الشيخ إبراهيم بن عمر بيوض وتجربته التربوية الرائدة في ميزاب
بقلم: بسام العسلي-
هناك تجربة تربوية رائدة عرفتها الجزائر المجاهدة فيما حمل اسم (معهد الشباب) الذي أسس سنة 1333 هـ = 1914 والذي تحول سنة 1375 هـ = 1954 م إلى ما أصبح يعرف باسم (معهد الحياة) نسبة إلى جمعية الحياة الخيرية التي تقوم به.
وكانت (القرارة) الواقعة في شرق (ميزاب) بجنوب الجزائر هي مسرح هذه التجربة التربوية التي ارتبطت بحق باسم الشيخ المصلح (إبراهيم بن عمر بيوض). وتكمن أهمية التجربة التربوية الرائدة (لمعهد الحياة) بمجموعة النقاط التالية:
أولا: ربط المدرسة التعليمية بالحياة ربطا وثيقا: (تبتدئ الدراسة في المعهد، في الثامنة صباحا وتنتهي في الثانية عشرة زوالا، فينصرف الطلبة إلى دورهم، ومعظمهم يذهبون بعد الغداء إلى بساتينهم وحقولهم للعمل فيها نحو ساعتين في كل يوم. وهذا العمل هو أحسن رياضة للجسم يعول عليها المعهد في ما يجب عليه في التربية الجسمية، إنه يحث التلاميذ على النشاط والعمل في البستان خارج أوقات المعهد. أما في الصيف، فإن دروس الوعظ العمومي، ودروس دار التلاميذ، تتم في فترة بين العصرين، حيث يذهب الطلبة والتلاميذ إلى بساتينهم وحقولهم في الصباح - بعد صلاة الفجر - فيقضون فيها ساعات عديدة، إلى السابعة فيرجعون. وفي البستان، يقوم الطلبة بأعمال تربي خلقهم وعقولهم وأجسامهم، فيتسلقون النخل الطويل للتأبير أو الفرق وتنضيد العراجين، أو للصرم، ويحرثون الأرض بالفؤوس الكبيرة، وينزحون الماء من الآبار العميقة، ويقومون بكل الأعمال الفلاحية الصعبة، فينهمر العرق من التلاميذ، وذلك العرق هو الذي يغسلهم من الفسولة، ويبعد عنهم الرخاوة والأمراض، ويورثهم أخلاقا عظيمة لا تكون إلا بالعمل في البساتين والحقول! إنه أحسن في التربية من لعب الكرة وغيرها من كل الألعاب التي يأتيها المترفون الفارغون. إن ذهاب الطلبة إلى العمل في البساتين والحقول، من وحي المعهد وتوجيهه، ومن أمر الوالدين وحثهم، لينشأ ابنهم على حب العمل، وعلى النشاط والحزم والشجاعة، وعلى القوة في جسمه، وعلى الفراهة والنضارة في كل نواحيه) (1).
ثانيا: تنمية الفضائل، من خلال الالتزام بشعار المعهد الذي وضعه له الشيخ بيوض (الخلق قبل العلم، ومصلحة الجماعة قبل مصلحة الفرد). وكذلك: (إن الغاية التي يجب أن يجعلها المتعلم نصب عينيه هي: طلب رضى الله سبحانه وتعالى، وشرف العلم نفسه، وتثقيف العقل، وتربية النفس تربية صحية، وإعدادها لتحمل عبء الإصلاح الديني والوطني).
(إن الأنانية هي أم كل الشرور، إنها سبب الحسد والعصبية، والعداوة الشديدة بين الأمم والأفراد، وكل الويلات التي تفتك بالمسلمين. لذلك يحاربها المعهد بكل وسائله، وتحاربها الهيئة التدريسية بكل طاقاتها وتطهر النفوس منها، وتملؤها بحب التضحية والغيرة على المصلحة العامة، وبكل الأخلاق الاجتماعية الأخرى: كحسن العشرة والأمانة والسخاء وغيرها. ويتم الاعتماد في ذلك على شيئين: البيئة والأساليب التربوية العملية التي تغرس في التلميذ الفضائل الاجتماعية. إن البيئة في (ميزاب) و (القراره) و (المعهد) كلها تغرس فيه التضحية والاهتمام بالمصلحة العامة. إن وادي ميزاب هو وطن (العمل لله) فمرافقه العامة كالمدارس والمساجد والنوادي ودور العشائر وغيرها، كلها من بناء المحسنين الذين يبتغون رضوان الله وحسن ثوابه، وهم الذين يقدمون كل ما يحتاجه دار المعهد الكبير من أثاث كأسرة النوم وأدوات الطبخ وغيرها. إن جدران المعهد تنطق بهذه الحقيقة، وتأمر بهذه الصفة وتغرس في التلميذ هذه المنقبة العظمى. إن التلميذ يرى العمل لله في أغلب الأشياء التي تكتنفه في دار المعهد. ويرى التضحية والعمل لله في مدير المعهد وأساتذته، إنهم كلهم يعملون لله، وإذا أخذوا شيئا زهيدا من الجمعية، فإنه لا يعد أجرة، إن هو إلا كالجائزة التي تعطى رمزا للتلميذ. إن ما يمسكهم في ثغورهم إنما هو خلق التضحيه والعمل لله، والشعور بالواجب. فلولا هذه الفضائل ما ثبتوا يوما واحدا في ثغورهم. ومع البيئة التي تعتمد عليها البعثة في التربية الاجتماعية تمرين الطالب على خدمة الجماعة، وتعويده القيام بشؤون غيره. وذلك بتكليفه ببا يستطيع القيام به من شؤون المعهد. فيكون له عملا مستمرا يلزمه القيام به).
