موقف الشيخ إبراهيم بيوض (ت:1401) من الصحابة رضي الله عنهم (2)
بقلم: د. محمد حاج عيسى-
[فضل العشرة المبشرين بالجنة]
ومما يجب أن نعلمه مسبقا –قبل الدخول في الكلام على ما وقع بينهم- أن الأصحاب العشرة ومنهم الخلفاء الراشدون ، كلهم من السابقين الأولين من المهاجرين، فمن هؤلاء العشرة:
هم الخلفاء الراشدون الأربعة : أبو بكر وعمر وعثمان وعلي خلفاء بإجماع الأمة ما عدا الرافضة قبحهم الله .
ثم طلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وأبو عبيدة عامر بن الجراح وعبد الرحمن بن عوف، والأمة كلها أجمعت على هؤلاء العشرة ، وحتى العامة تقول :"أصحاب الرسول عشرة" لأنهم هم المبشرون بالجنة ، ولأن ما تذكره الآيات من فضل يعم هؤلاء ، ولكل واحد منهم مزايا وفضائل لا تكاد تعد، وقد حكم الله على إيمانهم بأنه حق وأنهم فائزون، وأنه رضي عنهم وأنه تاب عنهم وأنه لهم.
والنبي صلى الله عليه وسلم بشرهم واحدا واحدا بالجنة، ولنستحضر في أذهاننا أن الأصحاب يدخلون دخولا أوليا في كل الآيات التي ذكرناها. فقوله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ) [التوبة/100] منهم الأصحاب العشرة، وقوله : (: (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُومِنُونَ حَقًّا) [الأنفال/74] منهم الأصحاب العشرة، وقوله : (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ) [الحشر/8] منهم الأصحاب العشرة، وهم أيضا ضمن من بايعوا بيعة الرضوان وهم أيضا ضمن جيش العسرة.
[عدد الصحابة وأسماؤهم والكتب المؤلفة فيهم]
الصحابة عددهم يتكاثر شيئا فشيئا ، خاصة بعد صلح الحديبية ثم بعد فتح مكة ، وفي كل غزوة كان عدد الصحابة يزيد عن الغزوة التي قبلها حتى كان حجة الوداع في ذي الحجة من السنة العاشرة حيث حج معه صلى الله عليه وسلم مائة ألف أو يزيد.
وكانت قبل ذلك سنة الوفود، حيث كانت وفود العرب تفد عليه صلى الله عليه وسلم لتعلن الإسلام وتظهر الولاء، ولكن كم يعلم المسلمون من أسماء الصحابة ؟
لقد ألف كثير من العلماء في القديم كتبا في ذكر أسماء الصحابة وتواريخهم وفضائلهم، مثل: كتاب "أُسد الغابة في معرفة الصحابة" في خمس مجلدات لابن الأثير ، وكتاب"الإصابة في معرفة الصحابة" لابن حجر.
وقد احتوت هذه الكتب على المئات منهم وربما الآلاف، فهي لا تذكر الصحابة جميعهم ، لأن المذكورين فيها هم المشهورون مثل الخلفاء الراشدين وأمراء الأجناد وقواد الجيش، ومن تولى أمرا من أمور النبي صلى الله عليه وسلم ، أو أمرا في عهد أبي بكر أو عمر، أو من كانت له قصة مع النبي صلى الله عليه وسلم أو روى عنه حديثا أو أحاديث ممن يمر عليهم سند الحديث؛ فهؤلاء هم الذين أرخ لهم العلماء ، أما عشرات الآلاف الآخرين فلم يذكروا.
[بداية الفتن في الأمة الإسلامية]
ومن هؤلاء العشرة الذين ذكرنا قبل من تولى الخلافة بعد النبي e كأبي بكر رضي الله عنه، الذي دام له الأمر سنتين وأربعة أشهر؛ ثم استخلف عمر بن الخطاب فأجمعت الأمة عليه، ودام في الحكم عشر سنين وستة أشهر، ثم قتل بيد غلام المغيرة أبي لؤلؤة المجوسي لعنه الله، وترك عمر الأمر شورى بين ستة فأجمعوا على عثمان بن عفان ، حتى قتل في فتنة الدار، ثم تولى الخلافة بحق علي بن أبي طالب حتى قتل بيد عبد الحمن بن ملجم.
