الشيخ مبارك بن محمد الميلي
بقلم: بسام العسلي-
كتب عنه صديق له: (إنه الرجل المثالي، الحر الأبي، الذي وضع حياته كلها منذ رجع من الزيتونة عالما جليلا في خدمة دينه وشعبه، مدرسا ومحاضرا ومفكرا عميقا ومرشدا نصوحا. كان نحلة منتجة، لا تراها إلا ساعيه وراء رحيق زهرة، أو واضعة مع جماعتها عسلا شهيا).ذلك هو مبارك بن محمد الميلي - الذي ولد في قرية (الميليه) وليس في مدينة (ميلة) التي حل فيها بعد ذلك وجعلها ميدان جهاده.
وكانت ولادته سنة 1316 هـ (1898 م). وأتم دراسته الابتدائية على يد شيخه ومربيه العالم الشيخ محمد الميلي. ثم انتقل إلى قسنطينة حيث تتلمذ على يد الشيخ ابن باديس الذي أنس في تلميذه الذكاء والفضيلة، فوجهه في السنة ذاتها (1338 هـ = 1919م) للدراسة في جامعة الزيتونة. حيث أمضى في تونس أربع سنوات ليعود في سنة 1341 هـ = 1922 م إلى قسنطينة وقد توافر له قدر كبير من العلم والمعرفة. واستعان به شيخه عبد الحميد بن باديس للتدريس في معهده شهورا. ولما رأى طموحه ونبوغه وعلمه، أيقن أنه لا يليق معينا له، بل يكون قاعدة للإصلاح والنهضة، وسدادا لثغر مهم في ناحية مهمة في الجزائر. ولما طلبه الأغواطيون، حثه الشيخ عبد الحميد على الذهاب إليهم وقيادة نهضتهم الناشئة، وإصلاح النفوس في الأغواط المتعطشة للنور. وزار الشيخ مبارك الأغواط، فأعجب بها وبأهلها، فانتقل إليها في أواخر سنة 1342 هـ - 1923 م.
مضى الشيخ مبارك يضرب في كل ميدان من ميادين الجهاد، يمضي معظم وقته (عشر ساعات يوميا) في تدريس تلاميذه الذين زاد عددهم على سبعين تلميذا - فيهم ست فتيالت - لينصرف بعد ذلك إلى (الجامع العتيق) في الأغواط للالتقاء - بعد صلاة العشاء - بالشبيبة والرجال الراغبين في تلقي الإسلام من مورده الصافي ومصدره العذب. وليتردد بعد ذلك مرة في الشهر على الأقل لزيارة (مدينة بوسعاده) وإلقاء محاضراته التوجيهية الهادفة فيها. ولينتقل أيضا إلى (مدينة الجلفة) مرة في الشهر للهدف ذاته. ولينتقي من بين تلاميذه من يتوسم فيهم الخير والفضيلة فيوجههم إلى (قسنطينة) و (جامعة الزيتونة بتونس) فشكل بذلك جهازا للاضطلاع بنهضة الأغواط - الضاربة في عمق الصحراء - وليعمل أثناء ذلك كله على الاختلاط بجماهير الشعب، يوجههم نحو الدين القويم، ويفضح أساليب الاستعمار ووسائله المضادة للعرب المسلمين، وليحارب الطرقية وبدعها وانحرافاتها، مقتديا بذلك سيرة أستاذه ابن باديس. وهاله أمر ما كانت تطرحه الدوائر الاستعمارية من أن (أهل البلاد ينتمون إلى الشعوب الغربية في أصولها ويلتقون بعد ذلك مع الإفرنسيين والرومان بأكثر من التقائهم مع العرب المسلمين). فمضى ليدحض هذه المقولة وأمثالها، وأفاد من كل فرصة تتاح له لوضع كتابه (تاريخ الجزائر في القديم والحديث) محددا هدفه من ذلك بقوله: (إني شديد الشعور بالمسؤولية، ولكنني شديد العراقيل كثيرها، شديد الحاجة إلى المعين، عديمه. ففي التحرير، أجد عراقيل قلة المواد وبعد أسلوبها عن نظامي واختلاط مواضيعها بالنظر إلى أسلوبي،
وأعلم كثرة الكتب الإفرنسية وحسن نظامها، ولا أجد من يعرب لي منها. وحاجتي إلى كتب الإفرنسية من حيث المادة والنظام، ومن حيث الاطلاع على مقاصدهم نحونا للتعريض بردهم في كتابتنا).