ثالثا: تحمل المسؤولية - الإدارة الذاتية: يجتمع مدير المعهد مع كبار الطلبة البارزين في مطلع كل عام دراسي فينظرون في قانون المعهد، فيزيدون فيه أو ينقصون، إنهم يحسنونه دائما، ويراعون فيه حاجات الطلاب وأحوالهم، ثم يوزعون الأعمال. وهذه الأعمال إما فردية أو جماعية. فيعينون للجماعية من يليق لها، وللفردية من يستطيع القيام بها. ويكتبون كل ذلك على لوحة - يعلقونها في الدار. فتسارع كل جماعة إلى عملها، ويبادر كل فرد إلى واجبه. فيقومون بها في جد ورغبة وإتقان، وهم يهزجون بأناشيدهم الدينية - الشجية والمثيرة للحماسة وحب العمل-. إنهم يخدمون إخوانهم الذين يحسون أنهم أقرب إلى نفوسهم من إخوتهم - الأشقاء. ويردون لزملائهم بعض اليد، إنهم كلهم يعملون. والأعمال في المعهد كثيرة، ومن الصعب حصرها، ومنها أعمال تتصل بالطبخ، وأخرى بنظافة الدار، وأعمال أدبية ومادية تتصل بالتلاميذ، ومنها: تقوية الضعفاء بدروس خاصة في الدار، ورئاسة الجمعيات وهي للخطابة والكتابة وإدارة خزائن الكتب العامة في الدار وتنظيم إعارة الكتب للتلاميذ واستردادها. وحث الطلبة على القراءة المفيدة. وتعليم الصلاة للمراهقين ومراقبتهم ليصلوا بالطهارة والوضوء، ويتقنوا صلاتهم ويؤدوها في المسجد مع الجماعة.
رابعا: إعداد الطلاب للاعتماد على أنفسهم في العلم والتعلم. حيث يعمل (معهد الحياة) على غرس الاعتماد على النفس في التحصيل لدى التلميذ، ودفعه إلى تنمية مواهبه العقلية. ومن أجل ذلك: (يعمل التلاميذ على مطالعة دروسهم وإعدادها قبل تقريرها. وتتم هذه المطالعة بصورة فردية وجماعية، حيث يطالع فريق من الطلبة يقطعون بفؤوسهم خشبة النخلة بعد إسقاطها.
فريق من طلبة البعثة ينقون التمر قبل شحنه في الخابية.
كل تلميذ درسه وحده، فيعمل عقله كل الأعمال ويحاول فهمه بنفسه، فيتعب في ذلك، ثم يجلس إلى جماعته في مطالعة الدرس، وهم من طبقته، وعلى مستواه في الذكاء، فيناقشون الدرس الجديد المقبل، ويحاولون فهمه بأنفسهم، وقد يتعبون في ذلك أشد التعب، ولكن عقولهم تتطور، وفهمهم يقوى على مر الأيام. وتتكامل ثقتهم بأنفسهم فتدفعهم إلى العمل، وتبعثهم على الطموح. ويراجع طلبة المعهد قبل مطالعة الدرس المقبل، الدرس الماضي، فيستعينون بالقديم على فهم الجديد. ويربطون الجديد بالقديم فيرسخ. وتتم المناقشة في مطالعة الدروس بالعربية الفصحى. فيدربون عقولهم على الفهم، وألسنتهم على الفصاحة. وقد تعلم كثير من التلاميذ فصاحة اللسان في المناظرة التي كانت تحتدم في مطالعة الدروس الجديدة. ومن لا يطالع درسه من الطلبة قبل تقريره، توقع عليه العقوبة بأن يوبخه الأستاذ، ويجلسه وراء حلقة الدرس. وهذا عقاب يشق على التلاميذ أكثر من العصا. وقد يطرد من الدرس فلا يحضره، وتلك عقوبة أشد وقعا وأكثر إيلاما.
خامسا: تنوع الأنشطة (النشاط) مثل: إنشاء الفرق التمثيلية، وتحرير المجلات الأدبية والعلمية وتنظيم الرحلات الكشفية (جمعية كشافة الجنوب). وإقامة المخيمات، وإحياء حفلات السمر. ففي مجال التمثيل، تختار الجمعية الروايات التاريخية والاجتماعية، ذات الصلة الوثيقة بالمجتمع الجزائري فتبين أمراضه وعلاجها والدواء الشافي لها. مثل رواية (بلال بن رباح) للشيخ محمد العيد و (شبح القصر) له أيضا. ورواية (الشيخ الحاج عمر بن يحيى) التي ألفها محمد علي دبوز في زعيم النهضة، فبين أدواره وأنواع جهاده، وحال النهضة في أيامه. والجماهير في (وادي ميزاب) مغرمة بالتمثيل، سيما الروايات الاجتماعية والتاريخية المعنية. ويتخلل الاحتفال - الذي يبدأ بتلاوة القرآن الكريم وبه يختتم - أناشيد مطربة حلوة، معظمها من إنشاء طلبة المعهد، يختارون لها ألحانا موافقة من أغاني المطربين الكبار، وقد يضعون هم الألحان الجميلة القوية. فيضعون عليها أناشيد إسلامية وطنية بالعربية الفصحى، فتعرض على لجنة خاصة في المعهد، فإذا ارتضتها وارتضت ألحانها قدمتها للمنشدين الذين يرصعونها بأناشيدهم المطربة التي يسحر بها الجمهور.