فهذه الفتن التي ثارت بداية من عهد عثمان فكانت فتنة الدار التي أودت بحياة الخليفة عثمان؛ ثم كان يوم الجمل بين طلحة والزبير وعائشة أم المؤمنين من جهة، والإمام علي من جهة أخرى ؛ ثم كان يوم صفين بين الإمام علي ومعاوية الذي لم يقبل خلافته، فكان ما كان مما أراده الله.
والله تعالى أراد – لحكمة يعلمها هو – أن تثور الفتن وأن يذهب فيها كثير من أفاضل المسلمين ضحايا.
[موقف المسلمين من الفتن]
فما موقف من جاء بعد هذه الفتن ؟
"الفتنة نار لعن الله من أوقدها ، والفتنة نائمة لعن الله من أيقظها" والفتنة محنة وبلاء يضل فيها الحليم، وتربك فيها العقول ، وتزل فيها الأقدام، وليس من السهل أن نتعرف على الأسباب الحقيقية للفتنة وعلى المسؤول عنها.
فما موقف المسلمين عامة من هذه الحروب والفتن ؟
وما موقفنا نحن -اليوم- الذين جئنا بعدها بقرابة أربعة عشر قرنا ؟ وإلى أن تقوم الساعة؟
إنه الأمر الخطير والموضوع الكبير، نرجو أن يوفقنا الله تعالى إلى بيان وجه الحق فيه، معتمدين على ما يحضرنا من الأدلة.
وفي هذه المقدمة ، وهذه الفذلكة في فضل الصحابة ، وما ورد في حقهم من آيات، ضوء ينير الطريق أمامنا، والذي سنسلكه في قضية الفتنة بحول الله تعالى.
إن الأمر الذي يهمنا في معرض حديثنا عما جرى من الفتن بين الصحابة ، هي قضية التوبة والمغفرة التي وردت في كثير من الآيات الكريمة السابق ذكرها.
وفي معناها يقول ابن عباس : أمر الله تعالى بالاستغفار لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وهو يعلم أنهم سيفتنون».
ففي الوقت الذي كان الله تعالى يؤكد على الرضا عن هؤلاء ، خاصة على التوبة عليهم، وعلى تكفير ذنوبهم ومغفرته ورحمته لهم، يعلم – وهو علام الغيوب- أنهم سيفتنون وسيقع بينهم ما يقع.
كما أخبر بذلك رسوله e بـ«أن فتنا كقطع الليل المظلم ستكون بين هذه الأمة »، وسأله أصحابه المخرج، فدلهم عليه.
فالله تعالى لم يكتف بتأكيد التوبة والمغفرة لهؤلاء ، بل زاد وأمر كل من جاء من بعدهم – إلى أن تقوم الساعة- بالاستغفار لهم، وذلك قوله (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ) [الحشر/10].
يمكن لأحد أن يقول : إنه يدخل في قوله تعالى (الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ) جميع الأجيال التي تتقدمنا ووصلتنا على أيديهم شريعة الله وكتابه، ولكن الذين يدخلون في الآية دخولا أوليا هم الرعيل الأول الذي صحب النبي صلى الله عليه وسلم وسبق إلى الإيمان به، وإلى الهجرة والجهاد معه، وإلى تلقي القرآن والسنة وعنه، ثم بلغوها للجيل الذي كان معهم، فهؤلاء طبعا المقصودون أولا، لا أجدادنا وآباؤنا الأقربون، ومن قواعد الشرع الثابتة عدم الاستغفار لمشرك أو لكافر أو لمن يبرأ منه.
فزيادة في فضل هؤلاء أراد الله تعالى أن تكون أطباقا من النور تدخل عليهم ما دام على ظهر الأرض مؤمن يذكر الله وستغفر للذين سبقوه، فإذا قلنا نحن اليوم: ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ، فإن الحظ الأوفر من هذا الدعاء ينصرف إلى السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار.
