الطريق إلى جمعية العلماء
بقلم: أ.د. مولود عويمر-
تأسست جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في يوم 5 ماي 1931 بنادي الترقي بالجزائر بعد محاولات عديدة لتوحيد العلماء الجزائريين وتنظيم نشاطهم الإصلاحي. فهذا الاجتماع العام كان تتويجا لجهود دامت قرابة عشرين سنة من المبادرات التي سعت إلى تأسيس هيئة علمية مستقلة عن الإدارة الفرنسية، تهتم بالشأن الديني والاجتماعي والثقافي للشعب الجزائري. وسوف نتطرق في هذا المقال لأبرز هذه المحاولات التي تعثرت مرارا لكنها مدت في كل مرة المشعل للمبادرات المتلاحقة حتى تحقق الحلم في عام 1931.
أسمار في المدينة المنوّرة (1913)
في عام 1913 زار ابن باديس الحجاز لأداء فريضة الحج، والتقى في هذه الرحلة بالشيخ الإبراهيمي الذي كان يومئذ مقيما في المدينة بعد هجرته من الجزائر في عام 1911. وطرحت في هذه اللقاءات فكرة العمل الإصلاحي الجماعي في الجزائر كما توضحه هذه الشهادة للشيخ الإبراهيمي: «كنا نؤدي فريضة العِشاء الأخيرة كل ليلة في المسجد النبوي ونخرج إلى منزلي فنسمر مع الشيخ ابن باديس منفردين إلى آخر الليل حين يفتح المسجد فندخل مع أول داخل لصلاة الصبح، ثم نفترق إلى الليلة الثانية، إلى نهاية ثلاثة الأشهر التي أقامها الشيخ بالمدينة المنورة. كانت هذه الأسمار المتواصلة كلها تدبيرا للوسائل التي تنهض بها الجزائر، ووضع البرامج المفصلة لتلك النهضات الشاملة التي كانت كلها صورا ذهنية تتراءى في مخيلتنا، وصحبها من حسن النية وتوفيق الله ما حققها في الخارج بعد بضع عشرة سنة، وأشهد الله على أن تلك الليالي من سنة 1913 ميلادية هي التي وضعت فيها الأسس الأولى لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي لم تبرز للوجود إلا في سنة 1931.«
وافترقا الرجلان بعد ذلك، فعاد ابن باديس إلى الجزائر وتفرغ لعمله الإصلاحي بينما بقي الإبراهيمي في المدينة المنورة ثم هاجر إلى الشام واستقر في دمشق مدرسا ومصلحا إلى غاية 1920 ثم عاد إلى الجزائر، واستقر بمسقط رأسه بسطيف وتفرغ للتعليم والدعوة والإرشاد. واجتمعا من جديد وتواصلا خلال عشر سنوات بدون انقطاع وتبادلا الزيارات ووضعا معا برنامجا تعليميا تربويا طموحا يهدف إلى تربية النشء على "فكرة صحيحة ولو مع علم قليل".
جمعية الإخاء العلمي (1924)
ازداد عدد الطلبة الجزائريين الذين تخرجوا من الجامعات الاسلامية المعروفة آنذاك كالزيتونة والقرويين والأزهر. ورجع غالبيتهم للجزائر وانضموا إلى الحركة الإصلاحية القائمة سواء في ميدان التعليم العربي الحر أو في مجال الصحافة العربية.
وشكلت هذه النخبة ديناميكية علمية تحتاج فقط إلى توحيد جهودها حتى تكون نتائجها مضاعفة وأعمالها مؤثرة. وظهرت في هذا السياق مبادرات عديدة للاتحاد والتكتل بأشكال مختلفة، فقد نادى الشيخ إبراهيم أبو اليقظان إلى فتح فرع في الجزائر لجمعية الشبان المسلمين التي ظهرت في مصر، ونشر الشيخ محمد الهادي السنوسي موسوعته الأدبية: "شعراء الجزائر في العصر الحاضر"، وصدرت جرائد عربية عديدة التفت حولها أبرز الأقلام الجزائرية في تلك الفترة.
أما الشيخ ابن باديس وصديقه الشيخ الإبراهيمي فإنهما فكرا في عام 1924 في إنشاء جمعية تجمع كل علماء الشرق الجزائري ويكون مركزها في قسنطينة. وتكفل الشيخ الإبراهيمي بوضع قانونها الأساسي بناء على خبرته التي اكتسبها خلال إقامته في المشرق العربي واتصاله بالجمعيات العلمية والدينية في الشام والحجاز.