وفي مجال الكتابة والتحرير، أصدر المعهد منذ سنة 1358 هـ = 1939 م مجلة أطلق عليها اسم (مجلة الشباب). فكانت هذه المجلة من أكبر الأسباب في تقدم المعهد وتطوره، ومن أقوى الوسائل التربوية التي تكونت فيه، رقت عقول الطلبة بالمقالات والقصائد والقصص الذي يكتبونها. وأذكت فيهم حب الأدب، وخلقت في نفوسهم حب الجمال، وبعثهم حب الفصاحة والبلاغة على القراءة الكثيرة والمفيدة، فاكتسبوا عادة الفصاحة والبلاغة، فنبغ في المعهد جماعة من الكتاب والشعراء، فخرجوا من نطاق مجلة الشباب الضيق إلى رحاب الصحافة الجزائرية الواسع وغيره. ومن هؤلاء: الشيخ عدون بن بالحاج والمرحوم الأديب حمو بن عمر لقمان، وعلي امعمر، وأحمد بن عمر، والأخضر السائحي الكبير - وإبراهيم بن يحيى الحاج أيوب، وحمو بن عمر فخار، وصالح الخرفي وسواهم كثير (2).
وفي مجال العمل الكشفي، عملت الجمعية الرياضية على تنظيم الحركة الكشفية في سنة 1365 هـ = 1946 م. وكان مركزها (القرارة) وكانت هذه الحركة، تعنى قبل كل شيء بالتربية الدينية: (إن الدين هو الأساس القوي الراسخ للشخصية القوية في كل نواحيها، الناجحة في كل أمورها. فهي تراقب ملوك أعضائها مراقبة دقيقة ليكون كما يأمر الدين، وتحيط أعضاءها في مخيماتهم بجو ديني قوي. فالصلوات الخمس يؤديها الأعضاء في أوقاتها، بالطهارة الكاملة، والوضوء، والأذان، وفي الجماعة. إذا نصبوا مخيمهم فأول مكان يختارونه ويحتفلون به هو المصلى. فيمهدونه ويعدونه أحسن إعداد. وينتخبون من بينهم مؤذنا وإماما. فيؤذن المؤذن في الأوقات. فيسارع كل الأعضاء إلى ارتداء ثياب الصلاة البيضاء السابقة، وصعدون لها بالوضوء الكامل والخشوع الواجب. وبين العشاءين، يجلس الأعضاء كلهم حلقة واسعة فيقرءون جميعا في ترتيل خاشع قوي ما تيسر من القرآن الكريم وكذلك بعد صلاة الصبح).
وتعلم الكشافة لأفرادها: تسلق النخيل، والسباحة في الأحواض، والسباحة في الأبار، وأعمال الفلاحة الصعبة. ويخرج الكشافة في كل ربيع إلى - إلى صحراء - سيما في القرارة - فينصبون خيامهم فيها لمدة أسبوعين. ويدرسون الناحية التي يخيمون فيها، ويضعون لها الخرائط، ويكتبون عنها المقالات. ويتصلون بالأعراب في خيامهم، فيدرسون أحوالهم. ولما جاء الاستقلال، وتوحدت الجمعيات الكشفية في الجزائر، دخلت كشافة الجنوب في (الكشافة الإسلامية الجزائرية). فصارت فرعا منها، وانقسمت إلى أفواج: فوج الحياة (في القرارة) وفوج الإصلاح (في غرداية) وفوج النهضة (في العطف) وفوج الفتح (في بريان) وتقيم هذه الأفواج مخيما عاما في كل سنة في عطلة الصيف، وتتم إقامة هذا المخيم في الشمال، لأن طقسه في الصيف أنسب، ومعرفة الشمال والتعرف إلى أهله، مما يجب على كل مثقف في الجنوب معرفته. ويدوم هذا المخيم شهرا، يدرس المشتركون فيه الناحية جغرافيا وتاريخا واقتصاديا. ويرسمون ما يروق لهم من المناظر الطبيعية أو الآثار التاريخية. ويكتبون عنها المقالات المفيدة. ويتصلون بسكانها، ويقيمون لهم الحفلات فيسمعون أناشيدهم، ويعرضون رواياتهم (مثل رواية صلاح الدين الأيوبي) ويخرج الأهالي من حفلاتهم، وفي نفوسهم أثر عميق مما يلقيه الكشافة في أحاديثهم ورواياتهم التي يدعون فيها الجماهير إلى التمسك بالدين وحب اللغة العربية.