[جزاء من سب الصحابة مبغضا لهم]
وبما أن هذه الآية جاءت بعد ذكر الأقسام الذين يقسم عليهم الفيء، قال العلماء والمفسرون:" إن من سب أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كان في قلبه بغض لأحد منهم ، خاصة السابقين الأولين، فإنه لا حظ له في الفيء، لأن الله تعالى جعل هذا الحظ للذين جاؤوا من بعدهم، مقرونا بشرط وهو الاستغفار لهم، فمن كان لا يستغفر لمن سبقه بالإيمان ، أو كان في قلبه بغض لهم، أو كان يسبهم ، فإنه لا يعطى من الفيء.
روى الإمام مالك رضي الله عنه قوله :"من كان له في أحد من الصحابة قول سيء أو بغض فلا حظ له في الفيء" وروي مثل هذا عن الشيخ الطفيش في التيسير وعن غيره من الأئمة.
ذلك إذن كان حكم الله تعالى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابه الكريم.
[الأحاديث الواردة في فضل الصحابة والنهي عن سبهم]
وقد وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في فضل الصحابة رضي الله عنهم، نذكر منها حديثا رواه أصحاب السنن، وذكره الشيخ اطفيش في التيسير، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« دعوا لي أصحابي ، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه »، -وهي من الأحاديث المتفق عليها بين الأمة(1)- يعني : اتركوا لي أصحابي ، لا تسبوهم ولا تمسوهم بسوء، فلو أن أحدكم يكون عنده مثل جبل أحد ذهبا – وجبل أحد عظيم يعرفه كل من زار المدينة- أنفقه في سبيل الله، ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه.
ويقول صلى الله عليه وسلم في حديث آخر : « الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي ، فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن أذاني فقد آذى الله سبحانه، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه »(2)
"الله الله" يعني اتقوا الله اتقوا الله في أصحابي .
"لا تتخذوهم غرضا بعدي" الغرض هو الهدف الذي يرمي إليه، وهو الشيء الذي ينصبه الناس شارة يرمونه بالحجارة أو بالنبل أو بشيء آخر، إما للعبث واللهو واللعب وإما لتعلم الرمي.
وقوله غرضا أي ترمونهم، ومن كان يسب أحدا أو يقول فيه فكأنه يقذفه ويرميه، فيضربه ويجرحه.
"فمن أحبهم فبحبي أحبهم" أحبهم لأنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأنهم الطائفة الأولى التي سبقت إلى الإسلام والهجرة والنصرة، وهم جلساؤه وحملة الشريعة عنه، وهم الذين وقع عليهم اختيار الله تعالى لصحبة نبيه ، واختيار الله تعالى لا يقع صدفة، وإنما عن قصد وعمد، فكما فضل محمدا صلى الله عليه وسلم على الخلق فضل الجماعة التي تلتف حوله فتكون أول من يؤمن به ن وأول من يصحبه، وأول من يهاجر معه، وأول من يموت في سبيله، وأول من ينقل الدين عنه، فهم مختارون منتخبون، وهم خير الأمة على الإطلاق، وهذه المزية لم تكن لأحد غيرهم.
"ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم" من أبغضهم فقد أبغض رسول الله صلى الله عليه وسلم "ومن آذاهم فقد آذاني" والحديث واضح مفهوم، وقد رواه الشيخ اطفيش في التيسير كذلك، وقال :"قيل لعائشة رضي الله عنها إن أناسا يتناولون الصحابة حتى أبا بكر وعمر فقالت وما تعجبون ! انقطع عنهم العمل، وأحب الله أن لا ينقطع عنهم الأجر".
هذا كلام جميل لعائشة مهناه : إن هؤلاء السابقين الأولين الذين ذهبوا إلى ربهم وانقطعت أعمالهم، أحب الله تعالى أن لا ينقطع الأجر عنهم، من جهة الذين يسبونهم، ومن جهة الذين يستغفرون لهم.
وقالت عائشة في حديث آخر :« أمروا بالاستغفار لأصحاب محمد فسبوهم ».
