موقف الشيخ إبراهيم بيوض (ت:1401) من الصحابة رضي الله عنهم (3)
محمد حاج عيسى

موقف الشيخ إبراهيم بيوض (ت:1401) من الصحابة رضي الله عنهم (3)

بقلم: د. محمد حاج عيسى-

[استحقاق الصحابة للجزاء الرباني]

ونحن إذا نظرنا إلى فضل هؤلاء وتضحياتهم ، والامتحانات التي امتحنوا بها، والفتن التي ابتلوا بها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وما تحملوه ، فإنهم يستحقون هذا وأكثر من هذا ، ولا شيء أعظم من رضا الله .

يقول الشيخ رشيد رضا في معرض تفسيره لآية البراءة التي أشرنا إليها :« وهذه الآية نص في أن الطبقات الثلاثة من السابقين الأولين والذين اتبعوهم في الإيمان والهجرة والجهاد، عندما أبيحت الهجرة، وتيسرت أسبابها بصلح الحديبية ، قد فازوا كلهم برضاه ووعده بالجنة ، وأنه ليس فيهم أحد من المنافقين». إلى أن يقول :« وجملة القول أن جميع أفراد هذه الطبقات الثلاث قد جاوزوا القنطرة –قنطرة الامتحان- وجاوزوا الصراط، ولم يعد هنالك ما يؤثر في كمال إيمانهم، لأن نورهم يمحو كل ظلمة تطرأ على أحدهم بإلمامه بذنب».

والله ما أعجب هذه العبارة وهي تفسير لقول النبي صلى الله عليه وسلم:« ما يدريك يا عمر لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم».

والكلام دائما منصب على هذه الطبقات الثلاث المنصوص عليها، لا الذين ارتدوا في زمن أبي بكر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : أما الصلاة فنصلي وأما الزكاة فلا نجعل في أموالنا شركاء، فحاربهم أبو بكر في حروب الردة ، منهم من قتل ومنهم من تاب ، وهؤلاء غير معنيين بكلامنا، وليسوا داخلين في الطبقات الثلاث الذين وردت في حقهم آيات كريمات، فارعوا لها انتباهكم إذا كنتم تقرؤون كتاب الله.

من الغريب حقا أن هذه الفتن التي سنشير إليها، ونبين موقفنا منها وقعت في زمن السابقين الأولين من المهاجرين في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان وقعت الفتنة الكبرى فتنة الدار، أول فتنة في الإسلام، والتي أودت بحياة عثمان فقتل والمصحف بين يديه، حتى سالت دماؤه عليه، والمصحف لا يزال إلى اليوم في بعض المتاحف الشرقية.

ثم فتنة الجمل، ثم فتنة صفين، وأكبر الرؤساء في هذه الفتن هم الإمام عثمان في فتنة الدار والإمام علي وطلحة والزبير وعائشة في فتنة الجمل ، وهم من العشرة المبشرين بالجنة . فمن يبلغ درجة عثمان أو علي أو طلحة أو الزبير أو عائشة أم المؤمنبن رضي الله عنهم جميعا.

فكلامنا على الفتن التي وقعت بين هؤلاء السابقين الأولين، وهم شهود حاضرون لا على أهل الردة أو غيرهم. تلك الفتن الكبرى التي بلبلت أفكار المسلمين ، وجعلتهم في حيرة من أمرهم ، حتى كان بعضهعم يسب بعضا إلى يوم الدين، ولم ينج من هذا حتى الخليفة أبو بكر الذي تسبه الرافضة على زعمهم أنه اغتصب الخلافة من علي-ولا تزال هذه الطائفة إلى اليوم -، ولم يسلم من هذا السب عمر ولا عائشة رضي الله عنهم.