كان لكشافة الجنوب قبل الاستقلال علمها الخاص وشعارها، ولما انضمت إلى الكشافة الإسلامية، صار شعارها وعلمها هو شعار وعلم الكشافة الإسلامية الجزائرية: هلال تتوسطه زهرة ياسمين بيضاء، فيها خمس بتيلات إشارة إلى الأركان الخمسة للإسلام الذي يجب على كل كشاف جزائري أن يتمسك به. أما بياض الياسين فرمز لبياض القلوب ونقاء السيرة مما يجب أن تتصف به الكشافة الإسلامية. وأريج الياسمين هو رمز السمعة العطرة التي يجب أن يتركها الكشاف المسلم الجزائري في كل مكان يحل فيه.
...
وبعد، فقد يكون من الصعب الإلمام بكل أبعاد هذه التجربة التربوية الرائدة، غير أن اللمحات السابقة كافية لإبراز أهميتها في إطار (صراع النظريات التربوية الحديثة). وقد يكون من المثير بعد ذلك، استقراء مناهج هذا المعهد التي تعتمد على (الأصالة الذاتية). وهنا تبرز أول فضيلة من فضائل هذا المعهد التربوي، ألا وهي التطور المستمر في برامج التدريب، وذلك بدون أن يتخلى المعهد عن برامجه ومناهجه الأساسية.
يعتبر معهد الحياة: (أن القرآن هو أساس العلوم جميعها، سيما جماعة من الطلاب يغسلون ثيابهم في حوض تصب فيه قناة من عين القرارة في الفوساعة.
فريق آخر يحمل على الدواب قطع الخشب المجزأة. فريق من الطلبة يقطعون بفؤوسهم خشبة النخلة بعد إسقاطها.
العلوم العربية والشريعة، وهو أساس التربية كلها، وآثاره لمن تدبره في خلقه وعقله ولسانه وجسمه لعظيم، لذلك اشترط معهد الحياة حفظه واستظهاره وعدم نسيانه. وحفظ القرآن الكريم هو أحسن ما يهيىء نفس التلميذ وعقله ولسانه للتعليم الثانوي والعالي، إنه يقوي الإرادة في التلميذ، ويكسبه فصاحة اللسان، ويزوده بثروة كبيرة من العربية الفصحى) ومن أجل ذلك: (أنشىء في المعهد قسم خاص لحفظ القرآن يتولاه معلم خاص) (ولا زال حفظ القرآن واستظهاره شرطا للدخول في معهد الحياة إلى اليوم. وقد أحسن المعهد بالتمسك - يهذا الشرط، لا سيما في هذا الزمان الفاجر الملحد الذي نحن فيه) (ولقد حفظ كثير من المسيحيين القرآن الذي يكفرون برسالته، لآثاره في الخلق، وجدواه العظيمة على عقل المرء ولسانه. أما هذا الزمان الفاسد اللئيم، وأغلب البلاد العربية اليوم، تعزف عن القرآن، وتنفر من حفظه، لذلك تشيع فسولة الأخلاق، وفسولة العقول، وفسولة اللسان في معاهدها. وأصبحنا لا نرى منها إلا غثاثة النفس. وأجيالا هزيلة تورث للأمة هزالها! ليتها تعرف الفوائد التربوية العظيمة للقرآن، فتجعل حفظ القرآن كله أو جزءا منه شرطا للدخول في معاهدها) (3).
أما عن نظام (معهد الحياة) فالتلميذ يقضي معظم نهاره، وجزءا كبيرا من ليله في معهده. وهو كالمعاهد الداخلية التي لا يفارقها التلميذ. ويتكفل المعهد بأكل التلميذ ونومه. وتبدأ أعمال الطالب الدراسية من السحر - قبل الفجر - حيث ينهض الطالب ويذهب إلى (دار التلاميذ التابعة للمسجد في ميزاب) فيلتقي هناك بالتلاميذ القدامى الكبار عاكفين على دراستهم، يقرءون الكتب، أو يكررون محفوظاتهم في المتون، أو يتلون القرآن في المسجد. وبعد صلاة الصبح مع الجماعة، يقع درس الوعظ العمومي، أو يقع درس أو درسان في دار التلاميذ في اللغة العربية والشريعة. وتستمر الدروس إلى السابعة، حيث ينصرف التلاميذ لتناول فطورهم. ثم تستأنف الدروس من الثامنة حتى الثانية عشرة. وفي الشتاء ينصرف التلاميذ بعدها للعمل في الحقول والبساتين وتناول طعام الغداء. أما في الصيف فيمضي التلاميذ فترة الصباح بكاملها في الحقول والبساتين. وفي الحالين، يجب على طالب المعهد أن يصلي العصر في المسجد مع الجماعة، فيفتح المعهد أبوابه بعدها، وينصرف الطلبة إلى دروسهم حتى المغرب، حيث يعود الطلبة بعد الصلاة إلى قسم القرآن في المعهد لحفظ القرآن وتدارسه. وتبدأ المطالعة الإجماعية بعد صلاة العشاء لإعداد دروس اليوم التالي.
