ذكريات لا تنسى مـع البـصائر
بقلم: أ.د. مولود عويمر-
تعتبر جريدة “البصائر” أقدم الجرائد العربية في الجزائر، ظهرت في ديسمبر 1935، وتعطلت ثلاث مرات لأسباب عديدة، ثم عادت للظهور في سلسلتها الرابعة في عام 2001. ومنذ ذلك التاريخ لم تتوقف عن الصدور، ومازالت إلى الآن شامخة تصدر كل يوم الاثنين بصفحاتها الأربعة والعشرين.
وهكذا، فإن الجريدة ساهمت عبر تاريخها المديد في تغذية العقول بالعلم والمعرفة والأخلاق، وتحرير النفوس من الاستعمار والاستعباد والاستبداد. فقد قضت حياتها في قلب المعترك الثقافي والفكري والسياسي، وارتقت في سماء الصحافة بفضل أقلام كُتابها المرموقين في طبعاتها المختلفة، بلغتهم السليمة ونظرتهم البعيدة، وعلمهم الدقيق، وتحليلهم العميق وإخلاصهم المتين.
باختصار، قد تداولت على رئاسة تحريرها لحد الآن السلسلة الذهبية التي تتشكل من الأساتذة: الطيب العقبي، ومبارك الميلي، ومحمد البشر الإبراهيمي، وأحمد توفيق المدني، وعلي مغربي، وعبد الرحمن شيبان، وعبد الرزاق قسوم، وعمار طالبي، ومولود عويمر، وتهامي مجوري.
ولا شك أنه كان لكل رئيس تحرير تجربته الخاصة، وطريقته في العمل، وأولوياته في الإنجاز، والمردود الذي حققه. وقد نجح كل واحد منهم بدرجات متفاوتة في مهمته التي تتمثل في المحافظة على الدين وخدمة الوطن وتقدم المجتمع وتنمية ثقافته ونشر القيم الإنسانية.
وفيما يخصني، فحينما أتحدث عن “البصائر” تتزاحم الأفكار وتجيش العواطف، ذلك أنها خلفت في النفس أروع الذكريات قارئا وكاتبا وباحثا ثم رئيسا لهيئة تحريرها. وأقول بشكل مختصر جدا أن هذه الذكريات بدأت في عام 2001 مع وصول عدد “البصائر” من الجزائر إلى بيتي في مونتراي في ضواحي باريس. فكل يوم الخميس أجد العدد الجديد في صندوق البريد فأسرع إلى تصفح أوراقه ثم قراءة المقالات والحوارات.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإنني قررت المساهمة فيها وعدم الاكتفاء بالقراءة خاصة في بعض الجوانب التي قدرت أن الجريدة في حاجة ماسة إليها. وهكذا، فكنت أزوّد “البصائر” بالمقالات التاريخية والفكرية فضلا عن تغطيات للندوات والملتقيات العلمية التي كانت تنظم في العاصمة الفرنسية حول القضايا العربية والإسلامية.
على أنه يجب أن أذكر هنا بأن مقالاتي كانت تحظى دائما بالاهتمام والسبق في النشر وبدون نقصان أو زيادة. وما يهمني هنا من هذه التجربة هو أنني ربطت صلة قوية مع رجال الفكر والإصلاح في الجزائر، فعندما زرت البلد استقبلوني في كل مرة بحفاوة، وحدثوني عن تلك المقالات التي كنت أساهم بها في الجريدة. ومن هنا، عرفت مدى انتشار هذه الجريدة في البلد وإقبال القُراء على مطالعتها والدوام على قراءتها.
ولا بأس أن أسرد هنا قصة طريفة لها صلة بالموضوع. كان بعض شيوخ الجمعية يتصوروني شيخا في سنهم أو أقل بقليل. أذكر منهم على سبيل المثال العالم الشيخ محمد الصالح رمضان، فلما التقيت به للمرة الأولى وعرّفته بنفسي، قال لي مباشرة: هل أنت ابن الكاتب الدكتور مولود عويمر؟ ضحكت قليلا، ثم قلت له: بل هو الدكتور مولود عويمر بشحمه وعظمه! فاعتذر لي الشيخ الجليل، وقال لي أنا أقرأ ما تكتبه في “البصائر”، وحسبتك دائما شيخا جاوز الستين وليس شابا في الثلاثين! وشجعني بعد ذلك على مواصلة الكتابة والإبداع الفكري.