وللمناسبة أذكر حادثة وقعت هنا بالقرارة، أمام سمعي وبصري، وأنا تلميذ قبل الحرب العالمية الأولى التي اندلعت سنة 1914، زار القرارة شخصية بارزة من العجم وأظنه أميرا من الأمراء ، جاء ضيفا موفدا عن طريق الحكومة الفرنسية، وكان قائد البلد آنذاك هو جدي من أمى المسمى قائد كاسي، فأمر بالاحتفال بهذا الضيف العجمي، واجتمع العزابة وأعيان البلد في دار القراءة لإمام المسجد الحاج إبراهيم بن كاسي، وكنت أنا خادما للشيخ الحاج عمر بن يحيى، فصحبني معه واستفدت فوائد كثيرة، وامتلأت الدار بالحضور، فجاء الضيف وهو ضخم الجثة طويل القامة كبير الهامة، ذو وجه مشرب بحمرة، وهو يلبس قفطانا كبيرا ؛ وأديرت كؤوس الشاي والناس كأن على رؤوسهم الطير، وأحد الحضور يلقي خطاب الترحيب، فجرى على لسانه ذكر عائشة، وبمجرد أن سمع هذا الضيف كلمة عائشة، حتى قال بصوت خشن ضخم كضخامة جثته لعنها الله، وجم الناس والخطيب لم يزد كلمة فخرجت في التو جماعة من الدار قاصدة القائد فقالت له : إما أن يرحل هذا الرجل الآن وإلا فقد يكون ما يحمد عقباه » وكان الأمر كذلك فرحل في الوقت.

هذا ما وقع بمشهدي ومحضري وسماع أذناي، وأنا الآن أتخيل المشهد، وهذا الشخص لعنه الله هو، وكيف انطلقت الكلمة من صدره بطريقة آلية، وبمجرد أن سمع كلمة عائشة.

ولنعد إلى ما نحن فيه، ترى ما موقفنا نحن فيما شجر بين الصحابة ؟ ماذا نعتقد فيهم ، وقد قتلوا بعضهم ووقع ما وقع ؟

أولا : إن الله تعالى لم يكلفنا أن نحكم بينهم.

ثانيا : لسنا مسؤولين عما شجر بينهم.

فلن يستطيع اليوم أحد أن يقول :« إن الواجب على المسلمين أن يبحثوا في تلك الفتن، حتى يعلموا المحق من المبطل والظالم من المظلوم».

بل ينطبق علينا كلنا قوله تعالى : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [البقرة/134].

قد نقرأ أخبار هذه الفتن، لكن بشرط أن نكف ألسنتنا عن السب والشتم لأي كان منهم، وإذا نحن قرأنا أخبارهم فما الذي يوجب علينا أن نحكم بينهم، فنتولى من نتولى، ونتبرأ ممن نتبرأ ؟

لا موجب لهذا أبدا ، وإلا فهل جداتنا وأمهاتنا وبناتنا يعرفون من هذا شيئا؟ وهل الملايين والملايين من عامة المسلمين منذ ذلك العهد يعرفون من هذا شيئا ؟

لا يعرف هذه الأشياء إلا الدارسون لكتب التاريخ، ولا أحد يجرأ أن يقول لنا :« عليكم أن تتبرأوا من فلان، وأن تتولوا فلانا» ومن قال هذا فكلامه باطل مردود عليه، لأن هذا أمر يتعلق بكل شخص بمفرده ، ومن اقتحم هذا الميدان ، فليتحمل وزر مغامرته، إما في النار أو في الجنة ، إذن عدم الخوض والوقوفُ في هذا أولى وأسلم، وقد رأينا في فتنة الدار التي أودت بحياة عثمان بن عفان رضي الله عنه كثيرا من الصحابة لزموا الحياد، ولم يدخلوا في أحد الصفين، لما اشتبه عليهم الأمر وذلك واجبهم.

فهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المبشرون بالجنة ، وهذه عائشة أم المؤمنين وقع بينهم ما وقع فإلى أي صف ننحاز أإلى هذا أم ذاك؟ قبضوا أيديهم ولزموا بيوتهم، وكفوا ألسنتهم، حتى لقوا ربهم منهم أبو هريرة ومحمد ب مسلمة وعبد الله بن عمر بن الخطاب وغيرهم .