ويكتب إلى صديق له: (أكاتبك اليوم فيما يهم عملنا، ولكنني أقتصر الآن على التنبيه لكتاب حماد أو ابن حماد، لتعريب فصول من كتاب - كاريت - تحت يدي ترجمة فهرست كتاب كاريت - وقد أعدت النظر فيها، فظهر لي إني أحتاج اليوم من أبوابها (الباب الرابع من الكتاب الأول. والأبواب السادس والسابع والتاسع من الكتاب الثالث). وقد التزمت في هذا الجزء وضع باب لبيان قبائل بني هلال وغيرهم من العرب، في أنسابهم ومراكزهم وحياتهم وعلاقتهم بالبربر. ووضع باب آخر لتفصيل قبائل البربر بعد هجوم الهلاليين. فما تجده في كتاب - كاريت - يعين على هذا فترجمه لي).
ولم يعدم الشيخ مبارك على كل حال من يقدم له العون لإنجاز مشروعه العظيم، سواء من أبناء الأغواط الذين كان عدد كبير منهم قد تعلم الإفرنسية وأتقنها، أو من خارج الأغواط - وبصورة خاصة الشيخ أحمد توفيق المدني - الذي قدم للشيخ مبارك كل جهد مستطاع، حتى تم إخراج هذا المشروع للنور.
...
وكان الشيخ مبارك يشرح في دروسه، أمراض المجتمع، فيبين آفاتها وويلاتها على أصحابها. ويهاجم الإلحاد الذي تبثه
المدارس الاستعمارية والأحزاب السياسية المنحرفة، ويهاجم البدع التي ألصقت بالدين فقتلت المسلمين، ويهاجم ضلالات الطرقيين الضالين، مثل (زردات القبور) (1) وحفلات مواليد المشايخ الطرقيين، واعتقاد العامة في الشيخ وطريقته بما ينافي الدين، وغير ذلك من المفاسد الخلقية. وكانت لدروس الشيخ مبارك نتائجها العظيمة. فشاعت الثقافة، وانتشرت اللغة العربية وآدابها بين الأغواطيين. وأقبلوا على الدين - وكان أكثر الأغواطيين من قبل مرتبطين بالطرائق الصوفية المتنافرة والمتناحرة، فتطهرت عن طريق الشيخ مبارك عقائدهم. وتفتحت عيونهم على الحق والهدى. وعرفوا دين الله الحق فتمسكوا به، وطرحوا عنهم رداء الطرقية وانحرافها، وتنكروا لمنكراتها. وانضم معظم شباب الأغواط لحركة الإصلاح التي يستجيب لها العقل وتتفجر لها العاطفة. وكان الشيخ مبارك ينظم زيارات كبار العلماء الجزائريين للأغواط. من أجل إلقاء المحاضرات. فزار الشيخ عبد الحميد ابن باديس الأغواط، وحضر درس الشيخ مبارك في (الجامع العتيق) ثم تلاه بدرس بليغ هز نفوس الأغواطيين وترك فيهم أعمق الأثر. وكذلك فعل الشيخ محمد البشير الإبراهيمي والشيخ بيوض إبراهيم. وسارت الأغواط بذلك في ركب الإصلاح. وصارت من أنصار اللغة العربية وقاعدة صلبة من قواعد الدين (مما أهلها
العلامة المصلح والمؤرخ العظيم الشيخ الأستاذ مبارك الميلي بالتالي لتكون قاعدة من قواعد الثورة عندما انفجرت هذه الثورة).
أحب الشيخ مبارك الأغواط وأهلها الذين بادلوه حبا بحب وإخلاصا بإخلاص، بعد أن سلخ بينهم أحلى سنوات العمر في عمل دؤوب وجهد مستمر. لقد جاءها وعمره ثلاثون عاما، وكانت أيامه بها حلوة هانئة، فتزوج فيها من ابنة شيخه (محمد الميلي - جاء بها من ميلة). وولد له في الأغواط ابنه البكر محمد. وظن أن الحياة ستسير به في يسر متنقلا من نجاح إلى نجاح أكبر، ومن نصر إلى نصر أعظم في حياة العمل والإنتاج. ولم يشعر باقتراب السحب المزمجرة من أفق حياته.
عرف الشيخ مبارك خطورة التعليم الإفرنسي على حياة الناشئة، فخصص لهؤلاء الناشئة أيام عطلهم وبعض الوقت في كل يوم،
خارج أوقات دوامهم في المدارس الإفرنسية وذلك لتعليمهم أصول دينهم، وليحسن توجيههم، ويزيل من عقولهم ونفوسهم ما
تدسه برامج التعليم الإفرنسية من توجيهات سيئة. وكانت السلطة الاستعمارية في الأغواط تعتقد أن مدرسة الأغواط، مثلها كمثل الكتاتيب التعليمية العقيمة، فلم تقم لها وزنا في بداية الأمر. غير أنها استفاقت فجأة لتعرف بأن الشيخ مبارك قد دمر لها كل جهودها، وأحبط لها كل خططها، فأخذت في الكيد له والتحريض ضده. غير أن هذه الوسيلة المكشوفة والرخيصة لم تحقق هدفها، فما كان من الإدارة الإفرنسية إلا أن لجأت إلى ذات السلاح الذي استخدمته - في وقت واحد - ضد الشيخ ابن باديس، فدفعت من يعمل على اغتياله من قبل الطرقيين وذلك في سنة 1926.