(ومعهد الحياة، مثله مثل كل المعاهد في ميزاب، يفتح الأستاذ دروسه بالدعاء إلى الله والتضرع إليه أن يفتح عليه وعلى تلاميذه كنوز حكمته، وأبواب علمه، ويفيض عليهم رحمته. ويعيذهم من الشيطان ووساوسه التي تشغل البال ويغيم بها العقل، وينيلهم رضاه الذي يستلزم كل الخيرات والبركات، ويختم الدروس بدعاء الأستاذ أن يبارك الله فيما تعلموه، ويتطول عليهم بالمزيد ويحمد الله على ما أنعم به من نور العلم ونعمة المعرفة ... إن الملحدين أبناء بطونهم يرون هذا الدعاء جمودا وقشورا، والتربية الدينية كلها رجعية وانحطاطا. فيحتقرونها ويحتقرون من يلتزمها، لأنهم لا يؤمتون بالله، ورؤوسهم فارغة من العلم الصحيح. كل ما فيهم إنما هي البطون المنتفخة التي أورثها لهم أساتذتهم الملحدون وعصرهم الفاجر. فصاروا كالمرأة الوحمة تكره الأطعمة اللذيذة المفيدة، وتغرم بالتهام الطين).
(لقد حفظ الله نهضة الجزائر الحديثة، وحفظ معهد الحياة في الأعاصير التي تشتمل عليه من كل ناحية لتطفئه، وتقضي على النهضة، فلم تزده إلا ازدهارا لأنه شديد الصلة بالله، وحمايته، فحفظه من كل مكروه، وبارك له فصار أحسن معهد في التربية والتعليم). وكان (معهد الحياة) - ولا زال - يولي اهتماما أساسيا بالتربية الدينية، وغرس الدين الإسلامي العظيم في نفس التلميذ بكل الوسائل، وبناء العقيدة الدينية وترسيخها بكل الوسائل العلمية والتربوية. فتراه يعتني بالتوحيد فيجعله أول ما يحفظ الصغار مع السور الأولى من القرآن الكريم، وهم في الحداثة دون البلوغ، ثم تكون أول ما يدرسون إذا كانوا في المراهقة قبل البلوغ، ثم يدرسون العقيدة في كتب الفقه الكبرى بنحو فلسفي، ويدرسونها في كتب علم الكلام إذا كانوا في الطبقات العليا. كل ذلك لتركيزها في نفوسهم، وتعميق أسسها، حتى لا يستطيع الجهل والاستعمار والملحدون فيها شيئا، هذه الكوارث التي تتسلط على الدين الإسلامي لتهدمه في النفوس، وعلى العقيدة الإسلامية لتفسدها في القلوب، وهي أساس الدين والخلق) (4).
ويشمل التعليم الإعدادي والثانوي مواد المنطق والفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع واللغة الإفرنسية - التي خصص لها في المرحلة الثانوية 4 حصص أسبوعيا. بالإضافة إلى تاريخ الأدب والتاريخ الطبيعي والتربية المدنية، وتوسع في التاريخ فزاد تاريخ أوروبا وتاريخ الدولة العثمانية وتاربخ الأندلس، وتاريخ الجزائر قبل كل شيء. ما في الجغرافيا، فيدرس التلميذ جغرافية العالم السياسية والطبيعية باختصار، ويتوسع في جغرافية المغرب والأقطار الإسلامية. أما مدة الدراسة فهي 3 سنوات للإعدادي وثلاث سنوات للثانوي (بكالوريا). ويعمل المعهد على إيفاد المتفوقين من طلابه إلى الجامعات الإسلامية (في تونس والقاهرة خاصة) كما يسقبل الطلاب من كل أنحاء الجزائر، ومن الأقطار العربية - الإسلامية المجاورة.
لقد تعززت مكانة المعهد بفضل ما أظهره طلابه من التفوق في كل مجال اقتحموه من مجالات الحياة العملية، واعتمادهم على أرضيتهم الدينية الصلبة. ولقد عرف عن الرجال الذين دفعهم (معهد الحياة) إلى الحياة العامة، بإخلاصهم لدينهم ووطنهم، وكفاءتهم، وصلاحهم، وجهادهم المخلص وعملهم ابتغاء مرضاة الله وحده. واشتهر عنهم في (حرب التحرير - الثورة الجزائرية) شجاعتهم وتضحيتهم (لقد نزلوا إلى الميدان العملي، بحماسة كبيرة، وحب للعمل شديد، إنها الرغبة في الجهاد في سبيل الله! فسدوا أهم الثغور في الأمة، فكان منهم العزابة المثقفون الأكفاء والمدرسون المخلصون الناجحون، والتجار الأمناء، والفلاحون الناشطون، ومنهم رؤساء العشائر الذين وعدة كبرى للوطن، ومنهم رؤساء البلديات الذين كانوا سورا منيعا للدين والوطن. يردون عنه كيد الاستعمار، ويحمونه من شر الجامدين وفساد المفسدين. ومن تلاميذ المعهد، من لم ينل من العلم شيئا كثيرا لضعف مواهبه. ولكنه نال قسطه من التربية كاملا. فكان رجلا صنديدا في مجتمعه).
