة الإسلامية وعلى العروبة، والسلطة الإفرنسية تلقي بكل ثقلها لمحاربة الإسلام والعروبة. وكان لا بد في النهاية من حدوث الصدام الذي تم التعبير عنه باسقالة (950) نائبا جزائريا مسلما بصورة إجماعية من كل المجالس البلدية والمالية والنيابية التي يشغلونها، ووقف الاستعماريون الإفرنسيون لمواجهة التيار وشعارهم: (إن كل ما يناله المسلم الجزائري ينتقص من حقنا. فالجزائري محكوم. وعليه أن يطيع النظام).
وعلى أثر ذلك، جاء وزير الداخلية الإفرنسي - رينيه - لزيارة الجزائر (3). وضرب المستوطنون والإدارة الإفرنسية نطاقا حوله، فلم يسمحوا له الاتصال بممثلي الجزائر، وأوهموه أن الجزائر تسير على طريق الثورة. فطرح مقولته: (الأمن قبل كل شيء). وعاد إلى فرنسا بعد أن أصدر قانونا زاجرا يستطيع أن يلهب جلد كل مجاهد جزائري، مهما كان لونه، بسوط من حديد. وأخذت وطأة الإرهاب تتزايد ثقلا وشدة، وأخذ العنف يزداد غلوا كلما أمعن المسلمون في الشكاية. وجاءت سنة 1936، ونجح في الانتخابات الإفرنسية تكتل الشمال الذي ضم الراديكاليين والشيوعيين والاشتراكيين. وتشكلت (حكومة الجبهة الشعبية) برئاسة (ليون بلوم).
قابل المسلمون ذلك بحركة شعبية واسعة، وعقدوا مجموعة من اللقاءات والاجتماعات انتهت باتخاذ قرار لعقد مؤتمر عام لأول مرة في تاريخ الجزائر، يضم النواب كافة والشيوعيين ومناضليهم والمسلمين ومجاهديهم وجماعة من العلماء باسمهم الخاص، لا بصفتهم أعضاء بجمعية العلماء. وتبنى النواب أمام هذا الإجماع الرابع مطالب (جمعية العلماء). واجتمع المؤتمر يوم 7 حزيران - يونيو - 1936. وتقرر بالإجماع إسناد الرئاسة للشيخ - عبد الحميد ابن باديس - احتماء بمركزه الديني وقيمته العلمية وسمعته العالمية. ثم طرحت المشاريع، واتفق الجميع على أن تكون المطاب كالتالي:
1 - إلغاء كل القوانين والقرارات الاستثنائية بالجزائر.
2 - إلغاء الولاية العامة للجزائر، وأن تكون الجزائر تابعة لفرنسا مباشرة.
3 - أن تكون الهيئة الانتخابية بالجزائر واحدة، يشترك فيها المسلمون والأوروبيون، (وبذلك تكون النسبة الكبرى للمسلمين وفقا لعددهم).
4 - أن يكون للمسلمين الجزائريين نوابهم الذين يمثلونهم بالبرلمان الإفرنسي - بباريس.
5 - أن يكون الجزائريون فرنسيين بصفة تامة، مع بقائهم متمتعين بالحقوق الشخصية الإسلامية.
6 - الإستقلال التام للدين الإسلامي، كاستقلال الأديان الأخرى، والإنفاق عليه من أموال الأوقاف المسترجعة التي
اغتصبتها فرنسا منذ أوائل عهد الاحتلال.
7 - اعتبار اللغة العربية لغة دراسة بالمدارس الجزائرية. كما تقرر إرسال وفد كبير لباريس. يتدارس مع حكومتها هذه المطالب، وفي الوفد رجال الشعب من علماء ونواب ومفكرين، برئاسة عبد الحميد بن باديس.
الهوامش:
(1) حياة كفاح أحمد توفيق المدني - 2/ 175 و178 - 182 و186 - 188.
(2) histoire de l'algérie contemporaine(CH, Robert ageron) que sais je ? no 400 p. 88
(3) جرت هذه الزيارة في صيف سنة 1935.