ومن الغريب أن ينكر عليهم بعض هذا الوقوف، وهو واجبهم أمام هذه الفتن، التي وصفها الرسول صلى الله عليه وسلم بأنها «كقطع الليل المظلم».

فإذا كان هذا موقف بعض الصحابة ن زمان هذه الفتن يوم وقوعها ، أنأتي نحن من بعدهم بعد مئات السنين ، فنخبَّ ونضع هذه المسألة ؟

فالواجب إذن هو عدم الخوض ، ومن قرأ شيئا أو اطلع علي شيء من هذه المسألة ن فليكل الأمر إلى الله ، وليرض عن هؤلاء السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين رضي الله عنهم وليقل : (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا [الحشر/10].

وقد سئل بعض السلف من العلماء عن فتنة الصحابة فأجابو بقولهم : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [البقرة/134].

والله تعالى لم يكلف أحدا من عباده أبدا في الحكم عن هذه الفتنة، بل رضي عمن رضي الله عنهم. وإلا فلو كان هذا واقعا لكان أكثر المسلمين ضالينن من النساء خاصة وأغلب الرجال، وربما في كل مائة ألف تجد واحدا يقتحم هذا الميدان ن فيحكم ويخطئ ويصوب ن فمن أجابنا بقوله : (تلك أمة قد خلت..) لا يمكن لنا أن نرد عليه، لأنه لا يوجد في قرآن أو سنة الأمر بالحكم على أولئك الصحابة، بل نجد الكف عنهم واردا في قوله صلى الله عليه وسلم :« ذروا أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي» وقوله عليه السلام : « الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي » فهذا حمى، من اقترب منه خاف على نفسه.

وقال آخر: إن سبيل ما جرى بين الصحابة من المنازعات كسبيل ما جرى بين إخوة يوسف مع يوسف، ثم لم يخرجوا بذلك عن الولاية والنبوة، وكذلك الأمر فيما جرى بين الصحابة » .

وهذا مثال جميل.

إن الله تعالى قص علينا في القرآن قصة يوسف مع إخوته ومكرهم به ن وكيف ألقوه في الجب، بعد أن عزموا على قتله ، وكيف بيع بيع العبيد بثمن بخس، وكيف كذبوا على أبيهم ، وجاؤوا على قميصه بدم كذب ، ولما سألهم أبوهم عن يوسف قالوا له : أكله الذئب، مسكين هذا الذئب الذي ظلموه، فصار مثلا جاريا، يقال فلان بريء من كذا براءة الذئب من دم ابن يعقوب» .

ودام الأمر زمانا ويوسف في مصر ن وحدث ما حدث من دخوله السجن ن ثم خروجه منه وتوليه منصب وزارة المالية وكانت في يده خزائن مصر، وكان ما كان بينه وبين إخوته ، ثم الحيلة التي استعملها لأخذ أخيه ، حتى قال إخوته (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ [يوسف/77] كل هذه المدة ويعقوب معذب الضمير لفقد ابنيه حتى ذهبت عيناه من الهم ، وحتى قال له أولاده : (تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ [يوسف/85] ويعقوب ابيضت عيناه بأعمال قام بها أبناؤه، وإن المرء ليعجب حقا من هذه الأعمال ن فيقول :"أين حق الوالد مكروا بأخيهم وعصوا أباهم وحملوه ما لا يطيق من الهم والحزن حتى ذهبت عيناه".

إنها حقا لفتنة كبرى ولكن لم تفقدهم رضا الله وولايته ونبوتهم كما ذهب إلى هذا كثيرون. إذن صدق هذا الذي شبه ما وقع بين الصحابة بما وقع بين إخوة يوسف.

والذي يحملنا على الوقوف أيضا مقولة الحسن البصري سيد التابعين ، أدرك خمسمائة صحابي ، وهو صديق حميم للإمام جابر بن زيد التابعي الشهير، والحسن ومقامه في الإسلام معروف، فتبهوا إلى مقولته، وقد سئل :« ماذا تقول في قتال الصحابة؟» قال :« قتال شهده أصحاب محمد e وغبنا ، وعلموا وجهلنا، واجتمعوا فاتبعنا واختلفوا فوقفنا».