بعد العودة إلى الجزائر والاستقرار فيها في سنة 2004، واصلت كتاباتي في جريدة “البصائر”، وزرت باستمرار مقرها الكائن في حي الرويسو، وتواصلت مع أعضاء هيئة تحريرها وكُتابها المعروفين: الشيخ عبد الرحمن شيبان، والشيخ محمد الأكحل شرفاء، والشيخ محمد الصالح الصديق، والشيخ أحمد شقار الثعالبي، والدكتور عبد الرزاق قسوم، والأستاذ محمد الهادي الحسني، والأستاذ عبد الحميد عبدوس، والدكتور محمد دراجي، والدكتور محمد بن سمينة، والأستاذ تهامي مجوري، والشيخ كمال أبو سنة…الخ.
ثم توثّقت هذه العلاقة بعد أن كلفني أستاذنا الجليل الشيخ عبد الرحمن شيبان في عام 2008 بالأمانة الوطنية للتراث والبحث العلمي، وما يستدعي ذلك من الحضور المستمر إلى مقر الجمعية وما يتطلبه من العمل المشترك. ولقد مكنني هذا التقارب العلمي بيننا أن أستوعب الكثير من تجاربهم المثمرة.
وفي ديسمبر 2013، اقترح عليّ الدكتور عبد الرزاق قسوم رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين منصب رئيس التحرير. ولا أخف على القارئ أنني طلبت منه مهلة للتفكير التي دامت شهرين. ذلك أنني اعتبرتها مهمة صعبة رغم خبرتي في مجال الإعلام الثقافي التي اكتسبتها في فرنسا لما كنت محررا في المجلة الفكرية المعروفة “رؤى”، ولكن ترددي كان لأسباب أخرى منها: ارتباطي بالعمل في الجامعة ومتطلبات البحث العلمي والالتزامات العائلية.
وفي نهاية العام، عينت أمينا وطنيا للإعلام والثقافة لهذه الجمعية الإصلاحية في مؤتمرها السنوي، وقبلت العرض السابق لرئاسة التحرير، وتوكلت على الله.
لقد كنت دائما مقتنعا بأن البناء لا يكون فعالا أو ناجعا إلا إذا توفرت جملة من الشروط، ومنها العمل في فريق منسجم مؤمن بالتعاون المثمر بين أعضائه؛ لذلك اجتهدنا قدر المستطاع مع الأخوين كمال أبو سنة وعبد القادر قلاتي (هيئة التحرير) على تطوير الجريدة شكلا ومضمونا.
لقد استكتبنا الأقلام الجديدة وأعددنا الملفات التي درست موضوعات أساسية ونبهت إلى أهمية العديد من المسائل التراثية وعرّفت بالفكر الإصلاحي المعاصر وأعلامه، وأجابت عن أسئلة حول القضايا الراهنة. ولا شك أن هذه الجهود لم تذهب سدى إذ أصبحت هذه الملفات مرجعا للطلاب والباحثين.
ولقد اهتمت دائما بتاريخ جريدة “البصائر”، ونشرت في هذا المجال عدة دراسات. ولما اتصل بي المجلس العلمي لجامعة أدرار في صيف 2014 للمشاركة في عضوية لجنة مناقشة رسالة الماجستير التي أعدتها الطالبة نجاة شنتير حول “الواقع الاجتماعي والثقافي في الجزائر من خلال جريدة البصائر 1935-1956″، استجبت وقبلت الدعوة رغم بعد المسافة وكثرة الأشغال، وذلك تدعيما لكل جهد مخلص يبذل في سبيل التعريف بهذه الجريدة العريقة والترويج لرسالتها الإصلاحية، وكذلك عرفانا بفضلها الكبير عليّ وعلى كثير من العلماء والمثقفين الجزائريين الذين تتلمذوا في مدرستها الراقية.
وعلى الرغم من انتشار الوسائل الحديثة واستقطابها للناس، وغياب الصحافة الثقافية في الجزائر والتوقف الحاصل في استيراد المجلات الثقافية العربية التي كان لها رواجا واسعا في بلادنا في العقود الماضية، فإن جريدة “البصائر” استطاعت دائما أن تحافظ على حيويتها وقدرتها على التأثير في الرأي والتنوير الفكري والتغيير الاجتماعي.
ومن هنا، نتمنى أن يستفيد الفريق الجديد في جريدة “البصائر” من تراكم الخبرات، وتستمر في القيام برسالتها الإصلاحية، وتتجاوز الواقع وتتفاعل مع تحدياته، وتشارك في تغييره نحو مستقبل أفضل للعباد والبلاد.