ثم إن الآيات الكريمة من قول الله تعالى : (للفقراء المهاجرين) (والذين جاؤوا من بعدهم) دليل على وجوب حب الصحابة وعلى كفر وضلال من سبهم وشتمهم في أي زمان وأي مكان ، خاصة الطائفة الأولى من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وبخاصة أصحاب بدر وأصحاب أحد وأصحاب الخندق أو الأحزاب ، وأصحاب الحديبية وأصحاب خيبر وأصحاب جيش العسرة أو تبوك، الذين نزل فيهم ما نزل، وقد حكم الله تعالى عليهم بأنهم المؤمنون حقان وأن كلمة التقوى لازمة لهم، وأنهم أحق بها وأهلها، ثم أكد لهم المغفرة في آيات كثيرة.
[قصة حاطب بن أبي بلتعة]
وأذكر حديثا واحدا في المغفرة كدليل، وهو حديث حاطب بن أبي بلتعة، وهو ممن شهد بدرا ومن السابقين الأولين من المهاجرين، وقد ارتكب ذنبا عظيمان وهو ما يعبر عنه اليوم بالخيانة العظمى، التي يحكم على صاحبها بالإعدام شنقا أو رميا بالرصاص.
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نقضت قريش الهدنة التي عقدت في اتفاقية صلح الحديبية، عزم على فتح مكة بإذن من الله تعالى ، وكتم الأخبار ودعا الله أن يأخذ العيون والأخبار عن قريش، حتى يبغتهم في ديارهم، فكان الأمر كذلك ، وبدأ النبي صلى الله عليه وسلم في التجهيز، ولم يُعلم الناس بوجهته إلا الخاصة من الصحابة رضي الله عنهم، ووصاهم بعدم إشاعة الخبر، ولكن حاطبا كتب رسالة إلى قريش، يخبرهم فيها بعزم النبي صلى الله عليه وسلم على غزوهم، وأعطى الرسالة امرأة ظعينة فظفرتها في ظفرتها، وخرجت تطلب مكة.
ونزل جبريل من قبل الله جل جلاله يخبر النبي صلى الله عليه وسلم الحادثة ن فأرسل علي بن أبي طالب والزبير بن العوام في طلب المرأة، فأدركها في بعض الطريقن في مكان يسمى "روضة خاخ".
طلب منها الكتاب فأنكرته ، ففتشها تفتيشا بسيطا فلم يجدوا شيئا، حتى هما بالرجوع، لكن الإمام علي قال لها :"لتخرجن الكتاب أو لنجردنك" والذي دفع بالإمام علي كرم الله وجهه إلى هذا التهديد تصديقه لخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن مع المرأة كتابا، وحاشا الإمام علي أن يتجرأ على عورة وهو الكريم الذي تعف نفسه عن النظر على عورة من العورات، وقصته مع عمرو بن العاص في صفين مشهورة(3)، إذ لما تغلب الإمام علي على عمرو وأراد قتله لجأ عمرو إلى الخديعة، وهو يعلم أن الإمام علي حيي لا ينظر إلى عورة أبدا، فكشف له عورته فالتفت علي عنه وأعرض عنه، فنجا عمرو بهذه المذمة، حتى قال شاعر فيه :
ولا خير في دفع الرذى بمذلة كما * ردها يوما بسوءته عمرو
وهذه الحادثة تبين لنا كرم نفس الإمام علي كرما عجيبا، لا تقبل أن ترى عورة أو تكشف عورة أحد.
وكذا كان حال هذه المرأة لما وصل الأمر إلى التهديد بالكشف حلت ظفيرتها وأخرجت الكتاب وسلمته إياه، فجاء بالمرأة والكتاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فوجد الكتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش يخبرهم بعزم النبي صلى الله عليه وسلم على غزوهم في مكة.
ناداه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : ما حملك على هذا يا حاطب ؟» فقال والله يا رسول الله إني لمؤمن بالله ورسوله، وما بدلت وما غيرت، ولكن لي بين ظهرانيهم أهل وولد وليس لي عشيرة فصانعتهم عليه».