كلمات ذهبية حقيقة أن تكتب بماء الذهب، قال: هذا قتال شهده الصحابة ولم نحضره، علموا أسباب هذا التقاتل ، وكيف نشأ ولماذا نشأ وعلى ما اعتمدوا عليه وجهلنا ، واجتمعوا على أحكام من الشريعة، وروايات رووها وأجمعوا عليها فاتبعناهم، واختلفوا فتقاتلوا فوقفنا.

فلنكف ألسنتنا وأيدينا.

قال الحارث المحاسبي بعد نقله كلام الحسن البصري:« ونحن نقول كما قال الحسن، ونعلم أن القوم كانوا أعلم بما دخلوا فيه منا، نتبع ما اجتمعوا عليه، ونقف فيما اختلفوا فيه، ولا نبتدع رأيا منا، ونعلم أنهم اجتهدوا، وأرادوا الله عز وجل، إذ كانوا غير متهمين في الدين، ونسأل الله التوفيق».

قال المحاسبي : «نعلم أن القوم أعلم بما دخلوا فيه»، ومن ذا الذي يستطيع أن يقول :« أنا أعلم بحقيقة الأمر منهم»، فما جاؤوا به من سنة ودين ونقلوه عن النبي صلى الله عليه وسلم نقبله لأنهم عدول، وما اختلفوا فيه، والمراد القتال الذي كان بينهم، نتوقف فيه، ولا نبتدع رأيا منا، ولا نقول شيئا فيما لم نحضره، وقديما قيل:"الشاهد يرى ما لا يرى الغائب"، بل الشاهد أحيانا قد تلتبس عليه الأمور.

ونعلم أنهم كانوا غيورين على الدين، وأنهم قاموا بما قاموا عن اجتهاد ، والله تعالى أعلم باجتهادهم ومآلهم، غفر لهم ذنوبهم وأمرنا بالاستغفار لهم، نسأل الله التوفيق.

ثم كلمة أخرى لسيدنا الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وقد دخل عليه جماعة من أصحابه، وسألوه في هذه الفتن ، فقال :« تلك دماء طهر الله منها أيدنا، فلا نخضب بها ألسنتنا ».

هذه كلمته، وهي لعمري كلمة حق وعدل، دم لم تتلوث ولم تتلطخ به أيدينا طهرنا الله منه، فلم نخضب به ألسنتنا ؟!

تعبير جميل حاو جميل، ويقال خضّب يده بالحناء أو يد مخضبة بالدم إذا تلطخت. فهذه كلمة جامعة مانعة، جرت على لسان عمر بن العزيز الذي أجمعت الأمة على عدله، بعد الخلفاء الراشدين الأربعة، وهو ابن بنت عمر بن الخطاب، عدل كما عدل جده، وهو أفضل ولاة بني أمة على الإطلاق، فلنحفظ كلمته ولنمتثل بها.

وقال العوام بن حوشب:« أدركت صدر هذه الأمة يقولون : اذكروا محاسن أصحاب رسول الله، حتى تتألف القلوب عليهم، ولا تذكروا ما شجر بينهم فتجسروا الناس عليهم».

اذكروا فضائل أصحاب الرسول-ونحن مأمورون بذكر محاسن الموتى – وأول من ينطبق عليهم هذا الصحابة رضوان الله عليهم، اذكروا محاسنهم لأبنائكم، لطلبتكم، وأشيعوا فضائلهم بينكم حتى تتألف القلوب، ولا تذكروا ما شجر بينهم، لأنكم حينئذ تجسرون الناس عليهم.

