الدكتور عمار الطالبي للتبيان: أمتنا بحاجة إلى مشروع حضاري يحفظ وجودها ويقودها من التخلف إلى التقدّم
حاوره أ.د. مولود عويمر-
التقينا بالدكتور عمار طالبي فكان معه الحوار التالي الذي تحدث فيه عن مساره العامر، وأعماله المتعددة.
في البداية نريد أن نعرف ما هي الأحداث والشخصيات التي أثرت فيك أكثر من غيرها في طفولتك وفي محيطك العائلي ؟
نشأت في قرية من قرى الأوراس تسمى "جلّال" تابعة اليوم لدائرة ششار، وهي قرية اشتهرت بقراءة القرآن، وبالفقهاء، والأعيان الذين يعنون بسكان هذه القرية وما يجاورها، برعاية الحياة الاجتماعية، والأخلاقية، وكتبوا في ذلك ميثاقا، موقعا يضبط السلوك، والمخالفات، وجزاءها.
وعندما ضُرب حاكم خنشلة عند زيارته للقرية، ببندقية صيد، ولكنه نجا منها، وأرسل فريقا من الشرطة السرية، وقبضوا على بعض الأفراد، فكانوا يعذبونهم وهم معلقون بحبال، رؤوسهم إلى أسفل، وكنت في بستان لنا بعيد، ومع ذلك كنت أسمع صياح هؤلاء المعذبين، وكان صياحا غريبا فكنت أسمعه في فزع هزّ كياني وروّعني أيما ترويع لم أفزع وأروع بمثله في حياتي وأنا طفل يانع.
وجاءت الحرب العالمية الثانية، وضاقت بنا سبل العيش، فلا نجد غذاء نطعمه، فكان الأب يدبر لنا شيئا من التمر وبعض الحساء، لا يغني من جوع لأنه ماء به شيء قليل من الدقيق، فاضطررنا للرحيل من القرية إلى ضواحي خنشلة.
والذي أثّر في حياتي الدراسية أيما تأثير إنما هو جدي لأبي محمد رحمه الله رحمة واسعة، وأذكر أنه أول ما تلقيت عنه سورة الناس، شعرت بهزّة شديدة في نفسي كالذي يتلقى قولا ثقيلا أحدث انقلابا في نفسه، وهو الذي حرص على دخولي المدرسة القرآنية أشد الحرص ومتابعة دراستي.
واصلت دراساتك في جامع الزيتونة بتونس وجامعة القاهرة بمصر. كيف كان أثر الجو الثقافي السائد آنذاك في تونس ومصر؟ ومن هي الشخصيات العلمية التي كانت لها تأثير بارز في حياتك العلمية؟
بعد الحرب العالمية الثانية انتقلت إلى تونس مشيا على الأقدام سرّا ليلا من سوق أهراس فوصلت فجرا إلى الكاف بتونس، ولا أملك أية وثيقة رسمية، فانتقلت إلى عاصمة تونس على متن قطار، وكتب لي أن أشارك في امتحان الدخول إلى الزيتونة، فنجحت والحمد لله في الكتابي والشفوي وحفظ القرآن. وأكثر من أثر في حياتي العلمية الشيخ الفاضل بن عاشور رحمه الله وكان شخصية لامعة، تشد إليه شدا إذا أخذ في إلقاء محاضرة أو درس، وحضرت مرة إلى الخلدونية وهو يلقي محاضرة عن الجزائر من جملة محاضرات عن حواضر العالم الإسلامي وأذكر أنه قال: "إني دخلت الجزائر شرقا وغربا، وأنت إذا زرت عاصمتها حسبت أنها مدينة فرنسية، ولكن إذا توغلت في أرجائها الأخرى وجدت شعبا ذا أصالة في إسلامه وعروبته وأدركت حقيقته التي لم تتغير أصولها ومقوماتها"، وكان شيوخ الزيتونة يحترموننا نحن الطلبة الجزائريين ويهتمون بنا، وفي عهد العلامة محمد الطاهر بن عاشور في توليه مشيخة الجامع الأعظم وفروعه أي جامع الزيتونة عرفت الزيتونة تطورها وتوسعها وإدخال العلوم العصرية في برامجها.
وفي القاهرة كتب لي أن أسجل في كلية الآداب جامعة القاهرة قسم الدراسات الفلسفية والنفسية، وحضرت أواخر محاضرات طه حسين، ومن الأساتذة الذين تأثرت بهم الدكتور عثمان أمين والدكتور أحمد فؤاد الأهواني، والدكتور زكي نجيب محمود وكان في أشدّ خوضه في الفلسفة الوضعية إذ ذاك، والدكتور يوسف مراد في علم النفس، وتأثرت كذلك بالشيخ أبو زهرة وكان بقسم الشريعة بكلية الحقوق جامعة القاهرة.