وحاطب بن أبي بلتعة أجنبي عن مكة ، هاجر إلى المدينة وترك أهله بها وشارك في غزوة بدر، فخاف على أهله وولده فصانع أهل مكة عله يدفعهم لحماية أهلهن وهو موقن بانتصار النبي صلى الله عليه وسلم لكنه خطر له هذا الخاطر فقام بهذا العمل.
وهذا الفعل بحقيقته خيانة عظمى، خاصة وأن النبي صلى الله عليه وسلم كتم الخبر وحجر إذاعته، ودعا ربه أن يأخذ العيون والأخبار عن قريش، وكان عمر رضي الله عنه حاضرا بالمجلس فقال :« دعني يا رسول الله أضرب عنقه، إنه قد نافق».
فماذا كان جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم والحكمة في جوابه ، قال :« ما يدريك يا عمر لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم».
وهنا النكتة المهمة، وهنا تطأطا الرؤوس : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.
ما يدريك يا عمر لعل الله اطلع على أهل بدر على هؤلاء الذين قاموا بهذه المعركة الأولى في الإسلام، والتي انتصرت فيها راية الله، وعلت فيها كلمته، وقتل فيها صناديد المشركين، وكان ما كان.
[مغفرة الله واسعة]
ويكفي في الصحابي أن يقال فيه أنه بدري .
ولهذا يقول بعض العلماء في هؤلاء لا تقع ذنوبهم إلا مغفورة، يقع منهم الذنب وهو في حكم الله مغفور، بما قدم صاحبه وبما أخر من عمل الخير، وهل في هذا عجب!؟
فهذه كلمة إذن تفسر لنا وعود المغفرة الواردة في قوله تعالى في سورة آل عمران: (فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ) [آل عمران/195] السيئات الماضية والآتية ، وهذا وعد الله الفعال لما يريد .
وقوله تعالى في سورة النحل : (: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [النحل/110] والشيء الذي يجعل هذه المغفرة ميزة لهم خاصة([4])، هو أن الحكم العام الذي أنزله الله في كتابه في شأن الكفرة الذين أسلموا هو قوله : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) [الأنفال/38] وهذا حكم عام لأن الإسلام جبٌّ لما قبله، وفيهم ورد كذلك :« من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى وإن سرق» يعني قبل قوله لا إله إلا الله ؛ أي في حال الشرك لا كما يفهمه البعض، ولو كان بعد الإسلام([5])، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في حديثه :« لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن » فكلمة لا إله إلا الله تغفر ما تقدم في الكفر.
هذا حكم عام لكل كافر، وما ذكره الله تعالى من المغفرة في شأن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، هؤلاء الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم من بعد ما فتنوا ثم قاتلوا وقتلوا، هو أمر خاص فوق هذا الحكم العام، والأمر ظاهر.
فمغفرة ما قد سلف تثبت لهم الإيمان، فبماذا امتازوا إذن؟
امتازوا بما ذكره الله من الرضا عنهم، وبحقيقة الإيمان، وبلزوم التقوى، وبأهليتهم لها، ثم الرضا عنهم، والمغفرة لهم أخيرا، ثم لم يكتف بهذا حتى أمر الذين يجيئون من بعدهم أن يستغفروا لهم.
وقد يتساءل أحد فيقول : كيف يغفر لهم ما تقدم من ذنوبهم؟
أولا : الله تعالى –وهو خالقهم- أنزل فيهم حكمه بالمغفرة، وهو يعلم أنهم سيفتنون، ويعلم أنهم سيتوبون، كما يعلم عذرهم في اجتهادهم، وهذا مما استأثر الله بعلمه.