ويقول الشيخ اطفيش رحمه الله في تفسير قوله تعالى : : (للفقراء المهاجرين) (والذين جاؤوا من بعدهم) بعد أن ذكر بعض الأحاديث الواردة في فضل الصحابة، قال :« وحب الصحابة كالمطبوع في القلب» وذلك لأن الشيخ رحمه الله عالم مفسر ومحدث، وقد ترك تراثا غريبا في الوقت الذي لا توجد فيه الكتب إلا بقلة وبأثمان باهضة، انغرس حب الصحابة في قلبه حتى عبر بهذه العبارة ، وكأن حب الصحابة شيء جبلت عليه القلوب.

ثم قال :« والله أعلم بما يصيبني إذا تذكرت قوله صلى الله عليه وسلم للملائكة : أصيحابي أصيحابين وقولهم : ما تدري ما أحدثوا بعدك ؟ وقوله صلى الله عليه وسلم: فسحقا سحقا ، ثم قال :"والله ما ندري من المراد بالحديث"».

يبدوا لي شيء من التأويل في هذا : نحن نعلم أنه قد حج مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع مائة ألف ولم يمض على حجه هذا إلا بضعة أشهر ، حتى لحق بربه فارتد من هؤلاء من ارتد. وقد حضروا مكة ووقفوا بعرفات ، وشاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم واستمعوا إليه ، وربما فيهم من صافحه وكلمه، فإذا جاؤوا يوم القيامة يزدحمون على الحوض تردهم الملائكة، فينادي النبي صلى الله عليه وسلم غيرة على أصحابه كلهم :"أصيحابي أصيحابي" فتجيبه الملائكة : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك"، ولنحملهم نحن الردة إذ أمكن للإنسان أن يقول شيئا، أو على النفاق ، وإلا فالواجب الوقوف في كل شيء.

يقول الشيخ محمد يوسف المصعبي في رسالته "عقيدة الإباضية" في موضوع الصحابة :« ومما جاء به صلى الله عليه وسلم اتباع كتاب الله وسنة رسوله (وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر/7] الآية، وكذا ما عليه أصحابه الراشدون المهتدون ، وأخصهم به العشرة الكرام البررة الذين بايعوه تحت الشجرة وهم أبو بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم أجمعين، وجعلنا لآثارهم تابعين وبسنتهم متمسكين ، غير مبدلين ولا مغيرين ن إلى أن نلحق بدار كرمتهم آمين .

ونقول أن الكل عدول يهتدى بهم، ونمسك عما شجر بينهم ، كما يحكى عن السيد عمر بن عبد العزيز أنه قال :" تلك دماء طهر الله منها أيدنا فلا نلوث بها ألسنتنا " فالله ربنا ومحمد نبينا والقرآن إمامنا والكعبة قبلتنا والصحابة قدوتنا.

وقد وردت أحاديث في مدحهم خصوصا وعموما، وليست رسالتنا هذه موضوعة لبسط الكلامن فهذه لمع يسيرة من أصول الدين وفروعه، التي ألفينا علينا سلفنا الصالح ن سالمين من إفراط الأزارقة والخوارج القائلين بتشريك أهل الكبائر وتحليل أموالهم ...».

ونحن إذا قلنا كما قال الشيخ وطلبنا وأمرنا بالرضا عمن رضي الله عنهم من الصحابة، فالمراد أولا بالذات السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين سمعتم ما سمعتم من فضائلهم، ومنهم العشرة المذكورين في الرسالة الذين أجمعت الأمة على النبي e توفي وهو عنهم راض.

هؤلاء الذين نرضى عنهمن ونقف فيما شجر بينهم في فتنة الدار والجمل وصفين إلى حادث النهروان، ولا ندخل في الخلاف الذي وقع بينهم، والذي اشتد وتنوع بصورة غريبة، وأجج لهيبها روايات موضوعة، لما افترقت الأمة، وكان كل فريق يلعن الآخر.

ونحن في عام 1395 هـ وقد مر على الفتن 1350 سنة ولا يزال الناس يكتبون ويبحثون، خاصة في العهود الأخيرة ن ولا يمر العام إلا بكتاب جديد عن هذه الحوادث والفتن والروايات.