وكان الأستاذ مالك بن نبي في القاهرة منذ 1956 فعرّفني به الأخ معمّري من الجزائر وهو الآن بمدينة البليدة وكان مديرا للشؤون الدينية حفظه الله، وتعلمت منه ما لم أتعلمه بجامعة القاهرة فكرا، وتحليلا منهجيا، في ندوته الأسبوعية بمنزله.
حين اندلعت الثورة وكنت يومها طالبا كيف تفاعل الطلبة الجزائريون مع أحداثها؟ وحين عدت بعد الاستقلال إلى أرض الوطن واشتغلت بالتدريس في جامعة الجزائر، وأشرفت على تكوين جيل من العلماء و الباحثين. حدثني عن هذه المرحلة بشيء من الاختصار.
عندما اندلعت الثورة الجزائرية العظمى كنت في تونس عضوا في اتحاد الطلبة المسلمين الجزائريين فرع تونس مسؤولا عن الشؤون الثقافية، وقبلها كنت في خلية من خلايا حزب الشعب منذ 1953، وفي سنة 1954 دخلنا في خلية أخرى من خلايا جبهة التحرير، وكان الطلبة يتشوقون إلى المشاركة في الثورة والدخول إلى الجزائر وإلى جبالها، وسجلت الجماعة الأولى أسماءها، وانخرطوا في جيش التحرير، وكانت أحداث وأحداث يطول الحديث عنها، وكنا نتدرب على الأعمال الفدائية لدى أحد الإخوة التونسيين الأستاذ الطاهر قيقة رحمه الله.
وعندما تم الاستفتاء واستقل وطننا العزيز أمرتنا الحكومة المؤقتة بالدخول إلى العاصمة، وكلفنا بتدريب المعلمين الذين يفتحون أول سنة دراسية في عهد الاستقلال في مدرسة المعلمين ببوزريعة، في عدة دورات يأتيها المعلمون المتدربون من كل أنحاء الجزائر، وتكونت لجنة إعداد الكتب الدراسية في اللغة العربية وأعضاؤها هم عبد الرحمن الجيلالي وعبد الله شريط والهادي السنوسي، وعمار الطالبي، وحنفي بن عيسى.
وفي نوفمبر 1963، عينت مدرسا بجامعة الجزائر في عهد عميد كلية الآداب جون لاسيس وهو فرنسي ثم عُيّن سعد الدين ابن شنب، وكنت ممن أنشأ قسم الفلسفة باللغة العربية، وتوليت رئيس قسم الفلسفة، وأشرفت على عدة رسائل في الماجستير والدكتوراه، وممن تولى مدير التعليم العالي في ذلك الوقت أستاذنا مالك بن نبي رحمه الله وكان يقوم بمحاضراته في الحضارة، والثقافة والإيديولوجية مقاوما للمدّ الماركسي والتروتسكي الذي سيطر على الساحة السياسية.
أنت عضو في عدة هيئات علمية في الجزائر وفي الخارج. كيف تقيّم واقع البحث العلمي في العالم العربي والإسلامي؟
عينت في عدة منظمات منها مجمع اللغة العربية بالقاهرة منذ 1982، ومؤسسة آل البيت للفكر الإسلامي بالأردن، والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين عضوا مؤسسا، وعضو مجلس أمناء المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بالكويت، وعضوية أكاديمية المملكة المغربية، وعضو لجنة التعريب في الجزائر، وعضو اللجنة الوطنية لمعادلة الشهادات الجامعية، وعضو لجنة محو الأمية منذ 1963.
أما البحث العلمي في العالم العربي فلم يأخذ طريقه المبدع في الجامعات ومراكز البحوث، ولا يخصص له من التمويل بما يكفي بالنسبة لما يخصص في الدول الأخرى من ميزانيات ضخمة، والوضع في هذه البلدان المتفجر، المتدهور لا يسمح ببعث البحث المثمر الذي ينهض بالأمة من التخلف الفظيع الذي ما يزال يجثم على العقول والنفوس.
أستاذنا أنت من المهتمين بتحقيق التراث الجزائري والعربي الإسلامي، كيف بدأت أولى خطواتك في مجال تحقيق المخطوطات، وهل أنت راض عن الواقع الثقافي في الجزائر؟
يرجع اهتمامي بالتراث العلمي وتحقيقه إلى الأستاذ الدكتور أحمد فؤاد الأهواني رحمه الله أستاذ الفلسفة في جامعة القاهرة فقد كلفني بنسخ بعض النصوص من كتاب في الرياضيات بدار الكتب المصرية وهو مخطوط ودفعني إلى ذلك أيضا ما قام به الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله من نشره لكتاب "العواصم من القواصم" اعتمادا على نسخة واحدة نقلها من مخطوط بجامعة الزيتونة نبهه إليها شيخه محمد النخلي.
