العالم الفاضل الشيخ أبو بكر الحاج عيسى
بقلم : محمد رميلات –
كتب الشيخ البشير الإبراهيمي تزكية لـ " الشيخ أبو بكر" ، مُعرِّفًا بمنزلتِه العلميَّة وكفاءتِه العَمَليَّة، هذا نصُّها : [ يشهدُ الممضي أسفلَهُ محمد البشير الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين أنَّ ولدنا الشيخ أبو بكر بن بلقاسم الحاج عيسى كان قد تعلَّم على المرحوم الشيخ مبارك الميلي بالأغواط، والشيخ عبد الحميد بن باديس بقسنطينة ثم انتقل إلى تونس فواصلَ تعلُّمَهُ بالزيتونة خمس سنوات إلى أن تخرَّجَ بشهادة العَالميّة ، ثمّ التحق بحركة جمعية العلماء وعمل بحَقْلَيْ التعليم المدرسي والوعظ والإرشاد ، وكان ناجحًا موفَّقًا مُنْتِجًا ممَّا أهَّلَهُ إلى إدارة المدارس ، ثمَّ عضويَّة لجنة التعليم والتفتيش الجهوي ، وكان من أحسنِ النَّاسِ سلُوكًا واستقامةً ، وقد كتبتُ لهُ هذه الشهادة ليستظهِرَ بها عند الحاجة.]
وشهادة الإبراهيمي لوحدها كافية للتدليل على أن الرجل عالم كبير من علماء المسلمين ، تحصل على شهادة عالمية من أعرق جامع للعلم في العالم الإسلامي بعد الأزهر الشريف في ذالكم العصر ، وهي تعادل شهادة الدكتوراة في عصرنا ، وقد كان مشايخ العلم وقت إذن أشحة بالشهادات إلا على من أخذها بحقها وعن جدارة واستحقاق .
أبو بكر بن بلقاسم الحاج عيسى ، ولد سنة 1331 هـ - 1912 م بمدينة الأغواط على ماذكره الشيخان أحمد قصيبة وأحمد حماني ، تعلَّم القراءة والكتابة والقرآن في الزاوية الرحمانية على يد الشيخ "ابن عزوز" ، وحفظ متون الفقه والعقيدة وعيونًا من قصائد الشعر العربي ، وتفتَّقت مواهبُهُ وشُغف بالمطالعة وتحصيل المعارف وتوسيع المدارك ، فقَرَّت به عيون مشايخه ، وكوَّن لنفسِهِ محصولا علميا مهما من علوم العربية والشريعة ، كانت قاعدته المتينة التي انْبَنَتْ على أساسها كل حياته العلميَّة فيما بعد ، وزاد أن ضرب بسهمٍ في اللغة الفرنسيَّة فأجادها حديثا وكتابة ، وهو الذي نشأ في محضن علم وتقوى حيث كان والده بلقاسم فقيهاً عارفاً ، وجده عالما تُرجمت تآليفه ونشرت في الولايات المتحدة الأمريكية .
وفي سنة 1922 م كان الأستاذُ المُصلِحُ الأديب الأريب الشيخ السعيد الزاهري قد حلَّ بالأغواط بطلب من أهلها ، ومكث فيها حولين كاملين (من سنة 1922 م إلى سنة 1923 م) معلماً ومدرساً ومرشداً وواعظاً بمدرسةٍ عربية حرة كان قد أسَّسها أعيانُ الأغواط من تلقاء أنفسهم وبإمكاناتهم الخاصة ، وهنالك ترك الشيخ الزاهري أثرًا طيباً في تلامذته ، وأَخَذَهُم بتربيةٍ حيَّةٍ مُثمِرَة ، ثم خلفه فيها وفيهم الشيخ مبارك الميلي فوجد التربة خصبة ومهيئة لتؤتي أكلها طيباً بإذن ربها كل حين.
وكان الشيخ مبارك الميلي يُلقي دروسه في "المدرسة العربيَّة الحرَّة" ، وفي المساجد وفي اجتماعاته بالأهالي والأعيان ، وكان "الشيخ أبو بكر" من الآمِّين لهذه الدروس ، وهو في زهرة شبابه ، وبَدْءِ نضجه وإدراكه ، وقد أعرض عن متابعة الدراسة بالمدارس الفرنسية واتجه ليتخصَّص في علوم العربيَّة والشريعة . ولمَّا نما غرسُ الشيخ مبارك الميلي في الأغواط، ورأى أنَّ استعداد تلامذته الذين كوَّنهم وأعدَّهم ، يريدون مزيداً من العلم والتعلم ، أشار عليهم بالتوجه إلى جامع الزيتونة المعمور وضمَّت تلكم البعثة الأغواطيَّة سنة 1932 م ، كلاًّ من : الشيخ أبو بكر الحاج عيسى ، والشيخ أحمد شطة ، و الشيخ أحمد بن أبي زيد قصيبة، و الشيخ محمد دهينة، و الشيخ محمد الطيب ، و الشيخ محمد الحدبي.