خلاصة القول، لقد شكل (معهد الحياة) تجربة تربوية رائدة لا في الجزائر وحدها وإنما في الوطن العربي الإسلامي. وهي تجربة تستحق كل اهتمام وبحث وتطوير، وإذا كان الاتحاد السوفييتي يفخر برائد تربيته (ماكارنكو). وإذا كان الأمريكيون يباهون برواد تربيتهم من أمثال (جون ديوي)، فإن للجزائر - وللعالم العربي - الإسلامي أن يفاخر بهذه التجربة التربوية التي يعود الفضل الأساسي فيها للشيخ (إبراهيم بن عمر بيوض).
ولد إبراهيم بن عمر بيوض سنة 1899 م، في القرار، إحدى قرى ميزاب، وتعلم فيها، وفي المعهد الذي كان يديره والده والشيخ عمر بن الحاج مسعود. وفي سنة 1921 توفي الحاج عمر. فما كان من ابنه الشيخ إبراهيم - ولما يكن قد تجاوز الثانية والعشرين من عمره - إلا أن جمع تلاميذ المدرسة، وأعلن لهم أن الدراسة ستستمر تحت إدارة الشيخ عمر بن الحاج مسعود، وأنه سيقوم مع بعض إخوانه في مساعدة الشيخ على إدارة المعهد وتطويره - للنهوض بميزاب كلها. تلك كانت البداية، وانصرف الشيخ إبراهيم بن عمر للعمل بكل طاقة الشباب وإيمانهم، يلقي الدروس، ويطور المعهد، ويرسل البعثات، ويرعى الخريجين، ويوسع مجالات العمل، ويبني المسجد المتمم للمعهد. ويضع برامج التدريس، ويسهر على رعاية شؤون طلابه، ويوجههم للبحث والدراسة وهو يكرر على مسامعهم باستمرار: (إن غرضي من هذه الدروس أن أنشىء عقولا تفهم بلاغة القرآن، ونفوسا دارعة بعدة الفصاحة والبلاغة. إن جهادنا يستلزم هذه العدة، وهذا لا يكون إلا بعملكم أنتم! ألا فاعملوا، طالعوا دروسكم مرارا قبل الدرس، وراجعوها مرارا بعده واعتمدوا على أنفسكم).
إستمر الشيخ إبراهيم في عمله المنتج والمبدع حتى بداية الحرب العالمية الثانية، وإذ ذاك تضاعفت أهوال الاستعمار، وأطلقت أيدي الحكام العسكريين الإفرنسيين في الجنوب فعزموا على خنق النهضة، والقضاء على معاهدها ورجالها. فشمروا لتهديم والانتقام، وشمر أنصار النهضة للدفاع والبناء. وكانت معارك طاحنة استمرت زمانا طويلا، كان الله فيها مع حزبه وأوليائه. فلم تعصف تلك الأهوال بمعهد الحياة، بل زادت في نشاطه ورسوخه. فسارت أشواطا واسعة في أيام الحرب.
لقد حلف الحاكمان العسكريان الطاغيان في (غرداية) وحلف أذنابهما الأيمان المغلظة على القضاء على نهضة ميزاب ورجالها، وأن يشنقوا زعيمها الشيخ بيوض أو يسجنوه أو ينفوه. فاستخدم الاستعمار أذنابه في الجنوب لكتابة التقارير السوداء ضد النهضة وزعيمها الشيخ بيوض. فطالبوا بنفيه أو سجنه، وبإبطال المدارس العربية، وكل ظواهر النهضة. فاستند الحكام العسكريون إلى هذه التقارير، فحكموا على النهضة بأنها حرب ضد الدولة، وعلى زعيمها الشيخ بيوض بأنه عدو فرنسا اللدود. وأن له يدا مع الألمان. فعزموا على القبض عليه. ولكن الله سخر للنهضة حماة مخلصين دهاة من أبنائها، فدافعوا عن النهضة وزعيمها، وفضحوا الحكام العسكريين وتواطؤهم مع أذنابهم أعداء النهضة الأقدمين.
وخافت الولاية العامة عاقبة المساس بالنهضة وزعمائها. إن نهضة ميزاب هي جزء من نهضة الجزائر، والشيخ بيوض أحد زعمائها. سيثور أولئك الزعماء عليها، ويثور ميزاب والجزائر. وهي ضعيفة قد احتل الألمان ديارها وأخذ بخناقها فتبصرت الولاية العامة، فكفكفت من شرور الحكام العسكرين في ميزاب، وأمرتهم بالحكمة في حربهم، فلم يستطع الحكام العسكريون اعتقال الشيخ بيوض. فأكدوا ما سبق أن فرضوه عليه في سنة 1938 م. من الإقامة الجبرية في بلد القرارة. وحرمت زيارته على مدن ميزاب، وشددت عليه الرقابة. فاستقر الشيخ بيوض، وانقطعت عنه الأشغال الخارجية التي كانت تزاحم عمله في المعهد، أو تقطعه عنه. فصار وقته كله للمعهد. ووجد الطلبة من وقته وجهوده كل ما يريدون، ونشطت الدراسة في المعهد، حتى إذا ما انتهت الحرب سنة 1944، وضعت فرنسا - ديغول - سياسة جديدة للجزائر تعتمد على قليل من اللين وكثير من الخبث والدهاء والمكر. وهذه السياسة شر من الغلظة والاستبداد والجبروت.