وأول ما ألّفت في حياتي العلمية، تراث ابن باديس، اهتممت به منذ 1964 وطبع أول طبعة في سنة 1968 بمقدمة كتبها أستاذنا مالك بن نبي رحمه الله، وواصلت العمل في هذا الميدان وأنجزت عدة أعمال لا يتسع هذا اللقاء لسردها.
أما الثقافة في الجزائر فهي غالبا في جدب وقحط إذا استثنينا ما نشرته وزارة الثقافة من مؤلفات جزائرية قديمة وحديثة، والعناية بالثقافة تأتي في آخر سلم مجالات الحياة في بلادنا.
متى تفضل الكتابة وكيف تكتب؟ وهل تؤمن بالكاتب الموسوعي في عصر التخصص؟
أفضل الكتابة صباحا بعد الإفطار، وإعداد الأفكار الرئيسية ثم تحريرها وغالبا أكتب المسودات ولا يكون لي وقت لتبييضها. وعصرنا يصعب فيه أن يكون الكاتب موسوعيا لاتساع المعارف وضخامتها، ووقت الإنسان محدود، ومجال المعرفة غير محدود، ومع ذلك يحسن بالمثقف أن لا يحصر نفسه في نطاق ضيق لايتعداه بل يحسن به أن يكون مطلعا على أهم ما يستجد من المعارف، والوسائل اليوم تسمح بذلك بيسر إذا توفرت الهمة.
هل يوجد اليوم مشروعا حضاريا لنهضة العالم العربي؟ وكيف تقيم مشروع جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ومنهجها في الإصلاح والنهوض الحضاري؟
لا يوجد إلى اليوم أي مشروع حضاري واضح بل المشروع الذي نراه في الواقع هو مشروع التقسيم، والتبعية الفظيعة للآخرين، وغابت مسؤولية أهل الثقافة، وانحازوا إلى أنفسهم أو إلى خدمة من يرونه في مصلحتهم من أهل السياسة، وأصبح أغلبهم في عزلة عما يجري في الواقع، فلا تأثير لهم في مجراه وصيرورته.
وجمعية العلماء كان لها مشروع ثقافي يحفظ للأمة وجودها المهدد بالسيطرة الاستعمارية في ظروف في غاية الصعوبة ولكن يمكن القول بأن الظروف الحالية تغيرت، واستجدت أحوال وأهوال تتطلب التفكير في تجديد منهجها ووسائل تحقيق غاياتها، في ظروف تتحدّانا في الداخل والخارج تقتضي يقظة ودرسا لوضع استراتيجية قريبة المدى وبعيدة المدى، تأخذ في الاعتبار معطيات الواقع لتغيير مساره بنظرة علمية شاملة لجوانب هذه المعطيات المختلفة.
أنت شخصية علمية ووطنية بارزة في الجزائر والعالم الإسلامي ومن حق الأجيال عليك أن تعرف مسارات تاريخية عايشتها وكنت شاهدا عليها فمتى تكتب مذكراتك؟
إن أطال الله في عمري مدة بعد الفراغ من "مختصر تفسير التحرير والتنوير" أنوي أن أحرر مذكرات تذكر الناس ببعض ما عشته وعاصرته من أحداث ومشكلات عصرنا هذا وفي بلدنا هذا العزيز.
كلمة ختامية دكتور تقولها للقراء من أبناء جمعية العلماء خاصة وللجزائريين عامة؟
أوصي أبنائي وإخواني من أعضاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين اليوم أن يزدادوا علما واطلاعا يوميا فإن ذلك غذاء العقول الفعالة التي تؤهل للقيام بالأعمال عن علم في زماننا هذا.
وأتوجه إلى إخواننا من المواطنين الجزائريين أن يفكروا في مصير أمتهم، وفي سبيل خلاصها من التخلف ولا يكون ذلك إلا بالعلم الذي هو اليوم القيمة الأولى في تقدم الأمم وقوتها الاقتصادية والسياسية والدفاعية، والتأثير في المجتمع الدولي، ولا يجوز لنا أن نغفل عن قضية فلسطين والمسجد الأقصى، وعلى الشباب أن يُعدّوا أنفسهم لتحرير الأراضي المقدسة لا بالخطب والبيانات ولكن بالعلم والابتكار لوسائل التحرير العلمية، وما هزمنا إلا من تخلفنا الفكري والعلمي وخاصة العلوم الدقيقة التي غفلنا عنها، وانحصر اهتمامنا بعلوم اللغة والفقه في عصر الانحطاط، وأهملنا علوم الدنيا التي وجهنا إليها القرآن في غير ما آية فهذه العلوم الدنيوية صنوان مع العلوم الشرعية والإنسانية، وكلاهما يؤهل للعزة في الدنيا، والحياة الأبدية في الآخرة. وآخر دعوانا أن الحمد له رب العالمين.