في تونس تلقَّى الشيخ أبو بكر الحاج عيسى علوما جليلة جميلة على جلَّةٍ من العلماء الأعلام نذكر منهم : الشيخ عبد العزيز جعيط ، والشيخ بلحسن النَّجَّار ، والشيخ ابن عبد السلام التونسي ، والشيخ الهادي العلائي ، والشيخ محمد الزغواني ، والشيخ البشير النيفر ، والشيخ الطاهر بن عاشور ... وآخرون . ولم يكتف بدروس الجامع ، بل كان يحضر بـ" العطَّارين " محاضرات الأستاذ العربي الكبَّادي ، وبـ" الخلدونيَّة" محاضرات الأستاذ عثمان الكعَّاك ، وكان لا يفتر بليل أو نهار عن مطالعة نفائس " المكتبة العبدليَّة " ، خاصة كتاب " المحصول " للفخر الرَّازي الذي حفظه عن ظهر قلب .
وفي ربيع سنة 1937 م أنهى الشيخ أبو بكر الحاج عيسى دراسته الزيتونية بشهادة " العَالمِيَّة " بتحصيلٍ وافرٍ وعلمٍ غزيرٍ ، وعاد إلى مسقط رأسه في الأغواط وما إن عقد أولى مجالسه العلمية رفقة الشيخ أحمد شطة في جامع الشيخ سيدي عبد القادر الجيلالي حتى توافد عليه الطلبة من كل فج عميق .
ولما ذاع صيت الشيخ أبو بكر الحاج عيسى وتناهي إلى سمع الشيخ ابن باديس أن عالم الأغواط عاد من جامع الزيتونة بعلم وافر ، أرسَلَ إليه ليُشاركه في إلقاء الدروس للطلبة على مرأى منه ومسمع ، وعلى وجه الخصوص حلقة تفسير القرآن الكريم ، ومجالس الحديث الشريف ، وتدريس كتاب " الأمالي " لأبي علي القالي ... وقال الشيخ أبو بكر في إحدى خطبه المكتوبة " .. ولا أكتمكم أني حضرت دروس التفسير والحديث لأكابر العلماء بجامع الزيتونة ، فما وجدت من يضاهي ابن باديس في فهم سر القرآن والسنة والشريعة الإسلامية " .
وبعد سنةٍ دراسيَّةٍ قضاها الشيخ أبو بكر الحاج عيسى في قسنطينة بمدرسة التربية والتعليم، عَيَّنَهُ المجلس الإداري لجمعية العلماء رئيسًا لـ(المكتب العمالي) بالعاصمة لتنظيم وتأسيس شُعَب الجمعية في عمالة الجزائر.
ولما اندلعت ثورة التحرير المظفرة كان الشيخ أبو بكر أحد الذين أشعلوا وقودها وأججوا نارها لتظطرم وتلتهب لعلها تحرق خونة الوطن والمحتلين الكفرة الفجرة ، وفي يوم 23 أوت 1958 م اعتقل الشيخ أبو بكر بينما أعدم أخوه وزميله الأستاذ الفاضل والعالم الكبير الشيخ أحمد الشطة الذي لم يعرف لحد الآن زمان ولا مكان استشهاده ولم يعثر على قبره رحمه الله
وسائر شهداء المسلمين ، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها ، ورفرفت رايات الاستقلال على ربوع الوطن كان يُنتظر أن يكون للشيخ المجاهد العالم أبو بكر الحاج عيسى مكانته التي تليق بعـلمه وجـهاده ، لكن إيمانه وارتباطه بالله جعلا منه رجلا قانعا غير طامع ولا طـامح ، وبقي يرتع في رياض المساجد وحلق العلم واعظا مرشدا ، واكتفى بمنصب مفتش للتربية والتعليم الابتدائي والمتوسط لمنطقة الواحات التي كانت تضم الأغواط وغرداية وورقلة ، وقد ترك رحمه الله مكتبة ثرية تنوعت تنوع علومه ومعارفه ومشاربه كما خَلّفَ مجموعة من الخطب والرسائل والمقالات والبحوث متناثرة هنا وهناك ، لكنها لم تجد من ينفض عنها غبار السنين وينفخ فيها من روح البحث ما يجعلها خلقاً آخر .
توفي الشيخ العالم الفاضل أبو بكر الحاج عيسى يوم 03 ذي القعدة 1407 م الموافق لـ 28 جويلية 1987 م عن عمر ناهز السابعة والسبعين ، نسأل الله له الرحمة والمغفرة والرضى والرضوان .