واستغل زعماء النهضة وعلماؤها هذا المناخ، فانطلق الشيخ البشير الإبراهيمي - رئيس رابطة العلماء بعد وفاة ابن باديس – وهو يقود نشاط جمعية العلماء في قوة وإخلاص ومهارة. وكان يجوب البلاد ويهزها بخطبه ودروسه ومقالاته في البصائر. وفعل ذلك رجال جمعية العلماء كلهم (وخاصة الطيب العقبي وأحمد توفيق المدني). وكذلك فعل الشيخ بيوض، الذي انطلق من عقال الإقامة الجبرية، فجاب أنحاء الشمال والجنوب، يهزهما بخطبه ودروسه، ويضع الخطط المحكمة مع رجال النهضة للجهاد المقبل.
كثرت أعمال الشيخ بيوض الاجتماعية، وتعددت ميادين جهاده، فهذه وفود من رجال النهضة من مدن ميزاب تترى عليه للتفاوض في الجهاد الذي يقومون به. وهذه أعباء جمعية الحياة التي يرأسها، وذلك مجلس العزابة الذي هو رئيسه. إن أغلب مشاكل المدينة ترفع إليه. وهذه أسفاره للدعاية ولمصالح النهضة الأخرى. وهذا حزب المعارضين وقد تكتلت صفوفه، واشتدت معارضته، وانضم إليهم أذناب الاستعمار من (القواد والباشآغاوات) وغيرهم. واتحدوا جميعا مع المستعمرين العسكريين في محاربة النهضة. فنازلهم حزب الإصلاح جميعا بقيادة الشيخ بيوض، فوقعت أعنف المعارك الاجتماعية والسياسية معهم في هذه العهود. لقد كثرت فروض الشيخ فلم يبق للمعهد من وقته إلا القليل. وجاءت ضرورة أخرى تهرب منها كل التهرب، فأرغمه الواجب على الخضوع لها. وهو دخوله في المجلس الجزائري نائبا عن وادي ميزاب، فانقطع عن التعليم في المعهد، وحل أبناؤه النبغاء محله.
صدر الدستور الجزائري الذي قضى بإنشاء المجلس الجزائري في 20 أيلول - سبتمبر - 1947. وكان المستعمرون قد أحسوا بكنوز الصحراء الجزائرية، فعزموا على التمسك بالصحراء، وقطعها عن الشمال. وكانوا يوقنون بثورة الشمال عليهم. إن مقدماتها ودخانها قد شاهدوه في حوادث سطيف في 8 أيار - مايو - سنة 1945. وفي عيون كل الجزائريين التي تشتعل فيها النيران. وقالوا: (إن الصحراء لا جبال فيها تصلح للثورة، فهي المكان الآمن لهم في الجزائر، وكنوزها هي الأثداء الغزيرة التي ترويهم. لقد شبعوا من خيرات الشمال فيجب أن يتخموا من كنوز الجنوب أيضا. إن استقرارهم في الصحراء يجعلهم يقطعون عن الدولة الجزائرية التي ستنشأ في الشمال غذاءها من الصحراء فتموت هزالا. أو تظل ضعيفة تخضع لهم وتسير في ركابهم. على أن استقرارهم في الصحراء، وإنشاء دولة إفرنسية فيها يمكن من القضاء على ما يمكن أن يناله الشمال من استقلاله بثورته. سيحيكون له الدسائس ويخلقون له المشاكل، ويحفرون له الهوى التي يقع فيها. إن الصحراء هي اللقمة السائغة، وهي الدار الآمنة لهم في المغرب، فيجب التمسك بها، ويجب التمهيد لذلك بالقضاء على كل نهضة فيها. وكانت نهضة وادي ميزاب التي دخلت شبابها تقض مضاجعهم، ويرون فيها حتوفهم فعزموا على القضاء عليها).
وعين الاستعمار للمجلس الجزائري أذنابه، وجعل للصحراء فيه نوابا من الضعفاء أو من الأذناب وعزم أن يجعل نائب ميزاب في المجلس أحد أذنابه الكبار الذين ينصرون أهواءه فيطالبون بفصل الصحراء عن الشمال، وبالقضاء على النهضة ورجالها فيجد الاستعمار مستنده وحجته، فيبلغ كل أغراضه. ورأى رجال النهضة في ميزاب هذا الخطر الذي تستهدف له الجزائر، والنهضة التي هي روح الجزائر ورأس مالها الكبير، فهبوا جميعا لدرئه، وإفساد خطة المستعمرين. فكان الله معهم، فاستمالوا بعض رجال الحكم في فرنسا وفي الجزائر بالوسائل المغرية، والأساليب السياسية البارعة، وأروهم عاقبة إرغام الميزابيين على نائب لا يرتضونه. فأخذوا وعدا من الولاية العامة أن يكون الانتخاب حرا في ميزاب، فتمسك رجال النهضة بهذا الوعد، وأفادوا منه كل الإفادة، واستقدموا غداة يوم الانتجاب 4 نيسان - إبريل - 1948 مراقبين شرعيين يراقبون الانتخابات في ميزاب، وبعض الصحفيين الإفرنسيين. وبذلوا في ذلك المال الكثير. ونظموا صفوفهم، وخاضوا معركة الانتخاب للمجلس الجزائري في نشاط ويقظة ودهاء واتحاد ففازوا بما أرادوا.