ثانيا : أولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله:« صوم عرفة يكفر سنة ماضية وسنة آتية» وتقبل الحديث بقبول حسن حتى قال بعض : ما كنا نرغب في صوم عرفة حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم:« يكفر سنة قبله وسنة بعده»، ونحن نعلم وندرس أن صوم عرفة يكفر سنة ماضية وسنة آتية ولا نقول : لماذا لا يغفر الله ما يأتي من الذنب !؟
سبحان الله أليس الأمر بيد الله ! فإما أن يعصمك الله فلا تقع في شيء، وإما أن تبتلى بشيء فيوفقك على التوبة إذا كانت المعصية كبيرة، وأما إذا كانت صغيرة فإنها تغفر بالحسنات (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) [هود/114] فليس لعبد أن يقول : لماذا ؟ أو كيف هذا ؟ والمخبر رسول الله عن الله، والأمر كله لله .
وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:« ما يدريك يا عمر لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم » .
إذن لا تقع ذنوبهم إلا مغفورة، ولا بد أن نشد أيدينا بهذا حتى نزيل الشبه والشكوك، وحتى لا يقول أحد : كيف يكون هذا ؟
وما لنا نتساءل أو نحار في الأمر ؟ والله تعالى يقول لنبيه في أول سورة الفتح (سم الله الرحمن الرحيم، إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) [الفتح/1، 2] أليس هذا من اظهر الأدلة على أن الله تعالى يضمن المغفرة لمن شاء من عباده فيما يستقبل من أمره.
يقول الشيخ أبو نصر في نونيته :
أحبُّ أناسا لم تضرهم ذنوبهم * وأبغض قوما عندنا هم ذوو حسن
[ولاية الله وبراءته لا يتبدلان]
محبة الله لأوليائه وبغضه لأعدائه لا يتبدلان، فهو تعالى لا يحب وليه وقت الطاعة ويبغضه في الوقت الذي يبتلى فيه بشيء(6)، أما نحن البشر فالولاية عندنا والعداوة تتغيران، فقد توالي إنسانا اليوم وتدعو له بالخير، ولكن بعد ذلك ينقلب على عقبيه فيرتكب ما يرتكب من الكبائر ولم يتب منها، فتبرأ منه وتعاديه، ثم بعد ذلك يتوب وينيب ويتنصل مما عليه من تبعات للخالق أو المخلوق، فتتولاه.
وقد ينتقل الإنسان من ولاية إلى براءة ، أو من براءة إلى ولاية مرات في عمره في علمنا القاصر ، الذي لا يطلع ولا يتطاول إلى الغيب، لكن ولاية الله تعالى لأوليائه وعداوته لأعدائه لا تتبدل، لأنها مبنية على علمه القطعي بهم، فهو خالقهم وهو الذي قضى وقدر كل ما يصدر منهم من حسنات وسيئات، وقد كتب السعيد من بطن أمه والشقي من بطن أمه وما يبدل القول لديه.
فالولي ولي مهما تقلبت به الأحوال ، لا يموت إلا مسلما مؤمنا موفيا، صادقا على الصراط المستقيم، وعدو الله الذي سبقت له الشقاوة شقي في علم الله مهما تقلبت به الأحوال، لا يموت إلا كافرا.
[العبرة بالخاتمة]
وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما معناه :« إن الرجل ليعمل أهل الجنة حتى ما يبقى بينها وبينه إلا ذراع، فيسبق عليه القلم، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار، حتى لا يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه القلم، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها».
وفي التاريخ وأخبار السيرة أمثلة من هؤلاء منهم الصحابي الذي أسلم صدر النهار والمسلمون في حرب، فخاضها معهم وقتل قبل الظهر فمات شهيدا، وذهب إلى الجنة مغفورا له، ولم يصل لله تعالى أي ركعة ، لأن الله سبحانه يعلم منه صدق إيمانه وصدق جهاده، وقد بذل نفسه رخيصة في سبيل الله كفارة لما مضى منه ، وهل هناك أغلى من الروح يبذلها المرء في سبيل الله؟
وقد يستقل أحدنا عمل هذا الصحابي فيقول كيف يدخل الجنة على ضحوة من الإيمان؟
ولكن أليس الله تعالى يقول : (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) [التوبة/111] فالله تعالى باع الجنة واشتراها هذا بنفسه، فمن بذل نفسه وماله في سبيل الله فقد ربح البيع، فأين أعمالنا نحن بالنسبة لهؤلاء الذين بذلوا أرواحهم في سبيل الله، حتى ولو قضى أحدنا أربعين أو خمسين سنة وهو يعبد ، فإنها لا توازي غدوة أو روحة في سبيل الله.