وتمت مناقشته من طرف بعض علماء منطقة الشرق الجزائري والموافقة عليه إلا أن هذا المشروع لم يقدم للإدارة الفرنسية للحصول على الاعتماد الرسمي بسبب عدم توفر في تلك الفترة الشروط الملائمة لانطلاق هذا التنظيم الإصلاحي الرائد، لكن قصة جمعية العلماء الجزائريين لا تنته هنا.
مدرسة "الشهاب" (1925)
تعبر "الشهاب" من أبرز الجرائد التي ظهرت في العشرينيات، أصدرها ابن باديس بقسنطينة في عام 1925. ونجحت في استقطاب أبرز الأقلام في الجزائر وخارجها خاصة بعدما تحولت إلى مجلة شهرية في عام 1929. وأصبح كُتابها الجزائريون يشكلون مدرسة فكرية رائدة صارت اللبنة الصلبة لجمعية العلماء فيما بعد "وفق طرائق تعبير مختلفة، فكان بينهم العقائدي الرصين والخطيب المصقع والسجالي المتحمس والشاعر الملتزم والصحافي" كما وصفهم البحاثة الدكتور علي مراد.
وأرادت "الشهاب" أن تستثمر هذا الاتصال العلمي والتبادل الفكري بين هذه المواهب عبر صفحاتها فنادت إلى تأسيس هيئة توحّد هؤلاء الكُتاب وتجمعهم على أرض الواقع في فضاء أطلقت عليه إسم "الحزب الديني". ونشرت "الشهاب" نداء يشرح هذه الفكرة ويدعو إلى العمل من أجل تجسيد هذا المشروع الطموح: «أيها السادة العلماء المصلحون المنتشرون بالقطر الجزائري، إن التعارف أساس التآلف، والإتحاد شرط النجاح، فهلموا إلى تحقيق هذا الهدف بتأسيس حزب ديني محض، غايته تطهير الدين مما ألصقه به الجاهلون من الخرافات والأوهام والرجوع به إلى أصلي الكتاب والسُّنة، وما كان عليه في الحقب الأخيرة». وطلبت هذه الجريدة كل من يوافق على مضمون الدعوة أن يرسل إليها مقترحات عملية مكتوبة.
لقي هذا النداء القبول عند العلماء الجزائريين، وتسلمت الجريدة رسائل ومقترحات، وكان أشملها ما كتبه الشيخ المولود الحافظي الذي رأى أن التآلف لن يتم إلا إذا شمل كل العلماء الجزائريين من كل المذاهب، ووضع قانون أساسي للحزب الديني الاصلاحي لا يتصادم مع الهيئات الجزائرية الأخرى، والاعتماد في تمويله على الزكاة والإحسان الخاص والعام، وتأسيس مكتب إداري مركزي له مع فتح فروع عبر القطر الجزائري، وإنشاء مدارس ابتدائية لتعليم الأطفال باللغتين العربية والفرنسية، والاهتمام بالدعوة والإرشاد ونشر الجرائد والمجلات وإلقاء المحاضرات، والابتعاد عن السياسة حتى لا تعرقل نشاطاتها الاجتماعية والتربوية، والسعي للحصول على جميع الحقوق التي يعترف بها القانون للجمعيات الدينية المسيحية واليهودية. ورغم الحماس الفياض وصدق النيات عند هؤلاء المبادرين إلا أن المشروع لم يرى أيضا النور.
اجتماع الرواد في قسنطينة (1928)
لم يستسلم الشيخ ابن باديس بعد فشل المشروع السابق، بل فكّر في إنشاء جمعية تقتصر على إقليم قسنطينة بعدما تأكدت له إستحالة إنشاء جمعية في تلك الفترة تشمل كل علماء القطر الجزائري، فنظم إجتماعا خاصا لهذا الغرض في مكتبه بنهج الأربعين شريف بقسنطينة، حضره العلماء المقربون منه كالشيخ محمد البشير الإبراهيمي، والشيخ مبارك الميلي، والشيخ الطيب العقبي، والشيخ العربي التبسي، والشيخ محمد السعيد الزاهري والشيخ محمد خير الدين...