وأنا أعتقد أنه لا يوجد اليوم من يجمع الكتب التاريخية قديمها وحديثها، ومما كتب طيلة 1350 سنة ، فيقرأها ويخرج بحقيقة؛ وها نحن بعد هذه المدة الطويلة نرى باحثين يكتبون أشياء تنقض ما كان يظن حقيقة، فيثبتون وبحجج غريبة أن عبد الله بن سبأ الذي نسب إليه الكثير من هذه الفتن بأنه شخصية أسطورية غير موجودة تماما، ويذكر البعض مائة وخمسين شخصا عدوا في زمرة الصحابة وهم ليسوا بصحابة، وهذه البحوث تكتب وتنشر، ويتخذها البعض موضوعات للرسائل التي يقدمونها لنيل الدرجات العلمية : الليسانس والماجستير والدكتوراه. والداخل في هذا المضمار كمن يدخل في بحر لا ساحل له، لا يعرف أبدا كيف ينجو، يرد ولكن لا يستطيع أن يصدر :

وأحزم الناس من لو مات من ظمأ   *  لا يقرب الورد حتى يعرف الصدر

فلا تنزل في بئر أو بحر إلا إذا عملت كيف تخرج منه، وإنما ذكرت هذا حتى لا نعتمد إلا على كتاب الله في الحكم على الطائفة الأولى : السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ، ومنهم هؤلاء العشرة، وأولهم أبو بكر مات حتف أنفه وعمر قتل شهيدا على يد الغلام المجوسي، وعثمان قتل على يد الثوار، وعلي قتل على يد عبد الرحمن بن ملجم ، وطلحة والزبير قتلا في وادي السباع إثر وقعة الجمل.

وللمناسبة أرد على فرية : يقولون فيها إن الإباضة قتلوا الإمام عليا ، كلا إنما الذي قتله رجل يدعى عبد الرحمن بن ملجم، كما اشتهر في الروايات واتفقت عليه، وأصل الرواية أنه لما اشتدت الفتن والحروب بين أتباع علي الأحق بالخلافة، والتي أجمع عليها أهل الحجاز : مكة والمدينة وإجماعهم معتبر، وبين أهل الشام معاوية الرافض للدخول في بيعة الإمام علين اجتمع ثلاثة من الشباب ممن يمكن أن يطلق عليهم اسم الفدائيين، فقالوا :"لنقتل الثلاثة عليا ومعاوية وعمرو بن العاص، وبعد ذلك يختار المسلمون خليفة جديدا» ولم يكن هناك اتفاق لأحد منهم مع جماعة ، ولا علم لأحد بهؤلاءن ولم يعرفوا قبل إلا بهذه الحادثة، فقد خطرت لهم هذه الفكرة ونفذوها في ليلة محددة عند صلاة الفجر من يوم 17 رمضان، فأراد الله تعالى ما أراد، فقتل علي ولم يصب معاوية بالضربة القاتلة، إذ كانت الضربة في فخذه، ولم يخرج عمرو للصة يومها، وكان المقتول خارجة الذي قام مقامه في الصلاة، وفي هذا يقول القائل تأسفا على قتل الإمام علي:

فياليتها إذ فدت عمرا بخارجة فدت عليا بمن شاءت من البشر

فمن أين يقال إذن: إن عليا قتله بنو فلان أو بنو فلان، وإنما كل شيء متعلق بجريرته، ونحن غير مكلفين بالحكم في هذه القضية ، فالقاتل قتل هو أيضا، وانتهى كل شيء ، فقولهم قتله بنو فلان أو بنو فلان ، ما هو إلا أراجيف من أكاذيب الرواة.

وروي أن سيدنا عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما سمع رجلا يتناول أحد المهاجرين فدعاه، وقرأ عليه قوله تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) [الحشر/8] فقال له: هذه الآية في المهاجرين أمنهم أنت؟ قال: لا.

ثم قرأ عليه قوله تعالى : (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) [الحشر/9] فقال له: هذه الآية في الأنصار، أمنهم أنت؟ فقال:"لا".