ذكرت هذا حتى لا يستقل أحد عمل هذا الصحابي الذي أسلم في الصباح ودخل الجنة في المساء، فيقول : إنه أخذ الجنة مجانا.
لا ليست الجنة رخيصة، ولم يأخذها مجانا، وإنما بذل فيها روحه وبذل فبل روحه أهله وماله وأولاده الذين تركهم بعده، فلم تمنعه زوجته الجميلة ولا ولد بار ولا دار فخمة ولا أي شيء آخر من الدخول في هذه المعمعة طلبا للشهادة، فمات واستشهد، وكذلك يفعل الله بالذين سبقت كلمته بأنهم سعداء من أهل الجنة.
وعكس هذا الرجل كان يجاهد في صفوف المسلمين؛ فأخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه بأنه من أهل النار، اهتم لهذا الأمر أحد الصحابة، فجعله نصب عينيه يتتبعه ليرى ما سيكون مآله ومصيره، فأصيب في المعركة بجرح كبير، فخر جرحا وأخرج من كنانته سهما قطع به عرقا من ذراعه، فانتحر بهذه الطريقة لما اشتد عليه الألم.
جاء الصحابي إلى النبي e فأخبره بما صنع ذلك الرجل، فقال لهم :"الم أقل لكم إني رسول الله "، فهذا الذي كان في الظاهر يقاتل إلى آخر لحظة مع المسلمين لكن الله تعالى يعلم ما في قبله هل يقاتل حمية أو عصبية أو إعلاء لكلمة الله ؟
وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل حمية أو شجاعة فأيهم في سبيل الله ، فقال كلمته المشهورة المدوية المدونة في صحاح الحديث :« من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله » ولنتيقن ولنعتقد كل الاعتقاد أن ولاية الله وعداوته لا تتبدلان ولا تتحولان.
فهؤلاء الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، وأكد توبته ومغفرته لهم، بتأكيدات عديدة لا غرابة أن يقال فيهم : لا تقع ذنوبهم إلا مغفورة .
الهوامش:
1/ هو في الصحيحين.
2/ هو عند الترمذي (3862) وأحمد في مسنده (4/87) (5/54، 57) وصححه ابن حبان، وفي سنده ضعف .
3/ هي مع شهرتها لا تصح، ومنتهى سند نقلها إلى نصر بن مزاحم صاحب كتاب وقعة صفين وهو رافضي متروك الحديث، وقال أبو خيثمة كان كذابا.
4/ ليس ثمة حاجة لدعوى الخصوصية بالصحابة لأن الله تعالى قضى أن من الحسنات ما يذهب السيئات، وأن الحسنات الكبار يذهبن كبائر الذنوب، وأن الله تعالى يضع يوم القيامة الميزان الذي توضع فيه الحسنات في كفة والسيئات في كفة، وبالنسبة للصحابة قد علمنا بالدليل والخير الصادق عظم حسناتهم ورجحان كفة حسناتهم.
5/ بل هو عام لحال الإسلام من أدلة ذلك قوله تعالى (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) [الحجرات/9] فأثبت الإيمان مع الاقتتال وهو أشد من الزنا والسرقة وشرب الخمر ، وهذه المعاصي ليست شركا وليست ناقضة لكلمة التوحيد ، والله تعالى يقول : (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) [النساء/48].
6/ هذا الكلام بمبني على نفي الصفات الفعلية المتعلقة بالمشيئة وهي عقيدة الجهم والأشعري، لأن الله تعالى يحب ويبغض وحبه وبغضه بحسب المشيئة والحكمة ولا يحسن أن يقال إن الله تعالى يحب من يعصي حال معصيته أو من يشرك حال شركه، وإن علم أنه سيتوب، فإن الله تعالى يرضى عنه حين يتوب ويفرح بذلك وذلك من كماله ولا يلزم منه نقص في حقه إلا عند من شبه الله بخلقه.