رأى رجال النهضة وحزب الإصلاح أن المعارك بينهم وبين الاستعمار في المستقبل ستكون معارك ديبلوماسية خطيرة! إنها مسألة فصل الصحراء عن الشمال، وما يجب أن يفعلوه لتظل الصحراء جزءا من الشمال، فلا بد من نائب لهم في المجلس الجزائري، تتوافر له الكفاءة والقدرة من أجل إحباط المخططات الاستعمارية. ووقع اختيار الجميع على الشيخ بيوض. غير أن الشيخ رفض العرض، وأظهر تمسكه بميدان العلم الذي خلق له، وذاق حلاوة النجاح فيه. غير أن أهل ميزاب ورجال نهضتها ما زالوا به حتى أقنعوه بقبول المنصب، حتى لا تترك ثغرة ينفذ منها الاستعمار وأذنابه. ونزل الشيخ إلى ميدان الجهاد الجديد، وقاد معارك كبرى ضد فصل الصحراء عن الشمال استمرت ست عشرة سنة كاملة (من سنة 1947 إلى سنة 1962) وكان رجال النهضة في ميزاب كلهم جنده وأنصاره في معاركه السياسية الكبرى. فالتفوا حوله، ورفعوا صوتهم معه ينادون بإباء الصحراء وهم يستنكرون فصل الصحراء عن الوطن الجزائري - وبقي الشيخ بيوض على اتصال وثيق (بمعهد الحياة) لم تصرفه عن الاهتمام به متاعبه السياسية. وكان الجميع يشعرون بوجوده دائما بينهم، رغم ابتعاده بجسده عنهم. وكان لهذه الرابطة القوية دورها في دعم (معهد الحياة) واضطلاع أفراده وتلاميذه القدامى بواجباتهم الدينية والوطنية في كل أنحاء الجزائر.
لقد انبث مئات من خريجي (معهد الحياة) في بلاد الشمال بالجزائر، ففي كل المدن الكبرى بالشمال، وفي كثير من القرى، تجد تلاميذ معهد الحياة، وأثرهم في الشمال كأثرهم في الجنوب. كانوا دعاة تملؤهم الحماسة للعمل من أجل الدين الإسلامي ونشر اللغة العربية، وكانوا نماذج تحتذى في الأقوال والأعمال. وقد جاهدوا باستمرار لدعم كل الحركات الوطنية في الشمال، فوقفوا مع (جمعية العلماء) بكل ما أوتوا من قوة. ودعموا حزب الشعب وجماعة البيان. ولما اندلعت الثورة، كانوا في الشمال والجنوب جندها المخلص وأنصارها الثابتين. وكانت دكاكينهم التجارية ومساكنهم في مدن الشمال، معاقل للثورة، ومستودعا لأسرارها وأموالها، وملتقى لضباطها وملاجىء لثوارها. وكانوا يعملون على دعم الثورة وتنفيذ مخططاتها بكفاءة عالية وإيمان صلب، ويعتبرون جهادهم في الثورة هو جهاد في سبيل
الله، يقومون به لوجه الله، وواجبا وطنيا يرضي ضميرهم الحر وحبهم للوطن وإخلاصهم لدين الله. وكانوا لثقافتهم، ودهائهم الموروث، قادرين على خداع المستعمرين وإخفاء حقيقتهم الثورية، وكان من المحال قيام الثورة في العاصمة لولا ما قاموا به من جهد، وما قدموه من تضحيات مستفيدين في ذلك من منازلهم ودكاكينهم المنتشرة حتى في وسط الأحياء الأوروبية. حتى إذا ما انتهت الثورة بالنصر، انصرفوا إلى متابعة أعمالهم، والإسهام في بناء المجتمع الجديد بالقدر الذي تطلبه الثورة منهم.
الهوامش:
(1) نهضة الجزائر الحديثة (محمد علي دبوز) ص 43 - 44 و34 و158 - 160.
(2) يمكن انتقاء نموذج لما كانت تنشره (مجلة الشباب) في موشح لمؤلفه (أحمد ابن عمر الشيخ أحمد) تم نشره في العدد 246 الصادر يوم الخميس 11 جمادى الأول 1355 هـ (13 تموز - يوليو - 1936).
نداء إلى أرباب الحياة
يا شباب القطر يا أهل الرشاد ... هذه أوطاننا فيكم تنادي
للصلاح للكفاح للجهاد ... فأجيبوها بجد وعناد
وانهجرا نهج بني ماضي العصور
أيها الأقوام اقضوا عمركم ... في سبيل الدين فهو نهجكم
في سبيل العلم وهو نوركم ... في سبيل الشعب وهو مجدكم
لتعيشوا في سرور وحبور
اسلكوا نهج الرعيل الأول ... وألبسوا لامته للقسطل
وأبيدوا السفهاء العذل ... وارتقوا فوق السماك الأعزل
أنتم في الأرض نور فوق نور
(3) نهضة الجزائر الحديثة (محمد علي دبوز) ص 39 - 43 و 50 - 51.
(4) المرجع السابق: 26 و116 - 117 و64.