وبعد خطاب طويل حول الوضع العام الخطير الذي تعيشه البلاد، وبعد تعبير كل الحاضرين على استعدادهم للتضحية في سبيل الوطن والدين، اتفق الجميع على خطة العمل التي تتمثل في المواصلة في تأسيس المدارس الحرة لتعليم اللغة العربية والتربية الإسلامية، وتبليغ الدعوة الإصلاحية عبر القطر الجزائري، والالتزام بالكتابة في الصحافة لنشر الوعي بين الشعب، وفتح النوادي للاجتماعات ونشر الثقافة والعلم من خلال المحاضرات والدروس، وإنشاء فرق الكشافة الإسلامية لتأطير الشباب الجزائري. وكلف كل واحد منهم بالإشراف على هذه الأعمال في منطقته وما جاورها من المدن والقرى.
وهكذا عمت الأفكار الإصلاحية الصحافة العربية التي كانت تصدر بين 1928 و 1930، وقامت مبادرات عديدة لتفعيل النشاط الإصلاحي والتقريب بين رجاله، والدعوة إلى مضاعفة الجهد والإسراع في تكتل الطاقات خاصة بعد الاحتفالات المستفزة التي نظمتها السلطة الاستعمارية في عام 1930 بمناسبة الذكرى المئوية لاحتلال الجزائر.
الاجتماع الحاسم في نادي الترقي (1931)
وكان من هذه المبادرات الجادة: مبادرة جماعة نادي الترقي التي كانت تضم الشخصيات العلمية وأعيان مدينة الجزائر. وقد فكر هؤلاء في وضع هذا النادي الواقع في قلب الجزائر وإمكاناته في خدمة جمعية توحّد صفوف العلماء الجزائريين. وتشكلت لجنة من 4 أفراد لتجسيد هذه الفكرة، وهم: الفقيه الشيخ محمد العاصمي والشاعر محمد عبابسة والتاجر عمر اسماعيل والكاتب المناضل أحمد توفيق المدني. وتبرع رئيسها السيد إسماعيل بمبلغ قدره 1000 دينار. ونشر الخبر في العديد من الجرائد العربية الصادرة في الجزائر.
وبارك العلماء الجزائريون هذه المبادرة فتشجعت لجنة العمل الدائمة على الاقدام في مشروعها وتنظيم المؤتمر التأسيسي للجمعية بالتنسيق مع الشيخ ابن باديس الذي كان يصول ويجول في البلاد يشرح الفكرة الإصلاحية، ويحث الناس على الايمان برسالتها، ويدعو إلى الإتحاد بين أنصارها.
واتصلت اللجنة بـ 120 شخصية علمية معروفة عبر القطر الجزائري. وكانت رسائل الدعوة قد كتبها الأستاذ أحمد توفيق المدني وأمضاها السيد عمر إسماعيل. ووافق أكثر من 100 عالم على المشاركة في الاجتماع العام في نادي الترقي في الموعد المحدد بـ 5 ماي 1931.
وحرص المنظمون لهذا المؤتمر التأسيسي على ابراز الوجه المعتدل للجمعية الجديدة للحصول على الترخيص والاعتماد من الإدارة الفرنسية. وحضر الجلسة الافتتاحية بعض المسؤولين الفرنسيين الرسميين كما تم اختيار شخصيتين معروفتين بثقافتهما المزدوجة العربية والفرنسية للإشراف على أشغاله وهما: الشيخ أبو يعلى الزواوي رئيسا ومحمد الأمين العمودي مقررا. كما أن قانونها الأساسي يقدمها جمعية "إرشادية تهذيبية"، غايتها محاربة الآفات الاجتماعية والامتناع عن المحرمات الشرعية وترك المنكرات العقلية واحترام القوانين الجارية، والابتعاد عن النشاطات السياسية، غير أن الممارسة على أرض الواقع تجاوزت دائما هذا القانون الأساسي وتحررت من قيوده.
وبعد أربعة أيام من الأشغال، انتخب المؤتمرون مجلسا إداريا برئاسة الشيخ ابن باديس وعضوية نخبة من العلماء الجزائريين من مختلف التيارات، لكن أغلب المناصب الهامة عادت للمنتمين لمدرسة "الشهاب" والذين حضروا إجتماع الرواد في عام 1928 بقسنطينة، وهم سيوجهون مسار الجمعية مسلكا مختلفا يتعارض باستمرار مع مصالح الإدارة الاستعمارية وأعوانها والمؤيدين لسياستها.
لقد نجحت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في أداء رسالتها ووقفت دائما صامدة في وجه العواصف، ولا يعلم إلا الله إلى أين تتجه الجزائر وتصل تأثيرات الاستعمار لو أنها تأخرت عشر سنوات عن ظهورها!