ثم قرأ عليه قوله تعالى : (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر/10].

فقال له: "أمنهم أنت؟"، قال :"أرجو"، قال عبد الله بن عمر :"لا والله ليس من هؤلاء من سب هؤلاء ».

هذه هي الكلمة الذهبية الحلوة التي نطق بها سيدنا عبد الله بن عمر، ليس من التابعين الذي جاؤوا من بعد من سب المهاجرين والأنصار، وهو صريح القرآن ن لأن أصحاب الطبقة الثالثة موصون بقولهم : (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ) ونحن اليوم أيضا نسائل أنفسنا : أنحن من المهاجرين ؟ كلا. أنحن من اللأنصار؟ كلا. أنحن من الذين جاؤوا من بعدهم ؟ نرجو ذلك.

ولكن لن نكون منهم إذا سببناهم أو شتمناهم ، وقانا الله من أن نقول كلمة سوء في الصحابة رضي الله عنهم، ونسأله أن يعمر قلوبنا بمحبتهم، وقد عودنا أسلافنا –رحمهم الله- السلام عليهم، كلما كتب أحدنا كتابا أو قال خطابا ، أن يبدأه بـ "بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما"، ونحن نصلي عليهم ونسلم في كل وقت، تبعا للنبي صلى الله عليه وسلم.

وللمناسبة أذكر فائدة نص عليها العلماء، قالوا : أما الصلاة على الصحابة ، فلا تكون إلا تبعا للنبي صلى الله عليه وسلم ، إذ لا يجوز أن نقول صلى الله على أبي بكر أو على عمر ، أو على فلان أو فلان ن وإنما تقول : صلى الله على سيدنا محمد وعلى صحبه ، وهذا هو مذهب الجمهور وهو قولنا.

أنا التسليم فيجوز استقلالا فنقول : السلام عليكم سلام على عباد الله الصالحين ، سلام على فلان أو فلان.

[الخلاصة]

وبعد هذا لنخرج من هذا المقام الصعب الخوض فيه بنتيجة :

1-الرضا عمن رضي الله عنهم ، وعمن رضي عنهم رسوله e وبشرهم بالجنة.

2-الوقوف فيما شجر بينهم.

3-عدم الخوض فيه.

4-عدم الحكم عليهم بشيء أبدا ، إذ لسنا مكلفين بهذا ولا ملزمين.

5-لن يسألنا الله تعالى عنهم ، بل يسألنا إذا لم نستغفر لهم.

6-نلتزم طريقتهم حتى نلحق بهم .

نلتزم قوله تعالى : : (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر/10] حتى ندخل في جملة هذه الطوائف المتتابعة والقوافل المتلاحقة وراء هذا الرعيل الأول، حتى ندخل الجنة معهم-إن شاء الله-.

وأختم بكلمة قالها أحد الأشياخ في السير ، في اجتماع له ببعض فقال أحدهم:" سبق الأولون على خيل عتاق ، وبقينا على حمر دبرة» فأجاب الشيخ بقوله :"أخاف أن لا نكون على الطريق، أما إذا كنا على الطريق فإنا سنلحق".

ونحن كذلك نخاف أن لا نكون على الطريق، وأما إذا كنا على الطريق ووراء النبي صلى الله عليه وسلم، وراء هذه الجماعات التي أمامنا من الصحابة والتابعين وتابعيهم إلى يوم الدين ، فسنصل على حمرنا الدبرة، ولن نبلغ درجتهم ، ولكن نصل وراءهم إلى الجنة إن شاء الله.

والله تعالى نسأل أن يبارك ويقبل القليل من أعمالنا ، وهو كما وصف : يقبل اليسير ويعفو عن الكثير.

أظن أني قد بلغت بعض ما أريد أن أبلغه في نفوسكم في قضية الصحابة ، فتمسكوا به ، واسألوا الله المغفرة لأنفسكم ولهم. والحمد لله رب العالمين.

لا تعليقات

اترك تعليق

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.