غير أن تلاميذ الشيخ وأنصاره من الأغواطيين تصدوا للمجرم، وانتزعوا منه مسدسه، وكادوا يفتكون به. وعيل صبر السلطة الاستعماري في الأغواط فطلبت إلى مشايخ الطرق إرسال عرائض تطلب طرد الشيخ مبارك من الأغواط وإغلاق مدرسته. ومارست في الوقت ذاته ضغطا على موظفيها وأعوانها من الأغواطيين لمضايقة الشيخ وإزعاجه. وشعر الشيخ مبارك بالدائرة تضيق من حوله، والأنصار يبتعدون خائفين عنه. وعرف أنه بات من المحال عليه الاستمرار في أداء دوره والاضطلاع بواجبه، فحزم حقائبه، ورحل في سنة 1350 هـ = 1931 م، عائدا إلى بلده (الميليه). بعد أن قضى ثمانية أعوام من عمره في الأغواط (2).
كان الشيخ مبارك قد أرسل إلى الزيتونة بتونس مجموعة من أنجب طلابه سنة 1347 هـ = 1927 م ضمت: أحمد بن التهامي شطة، وأبو بكر بن بلقاسم، وأحمد بن بوزيد قصيبة، ومحمد الطيب الحفصي، ومحمد بن أدهينة بن الحاج عيسى، وعمر بن الساسي؛ وكلف أدهينة بن الحاج عيسى بمرافقتهم إلى تونس
وتنظيم أمورهم، ومتابعة دراستهم والاهتمام بهم - كلما توافرت فرصة من أدهينة لزيارة تونس في أموره التجارية - وقد اضطلع هذا بواجبه على أكمل وجه، فلم يشعر الطلاب بأية معاناة أثناء تعلمهم.
وبعد أن أكملوا دراستهم عادوا إلى الجزائر لمتابعة الجهد الذي بدأه شيخهم مبارك. فتكونت بذلك القاعدة الإسلامية الصلبة في الأغواط. حيث عمل الشيخ أحمد بن التهامي شطة والشيخ أبو بكر ابن بلقاسم الحاج عيسى ومعهما رجال الإصلاح على إنشاء مدرسة الشبيبة في سنة 1945، وتم الانتهاء من إقامة هذه المدرسة وبنائها في سنة 1366 و (1947 م).وحضر حفل تدشينها الشيخ الإبراهيمي والشيخ إبراهيم بن عمر بيوض. وكانت إقامة هذه المدرسة تتويجا للجهود التي بذلها الشيخ مبارك في الأغواط.
تابع الشيخ مبارك جهاده في كل الميادين التي اقتحمتها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، غير أنه لم تتح له فرصة اقتطاف ثمار جهده، أو رؤية آثار عمله - شأنه في ذلك شأن أستاذه وشيخه عبد الحميد بن باديس، فمضى للقاء ربه يوم الجمعة 1364 هـ = 9 شباط (فبراير) 1945، عن عمر يناهز (48) عاما. تاركا وراءه لدنيا الجزائر أثرا لا يمحى (هو تاريخ الجزائر الحديث) ومخلفا من بعده أجيالا تسير على نهجه وتكمل أداء (الرسالة الخالدة) رسالة الإسلام والعروبة والجزائر.
الهوامش:
(1) الزردات، جمع ومفردها زردة وهي طعام سنوي تصحبه أسواق للتجارة والفجور تقام حول قبور المشايخ، وتدوم أياما. وكان الاستعمار يأمر بها لإفساد الأخلاق، وتشويه الدين الإسلامي الحنيف. (نهضة الجزائر الحديثة - محمد علي دبوز - 3/ 259 - 272).
(2) الأغواط: مدينة في شمال وادي ميزاب، تبعد عن مدينة بريان أول مدن ميزاب من جهة الشمال بثلاثة وسبعين ميلا ونصف الميل. وهي في جنوب مدينة الجزائر وتبعد عنها بمائتي ميل وثلاثة أميال. والأغواط مدينة جميلة في شمال الصحراء. تمتاز بحسن موقعها، وجمال تكوينها وسحرها الخلاب! فهي مدينة تجمع بين سحر الصحراء وجمالها، وحسن الشمال وفتونه. والأغواط مدينة قديمة بنيت على وادي - أمزي - وهو واد كبير ينحدر من الجنوب الشرقي لجبال عمور في الشمال، فيمر على الأغواط، ويذهب مشرقا في جنوب الأطلس الصحراوي فيسقي بلادا كثيرة، حتى ينتهي في سباخ - ملفيغ - في جنوب (سيدي عقبة) وهو أكبر واد في الصحراء.